تعاضد الحلفاء:

محددات الموقف الفرنسي تجاه أزمة الجاسوس "سكريبال"

23 April 2018


تُهدد الأزمةُ الدبلوماسية التي نشأت بين بريطانيا وروسيا في أعقاب تسميم الجاسوس المزدوج السابق "سيرجي سكريبال" وابنته بأحد المراكز التجارية جنوب بريطانيا في السادس من مارس الماضي، الأمن والاستقرار الأوروبيين. وتختلف تفسيرات الحادث ما بين اتهام الدول الغربية -وعلى رأسها لندن وواشنطن- للمخابرات الروسية بقيامها بتدبير وتنفيذ عملية الاغتيال بوصف موسكو ضالعةً في عمليات التسميم الكيميائي، في حين تُدافع الدول الحليفة لموسكو عن أطروحة قيام جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) بتنفيذ العملية لضرب صورة روسيا قبل مونديال كأس العالم الذي سيُعقد بها في يونيو القادم.

وفي اختلافٍ مع مواقف التيارين تتخذ الحكومة الفرنسية موقفًا خاصًّا يخضع لاعتبارات معقدة، منها: المصلحة الوطنية، وتضارب مصالح الحلفاء أنفسهم. وعليه، يناقش هذا التحليل الموقف الفرنسي من الأزمة في محاولةٍ لتفسير سلوك صناع القرار في ضوء محددات السياسة الخارجية الفرنسية، والمسارات المستقبلية لموقف باريس في ضوء قراءة الحاضر.

ثوابت باريس

أعلن الرئيس "إيمانويل ماكرون" بشكلٍ واضحٍ في مكالمة هاتفية مع رئيسة الوزراء البريطانية "تريزا ماي" في الساعات الأولى لانتشار الخبر، أن هذه العملية تُعتبر "هجومًا غير مقبول" من الجانب الروسي. وقد تشابهت مفردات الرئيس الفرنسي مع توصيفه للعمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا بوصفها بـ"الهجمات". وبعد إدانة روسيا بشكل مباشر، حيث صرّح وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" بأنه "لا يوجد موقف وسط في مثل هذا النوع من الأزمات"؛ قامت باريس بطرد أربعة دبلوماسيين روس كرد مباشر على طرد موسكو بعض الدبلوماسيين الأوروبيين.

ويأتي رفض باريس للعملية الروسية مبدئيًّا كموقف لا يتجزأ من ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية في الفترة الأخيرة، وهي:

1- التأكيد على حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، وهو موقف حاسم للسياسة الخارجية الفرنسية ظهر بوضوح إبان الهجمات الكيميائية في سوريا، بوصفها من الدول الرائدة في معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية التي دخلت حيّز النفاذ عام 1997. فالموقف الفرنسي يأتي من زاوية اهتمام باريس بإظهار التزامها بالمعاهدات الدولية التي أقرتها حفاظًا على صورتها كدولة تحترم القانون والشرعية الدولية. وكثيرًا، ما تُظهر فرنسا في العديد من الأزمات أن الدافع الأخلاقي يُشكِّل بُعدًا هامًّا في سياستها الخارجية حتى لو كانت مواقف الحلفاء مغايرة. فعلى سبيل المثال، رفض الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" الاشتراك في التحالف الدولي ضد العراق عام 2003 على الرغم من اشتراك الحلفاء في الحرب، انطلاقًا من دوافع قانونية بعد رفض مجلس الأمن الاشتراك في التحالف.

2- البُعد الأوروبي للدور الفرنسي، إذ لا يُمكن أن ينسى "ماكرون" أن الفرنسيين قاموا بانتخابه لأنه كان المرشح الوحيد صاحب الاقتراب الأوروبي التعاوني الشامل للتغلب على مشكلات القارة والمشكلات الداخلية. فالرئيس الفرنسي حريص في سياسته الخارجية على التقارب مع الرؤية الألمانية بوصف برلين الحليف الرئيسي له بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويأتي التقارب الفرنسي-الألماني بناء على قوة الدولتين الاقتصادية بوصفهما الأكثر تأثيرًا بين دول الاتحاد، كما تلتزم الدولتان بالتزام أخلاقي تاريخي كونهما صاحبتي مبادرة إنشاء التجمع الأوروبي للفحم والحديد منذ 1951. وبالنظر للموقف الألماني، نجد أن وزير الخارجية "سيجمار جبريال" صرّح بوضوح بأن المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" تدين بشدة "الهجوم" الروسي على "سكريبال"، مشيرةً إلى أنها ستأخذ نتائج التحقيقات البريطانية عنوانًا للحقيقة. وتستشعر الدولتان تنامي قوة روسيا كفاعلٍ يأخذ خطوات عملية منفردة للدفاع عن مصلحتها الوطنية كما فعلت في الأزمة الأوكرانية والسورية. وقد تم تدعيم هذا البعد الأوروبي بصورة كبيرة في أعقاب انتخاب "ماكرون" لكونه أتى بمشروع أوروبي مناهض لدعوات الانعزال التي دعت إليها منافسته "مارين لوبان" (رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية).

3- سياسة الردع الاستباقي، حيث أعلن وزير الخارجية الفرنسي أن ما حدث في بريطانيا لو لم يتم التعامل معه بشكل حاسم وجماعي فإنه قد يتكرر في أيٍّ من العواصم الأوروبية الأخرى. وقد استخدمت تلك السياسة فيما قبل عدة مرات في السياسة الخارجية الفرنسية منذ سياسة المقعد الفارغ التي اتبعها "شارل ديجول" عام 1962 لعدم تضخيم الأزمة الجزائرية، واستخدمت حديثًا إبان الهجمات الإرهابية في باريس بتشكيل لجنة مكافحة إرهاب بالتعاون مع الدول الحدودية في إطار استباق الأخطار الإرهابية قبل حدوثها.

وقد دفعت تلك المحدِّدات فرنسا لمعاملة روسيا بالمثل، وطردت -برفقة أربع عشرة دولة أوروبية- مجموعة من الدبلوماسيين الروس في ظل عدم استبعاد مزيدٍ من الإجراءات التصعيدية. 

وبناءً على محددات الموقف الفرنسي الحالي يمكننا استخلاص نتيجة هامة، مفادها أن الموقف الفرنسي الصارم ضد روسيا لا ينبع من كرهٍ فرنسيٍّ عامٍ للمواقف الروسية، أو من قناعة أيديولوجية في ظل غلبة اعتبارات المصلحة على الاعتبارات الفكرية، وإنما يمكن تفسيره في إطار سياسة أوروبية عامة وقناعات ثابتة تحدد بصفة عامة مواقف السياسة الخارجية الفرنسية.

سيناريوهات محتملة 

هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية للدور الفرنسي في الأزمة الدبلوماسية بين بريطانيا وروسيا على خلفية تسميم "سكريبال"، وهي على النحو التالي:

السيناريو الأول- مسار التهدئة وتخفيف حدة التصعيد: على الرغم من الموقف الفرنسي الحاسم؛ إلا أن باريس فتحت المجال أمام الدول التي ترغب في تخفيف حدة التصعيد وإتاحة المجال لتهدئة الأزمة. فقد أعلن وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" أن زيارة "ماكرون" المرتقبة لروسيا يومي 24 و25 من مايو القادم سيتم إجراؤها وفقًا لجدول الأعمال المتفق عليه مسبقًا. وقد تنتهج فرنسا مستقبلًا مسار التهدئة بمبادرة منها اقتناعًا بأنّ التصعيد أكثر من ذلك ستكون له آثار سلبية على مستقبل العلاقات الفرنسية-الروسية التي تُعتبر علاقات استراتيجية، خاصة في مجال التسلح والطاقة.

وينبع مسار التهدئة بصورة عامة من استراتيجية فرنسية معروفة بمحاولة تحقيق نصر دبلوماسي في الأزمات المعقدة بطرح مسار التهدئة في ظل تفاقم الأزمة قبل أي طرف آخر، حتى إذا لجأت الأطراف المتنازعة لهذا الحل يتم إرجاع الفضل لباريس في تسوية النزاع. وقد اتبعت فرنسا تلك الاستراتيجية مع إيران، فقد كانت من أوائل الدول التي قامت بإرسال وزير خارجيتها لطهران بعد التوقيع على الاتفاق النووي في يوليو 2015. كما انتهجت منهج ضبط النفس مع تصريحات "علي أكبر ولايتي"، مستشار المرشد الإيراني للشئون الدولية، في نوفمبر 2017، التي تصف باريس بالمماطلة، وعدم مساندة إيران بصورة حقيقية.

وتُشير القراءة الأولية للأزمة إلى أنّها تُشكِّل تهديدًا غير مباشرٍ للأمن القومي الفرنسي، ومن ثمَّ من غير المتوقع أن تُبادر فرنسا بانتهاج مسار التهدئة ولو أنها لم تستبعد نهائيًّا هذا المسار لانتهاز أي فرصة لتحقيق نصر دبلوماسي. وسيرتبط مسار التهدئة الفرنسي ارتباطًا وثيقًا بموقف الاتحاد الأوروبي المستقبلي، وموقف ألمانيا على وجه التحديد.

السيناريو الثاني- تجميد الوضع الراهن: لا تشكل تلك الأزمة تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الفرنسي، وإن كانت تتداخل مع مصالح مباشرة لها ومصالح مجموعة من حلفائها. ومن المرجَّح ألا تقوم باريس بمزيدٍ من الإجراءات التصعيدية في حالة عدم وجود تحرك روسي تصعيدي. ويدعم هذا السيناريو تصريح للسفير الفرنسي بالقاهرة "ستيفان روماتيه"، خلال لقاء الكاتب معه أشار فيه إلى أن الأزمة تقف في مرحلة عدم الوضوح، فما زالت التحقيقات الشرطية والإجراءات القضائية في بريطانيا في طور الإعداد والمتابعة، ولا يصحّ تجاوزها من قبل دولة تحترم القانون كفرنسا. وهذا ما يُرجِّح استمرار هذا النهج في ظل اهتمام باريس بالجانب القانوني في علاقاتها الخارجية. وهذا السيناريو ذو طابع مؤقت، ولا يتسم بحس المبادرة، ومن المؤكد أن فرنسا تنتهجه حاليًّا من أجل كسب المزيد من الوقت، والتخفيف من حدة تصعيد الأزمة.

السيناريو الثالث- مسار التصعيد: تخضع احتماليات انتهاج هذا السيناريو لمحدِّدٍ آخر مهم يتمثل في مدى صمود السلطة في باريس أمام الاستفزازات الروسية، سواء كان ذلك على مستوى التصريحات أو على مستوى الإجراءات الفعلية. فقد خصّت وزارة الخارجية الروسية فرنسا في إطار سؤالها حول الأسس التي تعاونت باريس بمقتضاها في الجانب الفني للتحقيقات في هجوم سالزبوري (المدينة البريطانية التي شهدت تسمم "سكريبال") بدعوة من بريطانيا. كما استفهمت وزارة الخارجية الروسية حول قيام فرنسا بإخطار منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قبل الانضمام للتحقيق، بالإضافة للأسس التي بنت عليها باريس زعمها بأن المادة المستخدمة في سالزبوري روسية المنشأ.

ولم تقتصر تلك الاستفزازت على بعض التصريحات التي تقابلها باريس بالتجاهل، ولكنها شملت أيضًا تحركات روسية في المنظمات الدولية لمعارضة بعض التوجهات الفرنسية، خاصة فيما يخص قضايا اللاجئين في معسكر كاليه في شمال فرنسا في المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا، لأن فرنسا تتحرك من موقف قوة يجمع الدول الأوروبية بصورة عامة وتسانده الولايات المتحدة. كما أنه من غير المتوقع أن تقوم روسيا بإجراء تراجعي، أو الاعتراف بقتل الجاسوس المزدوج. ومن ثم يمكن توقع تصعيد فرنسي في أول مناسبة ممكنة، ألا وهي صدور نتيجة التحقيقات من الجانب البريطاني.

خلاصة القول، تتقارب المواقف الفرنسية مع مواقف حلفائها الأوروبيين، ومن خلفهم الولايات المتحدة. ومن المتوقع مستقبلًا أن يكون تصعيد باريس تجاه الأزمة مرهونًا بمواقف بريطانيا وألمانيا ومن قبلهما مواقف الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، وكذلك لإصرار باريس على التمسك بالثوابت العامة لسياستها الخارجية، وإصرار روسي على عدم التهدئة.