سيناريوهات ضاغطة:

هل ترضخ كردستان لتشارك نفط كركوك؟

11 October 2017


بدأت قوات البيشمركة الكردية في إحكام السيطرة على مدينة كركوك منذ يونيو 2014 لتحل محل الجيش العراقي الذي انسحب من مناطق عديدة بالمحافظات الشمالية العراقية، وتزامن هذا مع سيطرة تنظيم داعش على عدد من المدن في هذه المحافظات، كما تمكنت حكومة إقليم كردستان أيضًا من السيطرة على أغلبية موارد المدينة النفطية، باستثناء ثلاثة حقول نفط ظلت تحت إدارة شركة نفط الشمال العراقية.

ومع انقسام إدارة حقول النفط بكركوك بين الطرفين، أصبحت عمليات تصدير النفط من المحافظة محل مساومات بين بغداد وكردستان لما يقرب من عامين؛ إلا أنهما توصلا لاتفاق هشٍّ يقضي باقتسام عوائد الصادرات بينهما في نهاية أغسطس 2016، ولم يلبث أن انهار في أعقاب انفصال كردستان عن العراق بموجب الاستفتاء الذي أجرته في 25 سبتمبر 2017.

تعقد الخلاف:

أدى الاستفتاء إلى تصاعد التوتر بين العراق وكردستان مجددًا، خاصة وأن الأولى قد أبدت استعدادها لتنفيذ ضربات عسكرية ضد الإقليم بالتنسيق مع دول الجوار (إيران وتركيا)، إلى جانب فرض عقوبات اقتصادية عليها حال قيام كردستان بتنفيذ نتيجة الاستفتاء، كما تمسك الطرفان بأحقيتهما في السيادة على كركوك وموارده النفطية، ولم يستبعد أي منهما استخدام القوة في سبيل الحفاظ على المدينة. 

لكن على ما يبدو فإن الواقع العراقي الهش في الوقت الراهن لن يسمح بدخول العراق في صدام مسلح مع كردستان، خاصةً أنها لا تزال تخوض معارك ضد تنظيم داعش في شمال العراق، وهذا ربما ما دفع الرئيس العراقي مبكرًا لاقتراح إدارة مشتركة للمحافظة كأحد الخيارات لتسوية الصراع بين الطرفين في الوقت الراهن، وهذا ما لا يلبي بطبيعة الحال تطلعات كردستان.

وقد تعدل حكومة كردستان عن موقفها وتضطر لقبول خيار الإدارة المشتركة لتسوية الصراع مع بغداد في حال قيام دول الجوار بزيادة التنسيق مع العراق، والضغط على الإقليم، سواء من خلال اتخاذ عقوبات اقتصادية واسعة، أو تنفيذ ضربات عسكرية محدودة ضده، وهذا ما سيكون مقبولًا لدى حكومة بغداد أيضًا، حيث تدرك أن السيطرة بشكل كامل على كركوك لن يكون في صالحها، حيث من المرجّح أن يؤدي إلى تصاعد التوترات الأمنية مع كردستان لفترة طويلة قد تمتد لسنوات. 

إدارة مشتركة:

تُعد محافظة كركوك إحدى المناطق المتنازع عليها بين العراق وحكومة إقليم كردستان والتي أعطاها الدستور العراقي في مادته 140 حق تقرير المصير وفق استفتاء كان من المفترض أن يُجرَى بحد أقصى بنهاية عام 2007، لكن على ما يبدو أنه طيلة الفترة الماضية لم يكن لدى أي من الأطراف الاستعداد للقيام بهذه الخطوة، حيث لم يمتلك إقليم كردستان وقتها القوة العسكرية الكافية لحماية أية مكاسب متوقعة، وبالمثل كانت الحكومة العراقية هشة في مرحلة ما بعد عام 2003، ولم ترغب في إثارة النزعات الانفصالية بما يهدد الوضع الأمني بالداخل. 

ولكن تبدلت الأوضاع بشكل كبير في آخر عامين، حيث تصاعد نفوذ قوات البيشمركة الكردية في محافظة كركوك والمناطق المجاورة لها، وذلك تزامنًا مع تقدم داعش في المحافظات الشمالية بعد انسحاب الجيش العراقي منها. وبمساندة من قوات التحالف الدولي، سيطرت القوات الكردية على المدينة في يونيو 2014.

وبالتوازي مع تصاعد نفوذها العسكري هناك، بسطت حكومة إقليم كردستان سيطرتها على أغلب حقول النفط في المدينة، وعلى رأسها حقلا باي حسن وهافانا اللذان ربطتهما بحقل خورمالا النفطي ليتصلوا جميعًا بخط الأنابيب الجديد الذي دشنته في نهاية 2013 والذي يصل في النهاية إلى ميناء جيهان التركي.

كما امتدت السيطرة الكردية أيضًا إلى عدد من الحقول الأخرى بالقرب من الموصل، مثل: عين زالة، والبطمة، والسوفية، إلا أن إنتاجها يُعد ضئيلًا بالمقارنة مع حقول كركوك.

إنتاج النفط في إقليم كردستان (ألف برميل/يوميًّا)


Source: Under the Mountains: Kurdish Oil and Regional Politics, Oxford Institute for Energy Studies, January 2016 

فيما يذكر أن عددًا من الحقول الأخرى ظلت تحت سيطرة الحكومة المركزية في بغداد وهي: (بابا كركر، وخبازة، وجمبور) ويديرها جميعًا شركة نفط الشمالية العراقية التي تخضع لسلطة الحكومة المركزية في بغداد. ومن ثم ظل هناك انقسام في إدارة حقول النفط في كركوك، وأصبحت مسألة تصدير النفط من المحافظة محل مساومات عديدة بين بغداد وكردستان، وذلك في الوقت الذي زاد فيه التوتر بين الطرفين مع اتهام الأكراد لبغداد بالتقاعس عن سداد مستحقات الإقليم من عائدات النفط البالغة 17% طبقًا للدستور العراقي، في حين عارضت الحكومة المركزية الصفقات النفطية التي أبرمها الأكراد دون موافقتها. 

وبعد جولات عديدة من التفاوض استمرت عامين، توصل الطرفان في أغسطس 2016 لاتفاق يقضي بتصدير النفط عبر خط أنابيب إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي، وتقسيم العائدات مناصفة بين الجانبين بواقع 75 ألف برميل يوميًّا لكل طرف، مع العلم بأن إنتاج المحافظة يبلغ 300 ألف برميًّا.

ولاحقًا، تعرض الاتفاق للخرق أكثر من مرة بعدما أقرت العراق بقيامها بتقليل صادرات كركوك من النفط التزامًا باتفاقية أوبك لخفض الإنتاج، فيما وقّعت أيضًا مذكرة تفاهم مع إيران في مارس 2017 لتصدير كميات من نفط كركوك عبر إيران، ثم انهار كلية في أعقاب انفصال كردستان عن العراق بموجب الاستفتاء الذي أُجري في 25 سبتمبر الماضي.

تصاعد التوتر:

أدى استفتاء كردستان إلى تصاعد التوتر مع حكومة بغداد المركزية، خاصة أن العراق صعّد من تهديداته لكردستان قبل إجراء الاستفتاء بفترة وجيزة، إلا أن هذه التهديدات لم تنجح في منع الحكومة الكردية من تنظيم الاستفتاء، وتم إجراؤه وفق الموعد المحدد ليتم الموافقة على الانفصال بنسبة كبيرة تبلغ 92.73%، وهذا ما دفع العراق مؤخرًا إلى أن يتخذ خطوات فعلية نحو فرض حصار على كردستان، كما فرضت تركيا قيودًا على تجارة النفط مع كردستان. وفي هذا الصدد قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، في 28 سبتمبر الماضي: "أنقرة لن تتعامل إلا مع الحكومة العراقية فيما يتعلق بشراء النفط من العراق"، قاصدًا بذلك نفط كردستان أيضًا.

وفرضت إيران والعراق معًا حظرًا جويًّا على عبور طائرات الإقليم في المجالين الجوي العراقي والإيراني، فيما امتنع البنك المركزي العراقي مؤخرًا عن بيع العملات الصعبة للبنوك الكردية الأربعة الرئيسية، بجانب وقف جميع التحويلات بالعملة الأجنبية فيما بينهما، وذلك ضمن إجراءات أخرى اتُّخذت لحصار الإقليم، ومن المتوقع أن يتسع نطاقها خلال الفترة المقبلة.

وفي هذا السياق أيضًا، بدا أن الصراع حول كركوك في طريقه للتعقد، فقد تمسك الطرفان بأحقيتهما في السيادة على كركوك وموارده النفطية، فيما لم يستبعد أيٌّ منهما الحق في استخدام القوة في سبيل الحفاظ على المدينة. فقد طالب البرلمان العراقي في 27 سبتمبر الماضي، حكومة كردستان بالتخلي عن السيطرة على حقول النفط في كركوك، وتسليمها لحكومة بغداد المركزية، مانحًا -في الوقت نفسه- رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تفويضًا بإمكانية تدخل القوات العراقية في المحافظة لاستعادتها. ويأتي ذلك في ظل شواهد أكدت أن قوات البيشمركة الكردية عززت من سيطرتها على كامل الحقول النفطية بكركوك بما فيها حقول خباز وبابا كركر وغيرها. 

وفي المقابل، تجاهلت حكومة إقليم كردستان المطالب العراقية، حيث رفض مجلس محافظة كركوك تسليم حقول النفط للحكومة العراقية. وصرح رئيس مجلس محافظة كركوك ريبوار طالباني في سبتمبر 2017 بأن "إدارة كركوك لن تسلم حقول النفط لأي جهة، وستكون تحت سلطة إقليم كردستان". في الوقت نفسه، وجه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، الذي زار محافظة كركوك في 2 أكتوبر الجاري، قوات البيشمركة والأجهزة الأمنية الأخرى بضرورة حماية كركوك وكردستان بشكل عام من أي تهديدات محتملة.

سيناريوهات محتملة:

على الرغم من أجواء التوتر سابقة الذكر، إلا أنه في ظل الواقع الداخلي العراقي الهش الراهن والذي يتزامن مع استمرار خوض معارك عسكرية ضد تنظيم داعش، قد تتجنب حكومة بغداد المركزية الخيار العسكري، أي الدخول في صدام مسلح مع قوات البيشمركة من أجل استعادة كركوك، حيث قد يُضعف هذا من قوتها في مواجهة داعش. 

كما تدرك أيضًا أن من الصعوبة على دول الجوار، وعلى الأخص تركيا، تنفيذ وعودها بغلق حدودها أمام صادرات النفط الكردية، التي هي في حاجة ملحة لها، كما يربطها مع الإقليم مصالح تجارية واستثمارية واسعة، وكل الاعتبارات السابقة ستصب في صالح تكريس الموقف القائم بسيطرة حكومة إقليم كردستان على كركوك وحقول النفط بها، وهذا ربما ما دفع رئيس الوزراء العراقي العبادي في 4 أكتوبر الجاري للاستباق باقتراح إدارة مشتركة لكركوك ومناطق أخرى، وهذا ما يبدو حلًّا وسطًا من وجهة نظر حكومة بغداد، لكنه لا يلبي بطبيعة الحال تطلعات حكومة إقليم كردستان حاليًّا الطامحة لتحقيق الاستقلال الكامل بحسب الاستفتاء.

وفي المستقبل القريب، ربما تعدل حكومة كردستان عن رفض خيار الإدارة المشتركة وتذعن لقبوله من أجل تسوية دائمة للصراع مع بغداد حول هذه المناطق، خاصة إذا زادت دول الجوار بالتنسيق مع العراق من ضغوطها على الإقليم، من خلال اتخاذ عقوبات اقتصادية واسعة ضده.

فيما سيبقى الخيار العسكري مطروحًا أيضًا لتسوية الصراع على كركوك وحقولها النفطية، حيث من الوارد في المستقبل أن يوجه العراق قواته لاستعادة المدينة، لكنه يدرك جيدًا أن هذا الخيار لن يضمن السيادة على المدينة في فترة وجيزة، إذ من المرجّح أن يمتد الصدام المسلح مع كردستان لفترات طويلة قد تمتد لسنوات، وبما يخلق تهديدات أمنية داخلية واسعة.

وختامًا يمكن القول، إن الواقع العراقي الهش حاليًّا سيصب من دون شك في صالح تعزيز سيطرة كردستان على كركوك ومواردها النفطية حاليًّا، لكن في المستقبل ستظل جميع الخيارات مطروحة، سواء عسكرية أو سلمية، لتسوية الصراع بين الإقليم وحكومة بغداد المركزية.