الرهان الخاسر:

خيارات روسيا تجاه توسيع العقوبات الأمريكية

17 August 2017


يكشف توقيع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على مشروع القانون الذي مرره مجلسا الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ) بفرض مزيدٍ من العقوبات على روسيا في الثاني من أغسطس الجاري، والرد الروسي عليه، مظاهر التوتر في العلاقات الأمريكية - الروسية على الرغم من تعهد دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بتحسين العلاقات بعد سنوات من التدهور خلال إدارة "باراك أوباما"، وحديثه الإيجابي عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كقائد وسياسي محنك.

وينسف إذعان ترامب لضغوط الكونجرس الأمريكي جهوده لتحسين العلاقات بين البلدين، وضرورة التنسيق بينهما حول مختلف القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك، ويبدد التوقعات بأن يشكل لقاء القمة الذي جمع الرئيسين الأمريكي والروسي على هامش قمة العشرين في 7 يوليو الماضي مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية - الروسية، وتنسيق المواقف الدولية بينهما.

الضغط على روسيا:

ثمة أسباب رئيسية وراء تمرير الكونجرس بمجلسيه مشروع قانون العقوبات على روسيا في تحدٍّ لرغبة ترامب في تحسين العلاقات بين البلدين بعد سنوات من التأزم والتوتر، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:

1- رؤية الكونجرس أن سياسات الرئيس الأمريكي منذ حلفه اليمين الدستورية في العشرين من يناير الماضي خرجت عن السياسة التقليدية الراسخة للولايات المتحدة منذ عقود، حيث أدت سياساته إلى إخلال في العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين (الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، واليابان، وكوريا الجنوبية)، وفي المقابل يدعو بصورة مستمرة إلى تحسين العلاقات مع روسيا، العدو التقليدي للولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

2- رغبة عديد من المؤسسات المشاركة في صنع القرار الأمريكي الخارجي في احتواء تنامي الدور الروسي عالميًّا، والذي يهدد النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية، لا سيما مع استغلال موسكو توتر علاقات الولايات المتحدة مع بعض حلفائها التقليديين لخلق شراكات جديدة معها. وهو ما برز في تحسن العلاقات الروسية - التركية، ودعوة بعض الدول الأوروبية لرفع العقوبات عن روسيا.

3- رغبة الولايات المتحدة في تحرير الدول الأوروبية من سيطرة الغاز الروسي، وهو الأمر المرفوض من بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا التي قالت على لسان وزير خارجيتها، زيجمار جابرييل، ردًّا على العقوبات الأمريكية على موسكو بأنها "منافية للقانون الدولي، وأن الولايات المتحدة تخلط بين المصالح السياسية والاقتصادية، وأن رغبتها في طرد الغاز الروسي من السوق الأوروبية ليفسح المكان للغاز الأمريكي، أمر غير مناسب مطلقًا".

4- تكبيد روسيا خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية لا يمكن أن تتحملها على المدى الطويل، وتشكيل رؤية دولية مناهضة للسياسات الروسية الإقليمية والدولية.

خيارات موسكو:

لا تملك روسيا الكثير من الخيارات للتعامل مع التصعيد الأمريكي، لا سيما ردود الفعل المتشددة؛ فهي من ناحية تعلم جيدًا أهمية التنسيق مع الجانب الأمريكي في العديد من الملفات الدولية، وعلى رأسها الأزمة السورية، ومن ناحية أخرى فإن الاقتصاد الروسي لن يتحمل المزيد من العقوبات.

وعلى الرغم من أن بوتين عمد منذ العقوبات الأمريكية نهاية عهد أوباما، وطرد الدبلوماسيين الروس آنذاك، إلى عدم التصعيد، مُفسحًا المجال للرئيس الأمريكي الجديد، دون أية تحركات تتسم بالحدة أو التصعيد؛ إلا أن التطورات الأخيرة وعدم وجود تحرك جدي من ترامب للتخفيف من العقوبات، أقنع موسكو، بما لا يدع مجالاً للشك، أن المؤسسات الأمريكية لا تزال تنظر إليها على أنها العدو والتهديد الرئيسي للولايات المتحدة، وأن تأثير ترامب على ذراعي المؤسسة التشريعية محدود رغم تمتع حزبه (الجمهوري) بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ؛ وهو ما دفع روسيا للبحث عن ردٍّ مناسب، في ظل ندرة الخيارات، ومنها:

1- تعزيز دورها في الملفات التي تؤرق صناع القرار الأمريكي، بزيادة دعمها -على سبيل المثال- للانفصاليين في أوكرانيا، وتوسيع نطاق عملياتها العسكرية في سوريا، لكن التكلفة العسكرية والسياسية لهذا التصعيد ستكون باهظة.

2- الحفاظ على العلاقات مع الرئيس الأمريكي في وقت يتزايد فيه الغضب السياسي والشعبي مع تكشف تفاصيل تواصل مسئولين ومقربين من ترامب بموسكو خلال حملته الانتخابية، واحتمالات تدخل روسيا في العملية الانتخابية لتعزيز فرص فوزه على منافسته الديمقراطية "هيلاري كلينتون". ومن شأن استمرار التواصل زيادة حدة الانقسام داخل المؤسسات الأمريكية.

3- توجيه رسائل إلى الولايات المتحدة مفادها أن روسيا قطب دولي مؤثر، وأنها لن تسمح بمزيد من الهيمنة الأمريكية على شئون العالم؛ كنوع من أنواع التهديد غير المباشر. وهو ما يمكن أن نلمسه في العرض العسكري المهيب بيوم القوات البحرية، يوم 3 أغسطس الجاري، أي بعد يوم من إقرار العقوبات الأمريكية عليها. 

والأبرز في ذلك العرض، مشاركة سفينتين حربيتين صينيتين. وهو ما اعتبره كثير من المحللين رسالة روسية إلى الولايات المتحدة تؤكد الصداقة الروسية - الصينية المتعاظمة، وأنها تؤرق الولايات المتحدة.

وقد حددت روسيا، على لسان الناطق الرسمي باسم الكرملين، في 31 يوليو الماضي، قبل أن يوقع ترامب على مشروع قانون العقوبات عليها، شروطًا لإعادة العلاقات مع الولايات المتحدة، هي: أن تبدي الإدارة الأمريكية حسن نيتها نحو تحسين العلاقات، والتأكيد على الرغبة الثابتة في التطبيع، والتخلي عن محاولات الإملاءات عن طريق العقوبات.

تداعيات التوتر:

يُنذر رد الفعل الأوروبي الرافض للعقوبات الأمريكية على روسيا بتداعيات محتملة للتوتر في العلاقات الأمريكية - الأوروبية، لأن التصريحات الأوروبية جاءت في المجمل ضد قانون العقوبات، مؤكدة أنها غير مستعدة للتنازل عن الغاز الروسي، وخط "السيل الشمالي 2" الذي سيزيد من ضخ الغاز الروسي للدول الأوروبية. فقد صرح جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، بـ"أن الاتحاد الأوروبي مستعد للرد بالمثل على العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، وذلك حال أضرت بالمصالح الاقتصادية الأوروبية".

ومن المتوقع أن يؤثر التوتر في العلاقات الروسية - الأمريكية سلبيًّا على مسألة التنسيق بين البلدين لإيجاد حل للأزمة السورية؛ وهو الأمر الذي قد يؤخر ويعيق جهود التوصل إلى تسوية مشتركة ومقبولة للأزمة، خاصة وأنه كانت هناك بادرة تنسيق مشترك عندما تبنت الولايات المتحدة قرارًا بوقف الدعم للمعارضة السورية. كما أنه لا يمكن تجاهل أن الأزمة السورية أضحت بالنسبة لروسيا المدخل الأمثل لاستعادة المكانة الدولية المفقودة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.

ويؤثر التوتر في العلاقات بين البلدين على الأزمة الأوكرانية التي تتعلق بملفات أخرى، مثل: توسعة حلف شمال الأطلسي، ونشر القواعد العسكرية والدروع الصاروخية الأمريكية بالقرب من الحدود الروسية، وشبه جزيرة القرم، وخط الغاز الروسي لأوروبا، وجميعها ملفات تشهد تباعدًا في المواقف وتشددًا من الجانبين، خاصة وأن الأمر يتعلق بالأمن القومي الروسي، وبمصالح حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا.

خلاصة القول، بعد توقيع الرئيس الأمريكي على مشروع القانون الذي مرره مجلسا الكونجرس بفرض مزيد من العقوبات على روسيا؛ أدركت الأخيرة أن تطلعها وتوقعها بشأن تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة، بعد انتخاب ترامب، يعتريه الكثير من الصعوبات، وأنها ستظل منافسًا وتهديدًا من وجهة نظر صناع السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة وأن القرارات الاستراتيجية داخل الولايات المتحدة تصدر بالتنسيق بين مختلف دوائر صنع القرار المتداخلة والمتشابكة.

وعليه، يمكن القول إن العلاقات الروسية - الأمريكية سيشوبها التوتر خلال المرحلة المقبلة في ظل رغبة مؤسسات صنع القرار الأمريكي في كبح جماح روسيا حفاظًا على مكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي وحماية حلفائها خاصة في شرق أوروبا. وفي المقابل، ستقوم موسكو بالرد على واشنطن بشكل أسرع من ذي قبل، مع مراعاة الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات، بما لا يولّد صراعًا مفتوحًا بينهما يهدد ما استطاعت روسيا تحقيقه من نفوذ دولي حتى الآن.