دعائم جديدة:

هل تجاوزت تركيا مشكلاتها الاقتصادية؟

20 June 2017


بات الاقتصاد التركي على عتبة مرحلة جديدة من النمو بعد الفترة الصعبة التي عايشها في ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد في أعقاب الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، والتي تزامنت مع فرض روسيا عقوبات واسعة على الاقتصاد، بشكل قوض من الأداء الاقتصادي خلال العامين الماضيين.

وفي تحسن ملموس، شهد نمو الاقتصاد التركي زيادة كبيرة خلال الربع الأول من العام الجاري. وفي الوقت نفسه، تمكنت سوق المال من استعادة تدفقات الاستثمارات قصيرة الأجل، وهو ما أكسب سعر صرف الليرة أمام الدولار استقرارًا نسبيًّا. 

وفي الواقع، فإن تحسن مؤشرات الاقتصاد يعود بصفة أساسية إلى عدد من العوامل، أهمها تطور العلاقات الروسية - التركية، إلى جانب حزمة الحوافز الاستثمارية والتسهيلات التي أقرتها الحكومة للمستثمرين الأجانب والمحليين في الشهور الماضية. وعلى الرغم من ذلك، فإن آفاق الاقتصاد سترتبط بعاملين رئيسيين، هما: استقرار الأوضاع السياسية من ناحية، ومسار الشراكة الاقتصادية التركية مع دول الجوار، لا سيما مع الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.

مؤشرات تحسن:

بدأ الاقتصاد يستعيد عافيته تدريجيًّا بعد أكثر من عامين من ارتباك المشهد الاقتصادي جراء الاضطرابات السياسية والأمنية في البلاد، بجانب التداعيات السلبية للانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016، وبالتزامن أيضًا مع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا على تركيا في أعقاب إسقاط الأخيرة طائرة روسية على الحدود التركية- السورية في نوفمبر 2015.

وعلى خلاف التوقعات الدولية، فقد شهد أداء الاقتصاد تحسنًا كبيرًا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2017، حيث تسارع النمو الاقتصادي مسجلاً أفضل وتيرة له خلال عامين تقريبًا، ليبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 5% على أساس سنوي مقارنة بمعدل 3.5% في الربع الأخير من عام 2016.

وبحسب معهد الإحصاء التركي، تعود زيادة معدل النمو الاقتصادي إلى النمو المحقق في كلٍّ من القطاع الزراعي بنسبة 3.2%، وقطاع البناء بنسبة 3.7%، بينما كان قطاعا الصناعة والخدمات الأكبر نموًّا من بين كافة القطاعات الاقتصادية وذلك بنسبة 5.3% و5.2% على التوالي. وأما بالنسبة لمصادر النمو الاقتصادي في الفترة السابقة، فيشار إلى أن الإنفاق الحكومي والصادرات كانا من أهم مصادر نمو الناتج المحلي وحققا نموًّا بنسبة 9.4% و10.6% على التوالي، في حين حقق الإنفاق الاستهلاكي نموًّا بنسبة 5.1%، کما ارتفع إجمالي تکوين رأس المال الثابت بنسبة 2.2%. 

وكمؤشر آخر نحو الاستقرار، عادوت أسواق المال والدين التركية جذب موجات جديدة من الاستثمارات قصيرة الأجل من الخارج، والتي زادت مع التحسن النسبي في الأداء الاقتصادي بجانب تلاشي الآثار السلبية للانقلاب العسكري. وفي الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، بلغ صافي الاستثمار الأجنبي في الأسهم التركية والسندات الحكومية 7.4 مليارات دولار. ونتيجة لذلك، ارتفعت قيمة الليرة مقابل الدولار إلى نحو 3.5 ليرات تركية في يونيو الجاري مقابل مستويات تعدت 3.73 ليرات في الأشهر الماضية. 

ركائز التحول:

 يستند تحسن أداء الاقتصاد التركي خلال الفترة الماضية إلى عدد من العوامل الداخلية والإقليمية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- الإصلاحات السياسية: على المستوى السياسي، قد يُنظر إلى الإصلاحات التي طرحها حزب العدالة والتنمية في الشهور الماضية، مثل الاستفتاء الخاص بالتعديلات الدستورية في إبريل 2017، على أنها قد تعمل على مزيد من تركيز السلطة في يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذلك في الوقت الذي واجهت فيه الأحزاب السياسية والمجتمع المدني التركيان قيودًا واسعة في أعقاب الانقلاب العسكري. 

 ورغم ذلك، فإن الأوساط الاقتصادية ترى أن مثل هذه التحولات السياسية، وخاصة الاستفتاء الخاص بالتعديلات الدستورية، قد تفسح المجال لاستمرار الإصلاحات الاقتصادية من قبل حزب العدالة والتنمية التي من الممكن أن تؤثر بشكل إيجابي على أداء الاقتصاد بما قد يساهم في تحسين جدارته الائتمانية.

والاتجاه السابق تبنته -على سبيل المثال- وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، حيث ترى أن نتائج الاستفتاء التي أسفرت عن الموافقة على التعديلات بنسبة 51.4%، قد تمثل نقطة إيجابية لصالح الاقتصاد ومسيرة الإصلاحات الاقتصادية، إلا أنها -في الوقت نفسه- رهنت الاستقرار الاقتصادي في البلاد بمدى جودة السياسات الاقتصادية المطبقة في الفترة المقبلة. 

2- تطبيع العلاقات: مع نهاية يونيو 2016، بدأت بوادر تحسين العلاقات التركية- الروسية عقب الاعتذار الذي قدمته أنقرة حيال إسقاط الطائرة الروسية، حيث تم بعد ذلك اتخاذ خطوات سريعة لإعادة تطبيع العلاقات الاقتصادية تدريجيًّا بين البلدين. وفي يونيو الجاري، اتخذت الحكومة الروسية آخر قراراتها التي تقضي برفع معظم القيود المفروضة على تركيا، حيث ألغت الحظر المفروض على استيراد معظم المنتجات الغذائية التركية وذلك باستثناء الطماطم.

وإلى جانب ذلك، ألغت حظر عمل المواطنين الأتراك في روسيا، والحظر المفروض على عمل الشركات التركية في مختلف القطاعات في روسيا. وبإلغاء هذه العقوبات، يكون الاقتصاد التركي قد تجنب خسائر اقتصادية كبيرة قد تقارب 9 مليارات دولار.

وأثناء الفترة الماضية أيضًا، حاول الجانب التركي تعزيز علاقاته الاقتصادية مع شركاء جدد لتقليل اعتماد أنقرة على الحلفاء الغربيين التقليديين. وقد كانت الصين وإيران وبعض دول منطقة الشرق الأوسط من أهم الأطراف التي سعت تركيا لبناء علاقات وطيدة معها في الفترة الماضية.

وفي أول مؤشرات لتوطيد العلاقات الاقتصادية مع الصين، أنجزت تركيا، في ديسمبر 2016، اتفاقًا لمبادلة العملة التركية مع الصين بقيمة 450 مليون ليرة تركية، أى بما يعادل نحو 132 مليون دولار، في الوقت نفسه سمح البنك المركزي الصيني بالتداول المباشر لليوان الصيني مع سبع عملات أجنبية من بينها الليرة التركية بدءًا من 12 ديسمبر الماضي. 

3- حوافز الاستثمار الأجنبي: قدمت الحكومة التركية حزمة من التسهيلات للمستثمرين الأجانب على مدار الأشهر الماضية، في محاولة لإعادة ثقة المستثمرين في الاقتصاد، وإنعاش الاستثمارات في البلاد. ومن أهم التسهيلات التي أقرتها الحكومة في الفترة الماضية منح إعفاءات وحوافز ضريبية، بجانب منح الجنسية للمستثمرين الأجانب.

وعلى مستوى التسهيلات الضريبية، أقرت الحكومة حزمة من الإعفاءات الضريبية في عدد من القطاعات الاقتصادية من بينها القطاع العقاري، حيث منحت، في فبراير 2017، إعفاءً للأجانب والمغتربين من ضريبة القيمة المضافة عند شرائهم مباني سكنية وتجارية في تركيا، وهو ما قد ينعش الاستثمارات الأجنبية في السوق العقارية التركية.

وبالتوازي مع القرار السابق، ستعطي تركيا جنسيتها للمستثمرين الأجانب وفق تعديلات قانون المواطنة في يناير 2017 بشرط إيداع 3 ملايين دولار في البنوك التركية، مع عدم سحبها خلال ثلاث سنوات، كما يستحق الجنسية بعد المدة ذاتها أيضًا من يشتري عقارًا بقيمة مليون دولار أمريكي فأكثر، أو من يستثمر في مشروع تجاري بقيمة لا تقل عن مليوني ليرة تركية، أو من يمتلك شركة توظف 100 مواطن تركي على الأقل.

4- تسهيلات محلية: سوف يحصل عدد من القطاعات (أبرزها تكنولوجيا المعلومات والابتكار)، وفق قانون رقم 6745 الذي يتعلق بالاستثمارات بناءً على نوعية المشروعات والذي أقره البرلمان في سبتمبر 2016؛ على إعفاءات ضريبية وجمركية، بجانب تسهيلات ائتمانية أخرى، وهو ما قد يُسهم في تنمية القطاعات السابقة وفق المخطط التركي. وفي المجمل، تخطط الحكومة لمنح استثناءات ضريبية بقيمة 112 مليار خلال السنوات الثلاث المقبلة، بما يعادل 4.25% من الناتج الإجمالي المحلي عامي 2017 و2018، و4.24% عام 2019.

 وعلى المستوى التمويلي، سعت الحكومة عبر الشهور الماضية إلى إتاحة تمويلات كبيرة لتشجيع القطاع الخاص من أجل إنعاش الاستثمارات المحلية. ومن أهم القنوات المالية التي لعبت دورًا كبيرًا في هذا الشأن، صندوق ضمان الائتمان الذي زادت الحكومة، في مارس 2017، مخصصاته إلى 250 مليار ليرة، أى بما يعادل تقريبًا 66.5 مليار دولار.

5- صندوق سيادي: أنشأت الحكومة صندوقًا سياديًّا بقيمة 50 مليون ليرة (حوالي 13.6 مليون دولار) في أغسطس 2016، والذي من المنتظر أن يدير في المستقبل أصولا بقيمة 200 مليار دولار، بحسب توقعات وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، ليحل ضمن أكبر 20 صندوقًا سياديًّا حول العالم.

 وفي ظل خطة الحكومة لتحويل كثير من الأصول المملوكة للدولة لهذا الصندوق، قد يكون بإمكانها استخدام هذه الأصول كضمان لتدبير التمويل لمشاريعها الاستراتيجية والتنموية طويلة الأمد بتمويل منخفض التكاليف.

وبالفعل في فبراير الماضي، بدأت الحكومة بتحويل بعض الأصول للصندوق السيادي، مثل حصة الدولة البالغة 49.1% في الخطوط الجوية والبالغة قيمتها حوالي مليار دولار، بالإضافة إلى حصتها البالغة 51.1% في بنك "خلق" والتي تبلغ نحو 2 مليار دولار، بجانب حصص أخرى في بنك "زراعت" الحكومي وبورصة اسطنبول وشركة تشغيل خطوط الأنابيب المملوكة للدولة "بوتاش".

آفاق مستقبلية:

 في واقع الأمر، يستند صمود الاقتصاد التركي إزاء التقلبات إلى عدة نقاط قوة هيكلية أيضًا تتمثل في السوق الداخلية الكبيرة، والاقتصاد المتنوع، والقطاع المصرفي المنظم نسبيًّا، بالإضافة إلى دعم النمو من خلال الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية في مجالات الطاقة والنقل والصحة وغيرها، والتي يتم تمويلها في العادة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص.

ورغم نقاط الدعم السابقة، إضافة إلى المتغيرات الإيجابية التي شهدها الاقتصاد في الأشهر الماضية؛ لا يزال مسار الاقتصاد معرضًا لكثير من المخاطر التي برزت في السنوات الأخيرة، وتتعلق بارتفاع وتيرة الاضطرابات السياسية والأمنية مجددًا في البلاد، لا سيما في ظل بعض التوقعات الاقتصادية الأخرى التي تشير إلى أن الموافقة على التعديلات الدستورية من شأنها أن تعمل على غياب المحاسبة للسلطة التنفيذية، كما ستقوض المنافسة الاقتصادية، وهو ما قد يحول دون حصول السوق التركية على استثمارات طويلة المدى.

وإضافة إلى السابق، يمكن أن تؤدي التطورات التي تشهدها الأزمة السورية، وتصاعد حدة التوتر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، واتساع نطاق الخلافات مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ إلى التأثير سلبًا على الاقتصاد. 

وختامًا، يمكن القول إن أداء الاقتصاد التركي يتحسن تدريجيًّا في ظل الإصلاحات الاقتصادية التي لا تزال تُجريها الحكومة منذ أشهر، وبرغم ذلك فإن المخاطر الجيوسياسية ستظل أكبر مصدر تهديد لنمو الاقتصاد في الفترة المقبلة.