إشكاليات عدة:

تعقيدات مرحلة ما بعد تحرير المدن العراقية من "داعش"

21 March 2017


تُشكل مرحلة ما بعد معركة تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، محطة مهمة بالنسبة للعراق كدولة وكمجتمع بمختلف مكوناته العرقية والإثنية، لا سيما المكون السني الذي استولى التنظيم على مساحات واسعة من المناطق التي يقطنها في مرحلة ما بعد 10 يونيو 2014 (سيطرة مسلحي تنظيم داعش على مدينة الموصل).

ومع استعادة كثير من هذه المناطق التي كانت يسكنها المكون السني من قبضة تنظيم داعش، وقرب استعادة مدينة الموصل، تُثار الكثير من التساؤلات حول وضع سنة العراق بعد تحرير مناطقهم بالكامل، وانتهاء مرحلة داعش، لا سيما مع تغير كثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية على أرض الواقع في الساحة العراقية بشكل ينعكس سلبًا وإيجابًا على وضع المجتمع العراقي بشكل عام. الأمر الذي يُشير إلى أن الأوضاع قبل سيطرة التنظيم على مناطق السنة لن تكون كما كانت عليه في السابق.

ولا يعني انتهاء العمليات العسكرية بتحرير المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش انتهاء الأزمة في العراق، لكنها ستبرز إشكاليات عدة، خاصة المتعلقة بالاستقرار الأمني والسياسي، وضمان عدم عودة مقاتلي التنظيمات الإرهابية مجددًا، وحل الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ سنوات، والتي خفتت قليلا بسبب الأزمة الأمنية وتركز الجهود على مكافحة الإرهاب، بيد أنها ستكون حاضرة في المشهد من جديد بعد انتهاء المعارك ضد داعش، كونها (الأزمة السياسية) أحد أسباب صعود التنظيم داخل العراق.

معاناة السنة 

مرَّ المُكوِّن السني العراقي في مرحلة ما بعد 10 يونيو 2014 بأزمة معقدة، ومعاناة مركبة، حينما بدأ تنظيم داعش فور استيلائه على مناطقه بفرض نمط من الحياة على سكانه يقوم على تطبيق أحكام وتعليمات دينية، وفرض عقوبات صارمة وغرامات مالية على مخالفيها، ويتعامل عناصره مع السكان المحليين بمنتهى الصرامة والعنف عند حدوث أي أعمال تُخالف ما يروجون لتطبيقه، وذلك في ظل تراجع وتردي الخدمات الصحية والبيئية، وانقطاع التيار الكهربائي، وتفاقم أزمة الوقود، وتزايد البطالة، وانخفاض المستوى المعيشي للمواطنين، وقلة المواد الغذائية. كما اعتمدت عناصر التنظيم عزلَ سكان المناطق التي يُسيطرون عليها عن العالم الخارجي عبر قطع خدمات الاتصالات والإنترنت، ومصادرة أجهزة التلفاز من منازل السكان.

ارتكب التنظيم مجازرَ مروِّعة بحق سكان المناطق التي يسيطر عليها بأساليب بشعة، وفرض الإقامة الجبرية على البعض وتهجير البعض الآخر، وتفجير منازل مخالفيه أو الاستيلاء عليها.

وقد رافق هذه الأوضاع موجة نزوح وتهجير للمواطنين من المناطق التي يسيطر عليها داعش، فوصلت أعداد المهجرين إلى ما يقرب من 6 ملايين شخص توزعوا بين محافظات إقليم كردستان وبغداد والمحافظات الجنوبية، وما يعنيه ذلك من معاناة كبيرة تعرض لها هؤلاء المهجرون بين صعوبة الحصول على المأوى وتعقيدات الإجراءات الأمنية للحصول على السكن وتكاليف المعيشة الباهظة، فضلا عن الحياة الصعبة التي يعيشها المهجرون في المخيمات، وانعدام الخدمات، وقلة الرعاية الصحية.

تحديات إعادة الإعمار 

لا تقل أهمية إعادة إعمار المدن المحررة من قبضة تنظيم داعش وإعادة سكانها إليها عن أهمية الجهود العسكرية والأمنية لتحرير تلك المدن، كونها تعرضت لدمار كبير في البنى التحتية نتيجة لاستهداف داعش، أو بسبب العمليات العسكرية أثناء عملية التحرير، وهو ما يزيد من أهمية عملية إعادة إعمارها كخطوة أولى لإعادة السكان إليها.

وتحتاج عملية إعادة إعمار المدن العراقية المحررة من قبضة تنظيم داعش، بحسب تقديرات صندوق إعادة الإعمار في المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية، إلى مبالغ تقدر ما بين 13 إلى 14 مليار دولار كتقدير أوّلي لإعادة الحد الأدنى من البنى التحتية والخدمية في المناطق المحررة ليستطيع سكانها العودة إليها.

وفي الواقع، تحتاج عملية إعادة الإعمار في هذه المناطق إلى جهود داخلية وخارجية كبيرة من خطط وتشريعات وسياسات دقيقة وواقعية ومبالغ كبيرة تتناسب ومعالجة آثار الدمار التي تعرضت لها المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش، وتخفيف المعاناة عن أهلها، وإعادة ثقتهم في الحكومة المركزية بعد الأحداث التي مروا بها.

وبقدر أهمية هذه العملية إلا أنه يعترضها عدد من التحديات، أهمها: ارتفاع تكلفة إعادة البنى التحتية والخدمية، والحاجة إلى موارد مالية كبيرة في ظل عجز الموازنة وإجراءات التقشف بسبب الأزمة المالية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط وكلفة الحرب على داعش، ما يعني صعوبة تخصيص المبالغ المالية اللازمة لإعادة الإعمار. فضلا عن الفساد المستشري في العديد من القطاعات الحكومية، مما يهدد خطط نجاح عملية إعادة الإعمار عند التنفيذ، إضافةً إلى الحاجة إلى جهود أمنية فنية للتخلص من العبوات الناسفة والمواد المتفجرة التي زرعها داعش في الطرق العامة والمؤسسات الحكومية ومختلف الأماكن العامة.

وترتبط مسألة عودة السكان بمعالجة أزمة المهجرين والنازحين المتفاقمة في البلاد، والتي تتطلب جهودًا كبيرةً لتحقيق الأمن والاستقرار، والسماح بعودة السكان إلى مناطقهم، وعدم وضع العقبات أمامهم، وضرورة توفير الاحتياجات الحياتية الضرورية لهم.

وعلى الرغم من عودة الحياة والسكان إلى عدد من المناطق المحررة، إلا أن عملية إعادة السكان والمهجرين إلى مناطق سكنهم، واجهت تحديات عدة عولج بعضها ولا يزال الآخر بعيدًا عن المعالجة، وكان أهمها أن هناك عددًا من المناطق والمدن في محافظتي ديالى وصلاح الدين مُنع سكانها من العودة إليها على الرغم من تحريرها منذ أكثر من سنة. ويعد حجم الدمار الذي حل بالمدن والمناطق السكنية والتدمير الذي أصاب المنازل عقبة أخرى أمام عودة الأهالي إليها. وقد يكون التحدي الأكبر الذي يمنع عودة السكان إلى المناطق المحررة هو التغيير الديموغرافي الذي تعرضت له العديد من المدن والقرى في محافظة ديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى، وبروز مشكلة المناطق المتنازع عليها من جديد، لا سيما بعد سيطرة القوات الكردية على العديد منها بعد طرد تنظيم داعش، وتجريف منازل العرب السنة فيها، وهو أمر يعكس المخاطر التي تهدد التماسك المجتمعي في العراق. فضلا عن تحدي تحقيق الأمن والاستقرار وضمان عدم عودة أي نشاط لعناصر تنظيم داعش إلى هذه المناطق.

مبادرات المصالحة الوطنية 

يعود ملف المصالحة الوطنية إلى سنوات سابقة، وتطور من مجرد مشاريع سياسية وتصريحات ومبادرات حتى أخذ شكلا من المؤتمرات المحلية والدولية، ومن ثم وجد إطارًا مؤسسيًّا عبر وجود لجنة خاصة به مرتبطة بأمانة مجلس الوزراء بهدف تجاوز الخلافات والأزمات السياسية والمجتمعية التي تشهدها الساحة العراقية.

ونظرًا لأهمية مرحلة ما بعد داعش تم طرح العديد من مبادرات التسوية في مجال المصالحة، فجاءت مبادرة "التسوية التاريخية" التي تبناها "التحالف الوطني" وأعلن عنها رئيسه عمار الحكيم في أكتوبر 2016 بهدف تسوية سياسية بين مكونات المجتمع العراقي (السنة، والشيعة، والأكراد)، وتضمنت أربعة أسس تتمثل في: التسوية الشاملة وليست أحادية الجانب، ومبدأ لا غالب ولا مغلوب، وتصفير الأزمات بين الأطراف العراقية، ورفض استخدام العنف كورقة سياسية لتحقيق التسويات السياسية.

كما احتوت المبادرة على عدد من المبادئ، منها: الإيمان بوحدة العراق، والاعتراف الرسمي الملزم بالعملية السياسية، والتزام الجميع برفض ومحاربة الإرهاب، وترسيخ دولة المؤسسات الوطنية، والعمل على عودة النازحين والمُهجَّرين إلى ديارهم، والسعي لعودة التلاحم المجتمعي المحلي، والعمل على إعادة إعمار المناطق المحررة. ويكون تطبيق هذه المبادرة برعاية بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، بيد أن هذه المبادرة لم تحظَ بموافقة جميع الأطراف السياسية، ومنها مكونات التحالف الوطني صاحب المبادرة.

وفي 20 فبراير 2017 أطلق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مبادرةً أخرى تحتوي على 29 بندًا تمثل مقترحات لإدارة العراق في مرحلة ما بعد داعش، ومن أهمها: تأسيس صندوق دولي لدعم حملة الإعمار في جميع المناطق المتضررة، وفتح حوار شامل للمصالحة الوطنية لجميع الأديان والمذاهب والأقليات، وتأمين الحدود العراقية بواسطة الجيش العراقي وقوات حرس الحدود حصرًا، ومطالبة الحكومة بخروج جميع القوات المحتلة -بل والصديقة- من الأراضي العراقية، وجمع السلاح المتناثر وتسليمه بيد الدولة، وإغلاق جميع مقار الفصائل المسلحة. ولم تحظَ هذه المبادرة بتأييد عدد من الكتل الشيعية، بينما حظيت بتأييد غالبية الأطراف السنية.

مشاريع الفيدرالية

يتكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة موضوع تطبيق الفيدرالية بعدد من التصريحات السياسية العراقية والأمريكية، وقد طالبت بها سابقًا عدد من المحافظات العراقية، ومنها البصرة وصلاح الدين ونينوى. وفي ظل هذه المرحلة سعت كتلة تحالف القوى العراقية إلى تشكيل مجلس يتولى قيادة المحافظات السنية (الأنبار، ونينوى، وصلاح الدين، وكركوك، وديالى) بعد الانتهاء من القضاء على داعش، وهو توجه يشير إلى الرغبة في تطبيق الفيدرالية بهذه المحافظات. 

وهناك أيضًا أطروحات عديدة بشأن تشكيل الأقاليم في العراق، منها الطرح الأمريكي لمعالجة الخلافات السياسية في مرحلة ما بعد داعش الذي يذهب صوب تشكيل ثلاثة أقاليم رئيسية في العراق تخضع لحكومة اتحادية في بغداد، وتختص هذه الأقاليم بصلاحيات واسعة لإدارة شئونها.

طرح هذهِ المشاريع لا يعني أنه سيتم تطبيقها على أرض الواقع، كونها مرهونة بظروف داخلية وإقليمية وتأثيرات دولية متى كانت متوافقة معها فإنها ستكون قابلة للتنفيذ.

خلاصة القول، إن مختلف المكونات العراقية قد تأثرت بالأزمة الأمنية التي عاشها العراق بعد بروز تنظيم داعش وتزايد خطر الإرهاب في الساحة العراقية واستيلائه على مناطق عدة في العراق منذ 10 يونيو 2014، ولا شك أن المرحلة المقبلة والأوضاع في العراق بعد القضاء على تنظيم داعش لن تكون كما كان عليه الحال سابقًا. وسيكون للتطورات الدولية، كعودة الاهتمام الأمريكي بالعراق والمنطقة، ودخول روسيا بثقلها في الساحة الإقليمية، والتحول في التحالفات العربية والإقليمية؛ تأثير في الساحة العراقية، مما يجعل من الصعوبة التكهن بما ستئول إليه الأمور وأوضاع المكونات المجتمعة العراقية ومنها السنة في الأيام المقبلة.