توظيف المخاطر:

كيف تزيد "عولمةُ الخوف" الطلبَ المجتمعي على التطرف؟

12 December 2016


أدت حالة السيولة وعدم اليقين التي تسود الأوضاع الداخلية والعالمية، إلى هيمنة "ثقافة الخوف" على المجتمعات في ظل التعدد اللا نهائي للتهديدات التي باتت أقرب إلى مساحات الأمن الشخصي للأفراد، وبقائهم المادي أكثر من أي وقت مضي. ومع صعود "مجتمع المخاطر" و"مناخ الخوف العام"، تماهت الحدود الفاصلة بين المخاوف الحقيقية والمتخيلة مع تداخل مصادر التهديد وتعدد مسببات الخوف.

ويمكن القول إن تشابك وتعقد تفاعلات العالم اليوم أدّى إلى تعميم مخاوف بين دول متنوعة للغاية، كدول تنتمي لأوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، فمعظم مواطني العالم اليوم يحملون همومًا مشتركة تجاه قضايا متعددة، جاء على رأسها: العنف، والبطالة، والفساد، والفقر، وعدم العدالة الاجتماعية، والجريمة، وكذلك الرعاية الصحية.

خريطة المخاوف العالمية:

في هذا السياق، أصدرت مؤسسة "إبسوس بول" دراسة إمبريقية تتساءل عن: "ماذا يُقلق العالم اليوم؟". وقد تم إجراؤها في سبتمبر 2016 على 35 دولة في مناطق مختلفة من العالم، وبناءً على قراءة الدراسة يمكن تقسيم المخاوف التي تقلق العالم إلى ما يلي:

1- مخاوف مشتركة: وتضم مجموعة من الأمور التي باتت تشكل خوفًا متزايدًا لدى قاطني دول متباعدة ومتنوعة في طبيعتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يُرسّخ من مقولات عولمة المخاوف في العالم اليوم. من بين هذه الأمور، تأتي قضايا البطالة والفساد والفقر وعدم المساواة والإرهاب. واحتلت قضية الفساد المرتبة الأولى من بين الأمور التي تشكل مخاوفَ بين قاطني دول متباينة بقدر الاختلاف بين إسبانيا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية، والتي تتشارك جميعًا في احتلال التخوف من البطالة كأهم قضية تشغل مواطنيها.

وهو الأمر الذي ينطبق كذلك على قضايا الفساد المالي والسياسي والتضخم التي تتشارك فيها دول مختلفة ومتباعدة، مثل: جنوب إفريقيا، وبلغاريا، وإسبانيا، وكوريا الجنوبية، والهند، والمكسيك، وروسيا. ومن ناحية أخرى، باتت مخاوف الإرهاب تُقلق دول العالم أجمع مع انتشار الإرهاب العابر للحدود الذي لا يُفرّق بين بلدٍ إفريقي أو أوروبي أو آسيوي، فضلا عن توغّل تنظيمات الجريمة الإرهابية في شتّى بقاع العالم من خلال خلايا نائمة تنشط وقت الحاجة.

2- قضايا مناطقية: وهي قضايا تشكل قلقًا لمناطق بعينها أكثر من غيرها. فعلى سبيل المثال، هناك قضية التخوف من المهاجرين واللاجئين التي باتت تقلق دولا مثل بريطانيا وألمانيا والسويد وإيطاليا وبلجيكا وفرنسا، وهي كلها دول تنتمي لإقليم واحد.

ويرتبط بهذه القضية أيضًا الخوف من تصاعد التطرف في الدول ذاتها، بما يُعطي مؤشرًا لتخوف قاطني هذه الدول من انتشار حركات متطرفة وراديكالية قد تكون مرتبطة في مخيلاتهم بوفود مهاجرين ولاجئين من مناطق ودول أخرى.

كذلك ينتشر الخوف من الجريمة والعنف بين دول أمريكا اللاتينية أكثر من غيرها، وذلك بسبب انتشار جماعات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات في هذه المنطقة بعينها منذ وقت بعيد أكثر من غيرها.

ولكن على أية حال، يُمكن ملاحظة أنّ تلك القضايا التي تهم مناطق محددة أكثر من غيرها قد ذُكرت كأمور تُقلق مواطنين في دول أخرى بنسب ليست بالقليلة، وهو ما يؤكد أنّ البشر اليوم لديهم نفس المخاوف على اختلاف مناطقهم وجنسياتهم وثقافاتهم، مما يطرح تساؤلا حول ما يمكن أن يُطلق عليه "عولمة الخوف" وتداعياته.


توظيفات الخوف:

تبرز الكثير من التساؤلات حول تلك المخاوف، وما إذا كانت حقيقية بالفعل وتدعو للقلق أم أنّها مصطنعة أو متوهمة، للدرجة التي دفعت البعض للحديث عن قيام بعض الجماعات وشبكات مصالح بتضخيم بعض التهديدات والمبالغة فيها من أجل تحقيق مصالح معينة.

فمن ناحية، لا يمكن إنكار حقيقة أنّ الكثير من هذه المخاوف حقيقية، ويمكن التثبُّت منها في الحياة اليومية. فقضية البطالة -وهي القلق الأكبر على المستوى العالمي- يستطيع أي فرد أن يتلمّسها في حياته اليومية، ويبدو أن القلق من البطالة صار اليوم قلقًا عالميًّا تتساوى فيه دول من أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

وربما يعود السبب في هذا إلى عدم كفاءة السياسات الاقتصادية التي تتبناها حكومات كثيرة حول العالم، وهو ما انعكس أثره في صعود تيارات يمينية متطرفة في دول متعددة. كما قد يعود السبب في هذا إلى تصاعد التهديدات الأمنية، وتوجيه العديد من الحكومات لجانب كبير من نفقاتها إلى جوانب التسليح والأمن، بما ينتقص من القدرة على الإنفاق على الاستثمار والتوظيف.

وفي الوقت نفسه، هناك مخاوف أخرى مُتوهمّة تم ترسيخها بفعل وسائل الدعاية والإعلام لأغراض متعددة قد يكون في مقدمتها أهداف سياسية وانتخابية، وتعتبر قضايا الخوف من المهاجرين واللاجئين وانتشار تيارات التطرف والتشدد نموذجًا مثاليًّا على هذا في أوروبا، وقد تم استخدامها من قبل أحزاب يمينية لتحقيق مكاسب في الانتخابات، مثل حزب اليمين المتطرف الألماني "البديل من أجل ألمانيا" والذي يحقق مكاسب انتخابية تتصاعد تدريجيًّا منذ عام 2013، وكذلك الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب الحرية في النمسا الذي كاد مرشحه يفوز بانتخابات الرئاسة التي تم إجراؤها في إبريل 2016.

وهو نفس الأمر الذي ينطبق على دول أخرى مثل بولندا والمجر، وأخيرًا بريطانيا التي صوت معظم مواطنيها بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوروبي كعلامة تأييد واستجابة لتيارات يمينية وشعبوية متطرفة، والولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت فوز دونالد ترامب بالرئاسة برغم دعواته المتطرفة ضد الأجانب والمهاجرين. ومن ثم، يمكن القول إنّ هذه الحركات والأحزاب المتطرفة قد اتخذت من قضايا المهاجرين والخوف من الأجانب وسيلةً من أجل تعميق مخاوف مواطني دولهم، وتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية.

تداعيات عولمة الخوف:

بعض الساسة قد يتصورون أن تعزيز مخاوف المواطنين قد يؤدي إلى شعور المواطنين بالتهديد الدائم، وزيادة الارتباط بأجهزة ومؤسسات الدولة، وهو ما قد يكون صحيحًا في بعض الأحيان؛ إلا أن المواطن -في أحيان أخرى- قد يتجه للبحث عن البدائل والتغيير، وهو ما يمكن إيضاحه فيما يلي:

1- صعود اليمين المتطرف: النتيجة الأولى لتصاعد تلك المخاوف هي استمرار تصاعد التيارات الشعبوية والمتطرفة بقوة في أوروبا ودول أخرى من العالم. وبمنطقٍ اقتصادي، يُعتبر جانب الطلب على السياسات الشعبوية والقومية متوفرًا لدى الغالبية العظمى من دول العالم، وذلك بسبب حالة عدم الرضى التي تعتري المواطنين، والتي أشار إليها تقرير "إبسوس" بأنّ ثلثي مواطني دول الاستبيان تقريبًا غير راضين عن الأوضاع الحالية، ويعتبرون أنّ الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، وهي البيئة المثالية لتصاعد تيارات الشعبوية واليمين المتطرف. 

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى فرنسا التي اعتبر ما يقارب 90% من مواطنيها أنّ الأمور في بلدهم لا تسير في الاتجاه الصحيح، وهو ما يجعل فرنسا المرشحة الأولى لتولّي تيار اليمين المتطرف مقاليد السلطة، لا سيما مع اقتراب انتخابات الرئاسة الفرنسية.

كذلك كان الحال بالنسبة لدول مثل إيطاليا وألمانيا وبلجيكا والسويد والولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثمّ، فإنّ تصاعد المخاوف وعدم الرضى من شأنه دعم الأنماط غير الليبرالية من الحكم، وهو الأمر الذي بات واضحًا في العالم اليوم كما لم يحدث من قبل منذ الحرب العالمية الثانية.

2- شرعية المؤسسات السياسية: لا ينفصل هذا الأمر عن سابقه على الإطلاق، فتصاعد تيارات التطرف الفكري تؤدي بشكل كبير إلى ثنائية الممارسات السياسية، وترسيخ خطاب استهجان الآخر، بما يؤدي إلى درجات عالية من الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، ووضع المؤسسات السياسية الوطنية موضع تساؤل.

ومن ناحية ثانية، فإنّ تصاعد تيارات الانغلاق والعودة للاهتمام بالوطن أولا تؤدي بشكل مماثل للتساؤل حول شرعية المؤسسات السياسية والاقتصادية الدولية، وعمّا إذا كانت تؤدي وظائفها بشكل سليم أم أنّه من الأفضل الخروج منها أو حتّى التخلص منها نهائيًّا. ويتضح هذا الأمر في تشكيك الكثير من تيارات اليمين في المؤسسات الإقليمية، مثل تأييد اليمين في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهي نفس الدعوات التي تُطلقها تيارات أخرى في فرنسا لدى اليمين المتطرف وكذلك "حزب البديل من أجل ألمانيا" الممثل لليمين الألماني حاليًّا، والذي بدأ كحركة مناهضة لسياسات ألمانيا في منطقة اليورو.

ومن ثمّ، فإن تصاعد المخاوف من شأنّه أن يعزز التشكك في المؤسسات السياسية الوطنية والإقليمية والدولية، والتوجه نحو سياسات انفرادية تفضل الوطن أولا، وتُقلل من أهمية التعاون والاندماج، بما قد تكون له آثار غير مرغوبة على الأمن والسلم على المستوى العالمي.

3- ثورة التوقعات: أخيرًا، وبفعل المخاوف من البطالة والتضخم والفساد، قد يتجه مواطنو دول الجنوب إلى المطالبة بتبنّي سياسات الحماية الاجتماعية ودولة الرفاه، والتي تتطلب إجراء إصلاحات اقتصادية واسعة، وإعادة هيكلة نظام جمع الضرائب، ومن ثم توسيع الإنفاق العام على التعليم والصحة وصرف إعانات للبطالة، وكذلك لتقليل حدة الفقر وعدم المساواة، لا سيما وأنّ جميع هذه القضايا احتلت موقعًا هامًّا في قائمة المخاوف التي باتت تشكل قلقًا متزايدًا للمواطنين.

وهو الأمر الذي ينطبق على دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي احتلت فيها قضايا البطالة والتعليم والصحة والفساد وعدم العدالة الاجتماعية موقعًا متقدمًا للغاية، ونظرًا لعدم تلاؤم هذه التوقعات مع السياسات التقشفية التي تتبعها حكومات دول الجنوب في الوقت الحالي فإن هذا قد يُنذر بتصاعد استمرار حالة عدم الاستقرار الممتد الذي تعيشه هذه الدول.

يمكن الرجوع إلى استبيان Ipsos كاملاً من خلال هذا الرابط:

Ipsos Public Affairs, what worries the world,Ipsos Public Affairs,September 2016