محاصرة التشدد:

ملامح التجربة المغربية في إدماج التيارات السلفية

08 November 2016


خلق انخراط بعض رموز التيارات السلفية في الحياة السياسية المغربية نقاشًا كبيرًا بين مختلف المهتمين بالمشهد السياسي المغربي، والمتخصصين في شئون التيارات السلفية، عقب دعوة مجموعة من الشيوخ (وعلى رأسهم: "محمد الفيزازي"، و"محمد المغراوي"، و"حسن الخطاب"، و"حسن الكتاني") المواطنين للتصويت في انتخابات (7 أكتوبر 2016) البرلمانية، التي أفرزت ثنائية قطبية بين حزب العدالة والتنمية الذي حل في المرتبة الأولى بـ125 مقعدُا، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي حل ثانيُا بـ102.

وعرفت نفس الانتخابات ترشح بعض رموز التيار السلفي، حيث ترشح "هشام التمسماني" على قائمة حزب الاستقلال في مدينة طنجة، و"محمد عبدالوهاب رفيقي" الملقب بـ"أبو حفص" على قائمة الحزب نفسه في مدينة فاس، بينما تراجع "عبدالكريم الشاذلي" عن الترشح على قائمة (حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية) بالبيضاء، واكتفى بتدبير جميع العمليات الانتخابية باسم الحزب بجهة البيضاء – سطات، والتنسيق مع مرشحي الحزب. أما "حماد القباج" فتم رفض طلب ترشحه على قائمة حزب العدالة والتنمية في مراكش من قبل وزارة الداخلية المغربية.

وبالرغم من فشل السلفيين في الحصول على أي مقعد داخل البرلمان المغربي خلال اقتراع 7 أكتوبر 2016، وهو أمر مرده أساسًا إلى الخلاف الكبير بين رموز التيارات السلفية في المغرب، وعدم التفاهم حول إطار سياسي موحد يمثل السلفيين، بفعل اختيارهم ممارسة العمل السياسي من داخل أحزاب مختلفة - فإن المشاركة السياسية في حد ذاتها، سواء بالترشح أو بدعوة المواطنين إلى التصويت، تستدعي الوقوف عندها لاستعراض خريطة التيارات السلفية بالمغرب، وتحليل الاستراتيجية التي اتبعها النظام السياسي المغربي لإدماج رموز السلفيين، وتقليص البعد الجهادي منهم، بعدما كان هؤلاء الرموز يكفرون المشاركة السياسية والأحزاب السياسية، وينبذون التعددية، وينظرون إلى الدستور كاحتكام لغير شرع الله، وأن الديمقراطية التي تُفضي إلى حكم الأغلبية عن طريق العملية الانتخابية تعد بدعة بتعارضها مع أحد مصادر التلقي التي ينبني عليها الفكر السلفي وهي "الإجماع".

خريطة التيارات السلفية بالمغرب:

تتفرع التيارات السلفية بالمغرب إلى تيارات متباينة، فبالرغم من الثبات في المرجعية العقائدية (التوحيد) بين السلفيين، وإجماعهم على أن حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية رهين باتباع نهج سلف الأمة، والاعتماد على الكتاب والسنة إلى جانب الإجماع والقياس؛ إلا أنهم يختلفون من حيث التصورات والأهداف حول العديد من القضايا السياسية، وهو أمر راجع أساسًا إلى تعدد التيارات والمشارب الفكرية التي تؤطر الفكر السلفي بالمغرب، وكذا إلى المراجعات الفكرية التي تبناها العديد من رموزه.

1- تيار السلفية الظاهرية: ويعد الراحل تقي الدين الهلالي الأب الروحي للتيار السلفي الظاهري في المغرب، والذي يجمع ما بين أهل الحديث والسلفية، فإضافة إلى تبنيه مصادر التلقي سالفة الذكر، فإنه يؤكد على ترك الظنون والآراء والعمل باليقينيات، وأن الظاهرية هي ظاهر نصي لا يتصور العقل غيره.

2- تيار السلفية التقليدية: ويتزعمه محمد المغراوي، رئيس جمعية القرآن والسنة، والذي جمعته خلافات مع تقي الدين الهلالي، ويعتمد بدوره على نفس مصادر التلقي سالفة الذكر، وعرف هذا التيار تغيرًا في الخطاب بعدما كان يدعو إلى الجهاد بناءً على مقولة ابن القيم الجوزي بأن "الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس والشيطان، جهاد أهل البدع، جهاد المنافقين، وجهاد القتال"، حيث تبنى مؤخرًا خطابًا يتجاوز التصلب المعروف عنه، يؤكد فيه أن الجهاد لا يصح إلا بالإمام، وأن هذا الأخير (أي الإمام) بمثابة الفاتحة في الصلاة، وأدان تنظيم داعش، وتبرأ من العمليات التي يتبناها التنظيم، كما دعا إلى المشاركة السياسية، وهو بذلك تجاوز منطق تكفير النظام السياسي الذي يعد في التأصيل الفكري للسلفية التقليدية "أهل بدع" لعدم ارتكازه إلى مجلس شورى من العلماء.

3- تيار السلفية المعتدلة: وهو تيار سلفي يتزعمه "حماد القباج" المسئول الإعلامي السابق في جمعية القرآن والسنة، والذي جمعته خلافات عديدة مع محمد المغراوي بسبب خروج هذا الأخير بتصريحات ضد حركة الإخوان المسلمين في مصر، ما دفع البعض لإدراج القباج في خانة السلفية الحركية، حيث يرى القباج أن السلفية المعتدلة هي الحل لمواجهة الأفكار المتطرفة، وقد شكل القباج ورقة انتخابية رابحة لحزب العدالة والتنمية بعد دعوته للتصويت للحزب في انتخابات 2011، وتجديده نفس الدعوة خلال اقتراع 7 أكتوبر 2016 بعد رفض ملف ترشيحه من قبل وزارة الداخلية التي اتهمته بتبني خطاب يحرض على العنف والكراهية، وهو ما نفاه الأخير واستنكره. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العدالة والتنمية استفاد من دعم التيارات السلفية، منذ انتخابات 2011، التي راهنت عليه لحل ملف المعتقلين السلفيين في سجون المغرب.

4- تيار السلفية الجهادية: وهو تيار يدعو للقتال المسلح والعنف للوصول إلى دولة تتبنى الشريعة الإسلامية، وترتكز للشورى كمنهج في إدارة شئونها العامة، ويعد الراحلان علي البوصغيري وعبدالعزيز النعماني رائدي هذا التيار الذي لا يزال له تواجد في الساحة المغربية متجسدًا في أتباع حركة المجاهدين بالمغرب التي يقبع زعيمها محمد النوكاوي بالسجن، وتعد اللجنة المشتركة للدفاع عن حقوق المعتقلين الإسلاميين الناطقة باسم هذا التيار، حيث اتهم عبدالرحيم الغزالي المسئول الإعلامي باللجنة رموزَ التيارات السلفية المشاركة في الانتخابات الأخيرة بالتراجع عن الفكر السلفي وبخذلان المعتقلين السلفيين.

5- تيار المراجعة الفكرية: يجمع هذا التيار مجموعة من شيوخ السلفية الجهادية المعتقلين سابقًا على خلفية أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية، والذين استفادوا من عفو ملكي بعد الحراك الذي عرفته المنطقة العربية، ويضم التيار كلا من: محمد الفيزازي، وعبدالوهاب رفيقي "أبو حفص"، وحسن الكتاني، وعمر الحمدوشي، ويؤكد هذا التيار أن سنوات السجن أفضت إلى مراجعة فكرية وجذرية في التصورات السياسية للسلفية في المغرب، التي يرون أنها يجب أن تكون سلفية عقلانية وطنية تشارك في الساحة السياسية، وتنبذ خطاب العنف والكراهية، وتحترم ثوابت الأمة والمؤسسات الدستورية.

6- التيار السلفي للإصلاح السياسي: تيار سلفي حركي تأسس في 11 نوفمبر 2015 على يد عبدالكريم الشاذلي، معتقل سابق في ملف السلفية الجهادية على خلفية أحداث 16 مايو الإرهابية، والسلفيين الجهاديين السابقين حسن الخطاب الزعيم السابق لتيار الهجرة والتكفير، وعبدالرزاق سوماح القائد السابق لحركة المجاهدين بالمغرب. ويؤكد التيار ضرورة العمل السياسي السلمي من داخل المؤسسات للدفاع عن السلفية، ويقبل في إطار مبدأ التدرج بالديمقراطية كنظرية سياسية للوصول لدولة تحتكم للشريعة الإسلامية ترتكز على الشورى كمنهج للحكم. ويعد هذا التيار الجناح الدعوي لحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية.

استراتيجية إدماج رموز السلفيين واحتواء البعد الجهادي:

رغم الاختلاف الكبير في المرجعية العقائدية والتصورات الفكرية والأهداف بين السلفيين والنظام السياسي المغربي الذي يتبع المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، استطاع صناع القرار في الرباط، احتواء وإدماج رموز السلفيين في الحياة السياسية بالمغرب، باتباع استراتيجية محكمة ترتكز على مقاربة متعددة الأبعاد: دينيّة، وثقافية، وأمنية، وقانونية، وسياسية.

أولا: المقاربة الدينيّة والثقافية: اشتغل النظام السياسي المغربي جاهدًا على نشر أفكار التسامح والتعايش والمحبة، استنادًا إلى مبادئ الاعتدال والوسطية في الدين الإسلامي، وعمل على احتواء تنامي التيارات السلفية داخل مختلف الشرائح المجتمعية، بدعم وتشجيع التيارات الصوفية التي دائمًا ما تأخذ مكانًا منعزلا عن السياسة، وتدعو للتحلي بقيم الدين لمواجهة التطرف والعنف والكراهية.

هذا وتبنى المغرب برنامجًا لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، كما أعلن ملك المغرب عن مراجعة مناهج التعليم الديني لمواجهة التطرف والإرهاب، وقام بفتح باب الحوار مع السلفيين محاولة لتليين هذا الفكر عن طريق تنظيم وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ندوةً في أبريل 2015، جمعت مختلف شيوخ التيارات السلفية، تحت عنوان "السلفية: تحقيق المفهوم وبيان المضمون"، وهي ندوة نجحت إلى حد كبير في تحقيق أهداف النظام السياسي المغربي بوضع أسس مراجعة فكرية لتصورات وأهداف الفكر السلفي في المغرب.

ثانيا: المقاربة الأمنية: تبنى المغرب مقاربة أمنية صارمة، عقب أحداث 16 مايو 2003، وقام عبر المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بنهج استراتيجية استباقية تستهدف أشخاصًا لهم ميولات متطرفة، حيث نجحت المديرية في تفكيك عشرات الخلايا المتطرفة والإرهابية، وقام المغرب بتعزيز استراتيجيته الأمنية بإنشاء المكتب المركزي للأبحاث القضائية، والمختص بقضايا الإرهاب والاتجار بالمخدرات والأسلحة. وتمكن المكتب، منذ تأسيسه في مارس 2015، من تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية التابعة لتنظيم "داعش".

ثالثا: المقاربة القانونية: تبنّت الحكومة المغربية عقب الأحداث الإرهابية في 16 مايو 2003، قانون 03 ــ 03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، والذي أعطى مرونة للأجهزة الأمنية في عملها الاستباقي، بإرسائه أحكامًا تسهل من عمليات الأجهزة الأمنية تجاه الجماعات والحركات والتيارات المتطرفة، ووضع أحكام زجرية تتضمن عقوبات بالسجن عوقب على إثرها معظم رموز التيار السلفي الجهادي، وتم وضعهم بالسجن لمدة تصل إلى 30 عامًا. وتعزز هذا الإجراء بتبني الحكومة المغربية في سبتمبر 2014 قانونًا جديدًا يهدف إلى تكملة التشريعات المتعلقة بمحاربة الإرهاب.

رابعا: المقاربة السياسية: اتبع النظام السياسي المغربي -متجسدًا في الملك محمد السادس- مقاربة سياسية تكميلية للمقاربات السابقة، تهدف للانتقال من احتواء رموز التيار السلفي إلى إدماجهم في الحياة السياسية، وذلك باتباع ثلاث خطوات أساسية:

تتجلى الخطوة الأولى في بعث النظام السياسي رسائل لرموز التيارات السلفية داخل السجون في الخطابات الرسمية، بضرورة إجراء مراجعة فكرية، تفضي إلى الاعتراف بالمؤسسات الدستورية في المغرب والعملية السياسية واحترام ثوابت الأمة، ونبذ التطرف والإرهاب.

وتتمثل الخطوة الثانية في إصدار عفو ملكي عن بعض رموز السلفية الجهادية المعتقلين على خلفية أحداث 16 مايو، عقب إعلان هؤلاء علنًا عبر بيانات مسربة من معتقلاتهم، عن مراجعة فكرية، وتأكيدهم احترامهم التام لثوابت الأمة، ودعوتهم إلى الانخراط في الحياة السياسية.

تتمحور الخطوة الثالثة في سماح النظام السياسي المغربي لتلك الرموز بمزاولة نشاطها السياسي، والانخراط في الانتخابات، وهو أمر سيدفع بالتيار السلفي المعتدل إلى الاصطفاف إلى جانب العدالة والتنمية بحسبانه الحزب صاحب التوجهات الإسلامية الأكثر تنظيمًا، للوقوف في وجه تصاعد التيار العلماني ممثلا في حزب الأصالة والمعاصرة.

ويبقى هذا الإدماج رهين تحديات تمس بصلب الحقوق والحريات الفردية، فكيف يمكن لنا أن نتصور سلفيًّا من داخل البرلمان يشرع مثلا فيما يخص النهوض بحقوق المرأة وإشراكها في تدبير الشأن العام وصنع القرار.

ختامًا، لا يمكن بأي حال من الأحوال للنظام السياسي المغربي إدماج المكون السلفي في الحياة السياسية، والحد من تنامي مؤشرات التطرف والغلو لدى هذا المكون، دون التأسيس لبيئة داخلية تنبني على مقاربة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية حقيقية، تأخذ بعين الاعتبار تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن المغربي، سواء كان سلفيًّا أو علمانيًّا أو يساريًّا أو يمينيًّا. 

وبرغم الجهود الكبيرة من أجل احتواء وإدماج رموز الفكر السلفي في المغرب، فقد فشل النظام السياسي المغربي، إلى حد كبير، في إقناع أتباع رموز السلفية المدمجين بتبني نفس مسار مشايخهم، بل إن الصراع المعلن بين هذه الرموز حول توجهاتها السياسية أفضى إلى تكفيرها وشيطنتها من طرف الأتباع واتهامها بالتراجع عن الفكر السلفي، وهو ما أفضى إلى اعتناق العديد من الأتباع الفكر الداعشي، والتحاق المئات منهم بجبهات القتال في سوريا والعراق.