توازنات ميلي:

انعكاسات التحول الإيجابي في علاقات الأرجنتين والصين

24 October 2024


شهدت العقود الماضية تبني بعض رؤساء الأرجنتين في بداية توليهم السلطة نهجاً مُعاكساً بشأن علاقات بلادهم مع الصين، مُفاده إيلاء الأولوية للتحالف مع الولايات المتحدة والغرب، وتبني خطاب سياسي معادٍ للصين، بيد أنه بمرور الوقت يتضح لهؤلاء الرؤساء ضرورة تحوّل توجهاتهم تجاه بكين، في ضوء الاعتماد الاقتصادي والتجاري الكبير لبلادهم على ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ ما يدفعهم إلى التراجع عن خطابهم المُعادي للصين لاعتبارات الواقعية السياسية، ومن ثم تغيير مواقفهم تجاه الصين. ولا يُعد الرئيس الأرجنتيني الحالي خافيير ميلي استثناءً من تلك القاعدة؛ إذ دعا إلى إصلاح السياسة الخارجية لبلاده تجاه الصين، جنباً إلى جنب مع ما يجمع بلاده من علاقات تعاونية مع الولايات المتحدة. 

وهو ما يطرح التساؤل بشأن دوافع وأسباب التحوّل الإيجابي في موقف ميلي تجاه الصين، وذلك في ضوء إعلانه مؤخراً اعتزامه زيارة الصين في يناير المقبل (2025)، والتداعيات المُحتملة لذلك التحوّل؟

ملامح العلاقات:

شهدت العلاقات بين الأرجنتين والصين توتراً ملحوظاً، عند تولي الرئيس خافيير ميلي مهام منصبه في أواخر عام 2023، في ضوء ما صدر عنه من تصريحات ومواقف ضد الصين، وكذلك تحركاته الخارجية؛ وهو ما أثار غضب بكين تجاه بوينس آيرس. ويمكن توضيح أبرز ملامح هذه العلاقات في الآتي:

1. انتقادات ميلي للصين: وجّه الرئيس ميلي خلال حملة الانتخابات الرئاسية العديد من الانتقادات للصين؛ إذ صرّح بأنه لن يُعزز العلاقات السياسية مع بكين أو أي دولة شيوعية أخرى، كما أنه سيركز في إدارة العلاقات من خلال القطاع الخاص، معتبراً أن "التجارة غير ممكنة مع قاتل"، على حد قوله. كذلك، انتقد ميلي خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في بداية العام الجاري (2024)، الاشتراكية والاقتصادات التي تعتمد على الدولة بشكل كبير، مثل الصين، واصفاً إياها بأنها تمثل خطراً على الغرب. 

ورغم قيام وزيرة الخارجية الأرجنتينية ديانا موندينو بزيارة رسمية لبكين؛ بهدف تهدئة التوترات الأخيرة وإعادة التقارب مع الحكومة الصينية، فقد أصدرت تصريحاً بعد عودتها من الزيارة، تهكّمت فيه على الصينيين، بقولها: إن "الصينيين يشبه بعضهم بعضاً"، وهو التصريح الذي وصفته بكين بأنه عنصري.

2. التعاون الاقتصادي والتجاري: ترتبط الأرجنتين بعلاقات اقتصادية وتجارية قوية مع الصين، إذ تقوم الثانية باستثمار مليارات الدولارات في مُختلف قطاعات الاقتصاد الأرجنتيني، فضلاً عن تمويل العشرات من مشروعات البنية التحتية. وفي المُقابل، تعمل الصين على تأمين إمدادات الغذاء والمعادن المهمة، مثل الليثيوم، وتسويق منتجاتها الصناعية في الأرجنتين. وقد انضمت الأرجنتين رسمياً في عام 2022، إلى مُبادرة الحزام والطريق الصينية؛ بهدف جذب المزيد من الاستثمارات إلى اقتصادها.

وفي يونيو 2024، وافقت الصين على تجديد شرائح مُقايضة العملات بقيمة 35 مليار يوان (5 مليارات دولار) مع البنك المركزي الأرجنتيني حتى يوليو 2026، وهي خطوة أكّدت الحكومة الأرجنتينية أهميتها بشأن إدارة تدفقات ميزان المدفوعات في البلاد.

كما شهدت التجارة الثنائية بين الأرجنتين والصين تزايداً ملحوظاً. فقد زادت الصادرات الأرجنتينية إلى الصين بنحو ثمانية أضعاف، من 1.09 مليار دولار في عام 2002 إلى 7.93 مليار دولار في عام 2022، في حين زادت الواردات الأرجنتينية من الصين بأكثر من 53 ضعفاً، من 330 مليون دولار في عام 2002 إلى 17.5 مليار دولار في عام 2022. وتتمثل الصادرات الرئيسية للأرجنتين إلى الصين في السلع الزراعية، وخاصة فول الصويا ولحوم البقر والشعير، في حين استوردت الأرجنتين مجموعة من السلع والخدمات المصنعة ذات القيمة المضافة الأعلى من الصين، بما في ذلك الهواتف وأجهزة الكمبيوتر.

3. رفض الأرجنتين الانضمام إلى تكتل "البريكس": أعلنت الأرجنتين رسمياً في 29 ديسمبر 2023، أنها لن تنضم إلى تكتل "البريكس" للاقتصادات الناشئة، وهي الخطوة التي بررها الرئيس ميلي بأن اللحظة ليست مناسبة لانضمام بلاده كعضو كامل إلى "البريكس". وكانت الأرجنتين من بين ست دول تمت دعوتها في أغسطس 2023 للانضمام إلى التكتل الذي يتكون من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. وكان من المقرر أن تنضم الأرجنتين في الأول من يناير 2024.

4. التقارب مع الولايات المتحدة: تبنى الرئيس ميلي في سياسته الخارجية العديد من الخطوات للاقتراب أكثر من حليفته الولايات المتحدة؛ إذ عطّل خطط الانضمام إلى تكتل "البريكس"، واشترى طائرات أمريكية الصنع للقوات الجوية الأرجنتينية، بدلاً من الطائرات الصينية والهندية. كما عمل على التقرب من حلفاء واشنطن. وحاول أيضاً إعادة بناء الثقة مع المستثمرين الأمريكيين، وأبدى ارتياحه تجاه ترشح ترامب للرئاسة الأمريكية مرة أخرى.

كذلك، عمل ميلي على تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة؛ وهو ما تجلى في بدء تدشين قاعدة بحرية أمريكية في إبريل 2024، في أقصى جنوب الأرجنتين؛ لرصد حركة الملاحة العالمية في مضيق ماجلان الرابط بين المحيطين الهادئ والأطلسي؛ وهو ما ستترتب عليه إعاقة طموحات الصين في التحرك بحرية في الممرات البحرية بمضيق ماجلان، والتنقل بين المحيطين الأطلسي والهادئ دون نيل الموافقة الأمريكية.

دوافع مُتباينة:

لم يأت التحوّل الإيجابي في مواقف ميلي تجاه الصين من فراغ، وإنما جاء نتيجة مجموعة من الدوافع والاعتبارات المتباينة، والتي يمكن توضيحها في الآتي:

1. الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين: تواجه الأرجنتين في الوقت الحالي أزمة اقتصادية حادّة، أدت إلى زيادة معاناة سكانها في ظل ثبات الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة وتقليص الدعم الحكومي. كما يُتوقع أن يصل معدل التضخم السنوي في الأرجنتين، والذي يُعد الأعلى في العالم، إلى نحو 124% في عام 2024. وبلغ هذا المعدل 237% في أغسطس الماضي، فضلاً عن زيادة معدلات الفقر إلى نحو 53%.

وقد دفعت هذه الأزمة، طبقاً لبعض التقديرات، الرئيس ميلي إلى تغيير مواقفه تجاه الصين ليس فقط نتيجة نهجه البراغماتي في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها بلاده، وإنما أيضاً لصعوبة تخلي أو انفصال الأرجنتين عن الصين في ظل الأزمة التي تعاني منها. ومن أبرز مُؤشرات هذا التحول تصريحه بعدم المساس باتفاقيات التجارة القائمة مع بكين، واستمرار العلاقات التجارية بين الدولتين دون تغيير، بجانب استمرار اتفاقية مبادلة العملات بقيمة 18 مليار دولار.

2. التغيير الإيجابي لحكومة ميلي تجاه الصين: قامت الحكومة الأرجنتينية الجديدة منذ تولي ميلي مهام منصبه بتخفيف مواقفها تجاه الصين؛ إذ وجّه الشكر للرئيس الصيني شي جين بينغ على تهنئته له بتولي منصبه الرئاسي، وأكد في تصريح له في إبريل 2024 السماح للقطاع الخاص بممارسة الأعمال التجارية مع الصين. 

كما وصف ميلي الصين مؤخراً بأنها "شريك تجاري مُثير للاهتمام"، مؤكداً "أنه فوجئ بشكل إيجابي بالصين"، وشكر بكين على قيامها بتجديد اتفاقية مبادلة العملات؛ الأمر الذي ساعد بلاده على الوفاء بالتزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي.

وبدورها، عملت وزيرة الخارجية ديانا موندينو على تهدئة التوترات في العلاقات مع الصين، بتأكيدها أن الأرجنتين لن تقطع العلاقات مع الصين، ولكنها ستسعى بدلاً من ذلك إلى تعزيز التجارة الخاصة بين البلدين. كما التقت موندينو بالسفير الصيني لدى بوينس آيرس وانغ وي، في يناير الماضي، إذ أكّد الطرفان أهمية الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي وقعتها الدولتان قبل 10 سنوات. كما عقدت أيضاً لقاءً مع نظيرها الصيني وانغ يي، في فبراير 2024 على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، لتأكيد التزامهما بالحفاظ على قوة العلاقات بين الأرجنتين والصين.

3. إيجابية موقف بكين تجاه العلاقات مع الأرجنتين: على الرغم من الانتقادات التي وجهها ميلي ضد الصين، فإن الأخيرة تبنت نهجاً براغماتياً في التعامل مع مواقف ميلي السلبية تجاهها، وحرصت على إدارة العلاقات مع الأرجنتين بما يمنع انزلاقها إلى مزيد من التدهور، من خلال طرح وجهة نظر إيجابية للعلاقات بين الدولتين. فقد تعهّد الرئيس الصيني شي جين بينغ بالعمل مع ميلي؛ بهدف تحقيق التنمية السليمة للعلاقات الصينية الأرجنتينية، وقام بتوجيه التهنئة له على انتخابه رئيساً للأرجنتين. 

كذلك، أكّدت التصريحات الصادرة عن بكين تقدير الصين للتطور الذي تشهده علاقاتها مع الأرجنتين من منظور استراتيجي وطويل الأمد، واستعدادها للتعاون مع حكومة ميلي لتحقيق التنمية المستدامة والمستقرة للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الدولتين.

4. عزوف واشنطن عن تلبية مطالب ميلي: أرجعت بعض التقديرات التغير في نهج ميلي تجاه الصين إلى خيبة أمل الرئيس الأرجنتيني في استجابة الولايات المتحدة للمبادرات التي طرحها. وهناك من يشير إلى أن ميلي ربما يكون قد أخفق في فهم طبيعة وديناميكيات السياسة الخارجية الأمريكية، باعتقاده أن التعبير عن التوافق الكامل مع واشنطن سيكون كافياً للحصول على الدعم المالي والاستثمارات من الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يخالف الواقع.

تداعيات مُحتملة:

يطرح التحول الإيجابي في موقف الرئيس ميلي تجاه الصين العديد من التداعيات المحتملة، والتي يمكن توضيحها في الآتي:

1. نتائج إيجابية للاقتصاد الأرجنتيني: من المُتوقع أن تُسفر الزيارة المُرتقبة للرئيس ميلي إلى الصين في يناير المقبل عن نتائج إيجابية للاقتصاد الأرجنتيني، من خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي سيتم التوصل إليها بين الدولتين؛ وهو ما قد يفتح المجال أمام قيام الصين بضخ استثمارات في مجالات حيوية للاقتصاد الأرجنتيني، مثل تعدين الليثيوم، والذي تمتلك الأرجنتين 21% من رواسبه المعروفة في العالم، وهو مكون أساسي في بطاريات السيارات الكهربائية. 

كما يُتوقع أيضاً أن تتوسع صادرات الأرجنتين من السلع الزراعية، وكذلك الليثيوم والمعادن الأخرى، إلى الصين، في السنوات المقبلة مع تعافي الاقتصاد الأرجنتيني، بجانب تزايد واردات الأرجنتين من الإلكترونيات والسيارات وغيرها من السلع والخدمات الصينية المصنعة.

2. إمكانية عودة الأرجنتين إلى "البريكس": يتمثل أحد التداعيات المحتملة للتحول الذي طرأ على موقف ميلي تجاه الصين، في إمكانية قيام الأرجنتين بإعادة النظر في قرارها برفض الانضمام إلى تكتل "البريكس"؛ إذ من المُتوقع أن يحاول الرئيس الصيني شي جين بينغ إقناع نظيره الأرجنتيني بما سيترتب على انضمام بلاده لتكتل "البريكس" من مزايا اقتصادية، ولاسيما أن الاقتصاد الأرجنتيني يعاني بالفعل من أزمة اقتصادية حادّة، تحتاج مواجهتها إلى تفعيل التعاون مع القوى الدولية الكبرى، وخاصة دول "البريكس" وعلى رأسها الصين، إحدى القوى الرئيسية الفاعلة في التكتل. وربما تصدر قمة "البريكس" المرتقب عقدها في روسيا في الفترة من 22 إلى 24 أكتوبر 2024، قراراً أو بياناً بإعادة ضم الأرجنتين إلى التكتل مرة أخرى، بناءً على ضغط من جانب الصين، والتي من مصلحتها ضم الأرجنتين إلى التكتل لكسب مزيد من النفوذ في أمريكا اللاتينية ودول الجنوب العالمي.

3. إشكالية مُوازنة العلاقات بين الصين والولايات المتحدة: من شأن التحول الذي طرأ على موقف الرئيس ميلي تجاه الصين أن يؤدي إلى إثارة مخاوف الولايات المتحدة، التي ترى أن من مصلحتها أن تنفصل الأرجنتين عن الصين، أو على الأقل تقلل علاقاتها مع بكين إلى حدها الأدنى. وينطوي هذا الموقف من جانب ميلي على مخاطر عدّة بالنسبة لبلاده، في ضوء حاجتها إلى المساعدة من جانب الولايات المتحدة لإقالة اقتصادها من عثرته، وخاصة مسألة إعادة التفاوض على ديون الأرجنتين لصندوق النقد الدولي والتي تبلغ قيمتها 45 مليار دولار، والتي تواجه الأرجنتين صعوبات كبيرة في تسديدها. وفي الوقت نفسه، فإن ميلي يحتاج أيضاً إلى الصين، ولاسيما سوقها الضخمة المهمة بالنسبة لبلاده؛ الأمر الذي يجعله يواجه إشكالية ضرورة الموازنة في علاقاته الخارجية بين الصين والولايات المتحدة، في ضوء المنافسة المتزايدة بين القوتين الكبريين في النظام الدولي الراهن.

4. تنامي نفوذ الصين في أمريكا اللاتينية: من شأن حدوث تحسن في العلاقات بين الأرجنتين والصين أن يمثل انتصاراً كبيراً للأخيرة في المنافسة مع الولايات المتحدة على النفوذ والهيمنة في أمريكا اللاتينية، ولاسيما أن الأرجنتين تُعد قوة إقليمية كبرى في القارة، كما استثمرت بكين نحو 155 مليار دولار في مشروعات البنية التحتية في المنطقة منذ عام 2005. 

وهذا التزايد في نفوذ الصين أكّدته عدة مؤشرات. فقد انضمت كولومبيا مؤخراً إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، في خطوة عكست استراتيجية كولومبيا بشأن تنويع تحالفاتها الدولية بما يتجاوز اعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة، شريكها التجاري والعسكري الرئيسي. كما اقترحت بيرو بدائل تسمح للسفن الصينية التي تقوم بدخول الموانئ البيروفية بعدم الالتزام بقواعد تتبع الأقمار الاصطناعية. 

وفي التقدير، يمكن القول إن العلاقات بين الأرجنتين والصين، ورغم ما بدا عند تولي الرئيس ميلي الحكم في بوينس آيرس بأنها كانت فاترة، إلا أن الواقع الاقتصادي والحسابات المتغيرة في العلاقة مع واشنطن، تفرض على الأرجنتين أن تنتهج منحى أكثر تعاوناً مع بكين، بما يضع حداً لأي خلاف مُستقبلي قد يحدث بين الطرفين، في ضوء المصالح التجارية والاستثمارية والجيوسياسية التي تجمع بينهما. ومن ثم، فإنه من المرجح أن تعمل الدولتان على تهدئة التوترات السياسية التي شابت علاقاتهما مؤخراً، تمهيداً لتحقيق الاستقرار في العلاقات بينهما، ارتكازاً على اعتبارات الواقعية السياسية والمصالح الاقتصادية المُتبادلة.