تحديات ماثلة :

ما تداعيات الانسحاب الأمريكي المُحتمل من العراق؟

25 September 2024


يجري الجانبان الأمريكي والعراقي، خلال سبتمبر 2024، مُشاورات بشأن اتفاق حول خطة انسحاب قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من الأراضي العراقية، وأوضحت مصادر أن الخطة تتضمن خروج مئات من قوات التحالف بحلول سبتمبر من عام 2025، والبقية بحلول نهاية العام التالي. وينتظر الاتفاق موافقة قيادتي البلدين وتحديد موعد للإعلان عنه.

مُلاحظات أساسية:

يمكن إبداء عدد من الملاحظات إزاء ما تم الإفصاح عنه بشأن خطة الانسحاب الأمريكي من العراق، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. غياب اتفاقية رسمية: أعلن وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي أن بغداد توصلت إلى اتفاق مع واشنطن بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق على مدى عامين، مؤكداً أنه تم الاتفاق على إنهاء مهمة التحالف على مرحلتين تبدأ المرحلة الأولى من سبتمبر 2024 حتى سبتمبر 2025، وتشمل انسحاب القوات الأمريكية من بغداد والقواعد العسكرية التي يعمل بها المستشارون الأمريكيون، والمرحلة الثانية تمتد من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026، وستشمل انسحاب القوات الأمريكية من قواعدها في إقليم كردستان. 

ورغم ذلك؛ فإن تلك الخطط تظل مجرد تفاهمات؛ لأن البلدين لم يوقّعا حتى الآن على اتفاقية رسمية، مع إشارة الجانب العراقي إلى إمكانية توقيعهما لها خلال سبتمبر 2024. 

2. الإبقاء على عدد من القوات: من خلال تصريحات المسؤولين العراقيين والأمريكيين؛ فإن الغرض من التفاهمات و(الاتفاقية المتوقعة) ليس الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي وإنهاء عملية العزم الصلب، وهي الحملة العسكرية التي بدأتها واشنطن في 2014 ضد تنظيم داعش الإرهابي، ولكن إعادة إنشاء علاقة تعاون دفاعي جديدة بين بغداد وواشنطن؛ إذ من المُرجّح أن تلبي هذه العلاقة تطلعات بغداد في تخفيض عدد قوات التحالف الدولي والقوات الأمريكية في العراق، إلّا أنه من المُتوقع بقاء عدد من القوات الأمريكية في العراق تحت بند التدريب والاستشارة. ومع ذلك؛ فإنه لم تتم الإشارة إلى أعداد القوات الأمريكية أو التي تتبع قوات التحالف الدولي، والتي من المتوقع أن تبقى في العراق بصفة استشارية وتدريبية بعد إتمام مراحل الانسحاب الأمريكي من العراق في 2026.

3. الاحتفاظ بصلاحية التدخل: لا تتضمن التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الجانبين العراقي والأمريكي ما ينص على تعهد واشنطن بعدم التدخل العسكري، ولو بصورة ضربات جوية ضد أهداف معادية في العراق، من دون تنسيق مع الجانب العراقي الرسمي. 

تداعيات مُحتملة:

من المُرجّح أن تفرز التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الجانبين العراقي والأمريكي مجموعة من التداعيات على الداخل العراقي، قد يمتد تأثيرها إلى محيط العراق الإقليمي، فضلاً عن تأثيرها في الولايات المتحدة نفسها، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. بالنسبة للجانب العراقي: يمتد تأثير الانسحاب الأمريكي المُحتمل من العراق إلى ثلاثة فواعل رئيسية في المشهد السياسي العراقي وهم: رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، والإطار التنسيقي والفصائل المسلحة الموالية لإيران، والأكراد.

فبالنسبة لرئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، فإن الانسحاب الأمريكي إن حدث سيمثل انتصاراً سياسياً لحكومته؛ إذ سيعمل اتفاق الانسحاب على تحقيق عدّة مكاسب سياسية بالنسبة لرئيس الوزراء، المكسب الأول هو الوفاء بوعوده بإخراج القوات الأمريكية من العراق، وهي الوعود التي قطعها منذ بداية توليه الحكومة في 2022، والمكسب الثاني هو تلبية مطلب أساسي بالنسبة لقوى الإطار التنسيقي وهو إخراج القوات الأمريكية من البلاد؛ ومن ثم تهدئة التوترات المتصاعدة بين الحكومة والإطار؛ إذ برزت في الشهور الأخيرة خلافات بين بعض الأطراف في الإطار التنسيقي وبعض الفصائل المسلحة ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني حول تأجيل حسم المفاوضات العراقية الأمريكية لإنهاء مهمة التحالف الدولي وانسحاب القوات الأمريكية، فضلاً عن ذلك فإن علاقة حكومة محمد شياع السوداني بقوى الإطار أضحت تزداد توتراً، ولاسيما في أعقاب اعتقال مسؤولين كبار في مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، لتورطهم في إدارة شبكة تنصت على قوى سياسية في العراق؛ مما أدى إلى مطالب داخل الإطار التنسيقي بسحب الثقة من حكومة السوداني؛ لذا فإن تحقيق مطلب الإطار بالانسحاب الأمريكي من العراق قد يُهدئ من الأجواء المتوترة بين السوداني والإطار.

أما المكسب الثالث، فهو أن الصيغة الحالية للتفاهمات بشأن الانسحاب الأمريكي، إن تم تطبيقها ستحافظ على العلاقات المتميزة بين واشنطن والعراق؛ إذ لن تؤدي التفاهمات إلى الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية وإنما الإبقاء على بعضٍ منها في العراق، والمكسب الرابع، هو إمكانية اعتماد رئيس الوزراء العراقي على هذا الاتفاق في الترويج لنفسه بوصفه رجلاً قادراً على المحافظة على علاقات متميزة مع كلٍ من واشنطن وطهران، وأنه يستطيع تجنيب العراق مخاطر الانخراط في حرب إقليمية مُكلّفة؛ وهو ما من المُرجّح أن يستعمله رئيس الوزراء في الترويج لنفسه مع قرب الانتخابات النيابية في 2025.

2. بالنسبة لقوى الإطار والفصائل المُسلّحة: يُعد الانسحاب الأمريكي المُحتمل مكسباً مهماً بالنسبة لقوى الإطار التنسيقي والفصائل المسلحة؛ إذ يخدم ذلك الانسحاب من الناحية السياسية قوى الإطار، وذلك بإعلان النجاح في إخراج القوات الأمريكية من البلاد، وهو عنصر أساسي في الأجندة السياسية لقوى الإطار منذ تشكيله، وسيستفيد الإطار أيضاً من إخراج القوات الأمريكية في حشد قواعده الانتخابية وأنصاره ومحاولة استقطاب ناخبين جدد، وذلك من خلال استغلال هذا الانسحاب انتخابياً كعنصر أساسي في برامج مرشحي الإطار. 

وبالنسبة للفصائل المسلحة، فإن الانسحاب الأمريكي يمثل مكسباً مهماً لها؛ إذ سيسمح لها بزيادة نفوذها في العراق دون ممانعة تذكر، كما سيسمح الانسحاب الأمريكي بتمدد عمليات الفصائل المُسلّحة الموالية لإيران، ولاسيما في مجال نقل الأسلحة والصواريخ عن طريق العراق، وذلك دون وجود مراقبة أمريكية.

3. بالنسبة للأكراد: يُعد الأكراد الخاسر الأكبر من الانسحاب الأمريكي من العراق؛ إذ من المتوقع أن يضعف الانسحاب الأمريكي إقليم كردستان، الذي يستفيد من الوجود العسكري الأمريكي على أرضه، هذا فضلاً عن الاستفادة من الدعم العسكري الأمريكي لقوات البيشمركة الكردية سواء من خلال التدريب أم التسلح، وبغض النظر عن أن الانسحاب الأمريكي قد يضر بقدرات البيشمركة العسكرية، إلا أن تعاظم نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران الذي سيعقب الانسحاب؛ سيؤدي إلى تداعيات سلبية على إقليم كردستان، فهناك العديد من الملفات العالقة بين بغداد وأربيل، وعلى رأسها مسألة توزيع عائدات النفط وقضية مدينة كركوك المتنازع عليها من الإقليم والحكومة الاتحادية؛ لذا فإن تعاظم دور الفصائل المسلحة في العراق ما بعد الانسحاب الأمريكي سيضر بالموقف الكردي في هذه القضايا. 

4. بالنسبة للأطراف الإقليمية: من المُرجّح أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إن حدث إلى تأثيرات تطال بشكلٍ أساسي إيران وتركيا، فبالنسبة لإيران، فإن الانسحاب الأمريكي يعني انتصار طهران في معركتها ضد واشنطن في العراق؛ ومن ثم، فإن النفوذ الإيراني في العراق سيكون غير منافس، وستعمل إيران على الاستفادة من الغياب الأمريكي في العراق لتمديد نفوذها داخل العراق؛ إذ يشمل ذلك النفوذ السياسي والاقتصادي، ولعل زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العراق يوم 11 سبتمبر 2024، قد تكون ذهبت في سبيل بحث ترتيبات إيرانية لما بعد الانسحاب الأمريكي، كما من المُرجّح أن يزداد اعتماد إيران على العراق لنقل الأسلحة والمعدات العسكرية عبره إلى لبنان في المرحلة التي تلي الانسحاب الأمريكي.

بالنسبة إلى تركيا، فمن المُرجّح أن تستفيد تركيا من الانسحاب الأمريكي من خلال توسيع عمليتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي، كما أنه من المستبعد أن تتوصل أنقرة إلى تفاهمات ثنائية مع حكومة كردستان، ولاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني، تتناول طبيعة الوجود التركي في الشمال العراقي بما يضمن الاستقرار في مناطق سيطرة الحزب والتعاون في محاربة حزب العمال الكردستاني.

5. بالنسبة للولايات المتحدة: سيؤدي الانسحاب الأمريكي في حال تنفيذه إلى تداعيات محتملة قد تمتد لتشمل الداخل الأمريكي وسياسة واشنطن في المنطقة أيضاً. فداخلياً؛ تأتي التفاهمات الأخيرة بخصوص الانسحاب الأمريكي في توقيت حساس وهو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من الأمريكيين، ولاسيما في فئة الشباب يرون أنه يجب سحب القوات الأمريكية من العراق، فإن هناك تخوفات في أوساط النخبة من إعادة إنتاج نموذج انسحاب فوضوي آخر مثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في 2021؛ بما قد يضر بصورة الولايات المتحدة ويضر بحلفائها في المنطقة أيضاً، ويأتي الانسحاب الأمريكي في هذا التوقيت؛ ليشكل ضرراً لحملة المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس؛ إذ من المتوقع أن يتناول الجمهوريون وحملة المرشح الجمهوري دونالد ترامب موضوع الانسحاب كقضية انتخابية، مع تأكيد فشل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي الديمقراطي جو بايدن - التي تُعد هاريس جزءاً منها - في السياسة الخارجية، كما من المرجح أن يتخذ المرشح الجمهوري دونالد ترامب من الانسحاب الأمريكي من العراق قضية لتأكيد ما سبق واتهم به إدارة بايدن وهاريس، من حيث الاستسلام لإيران.

على الجانب الإقليمي، فإن أي انسحاب واسع النطاق وغير منظم للقوات الأمريكية سيضر بالنفوذ الأمريكي في المنطقة؛ إذ سيسمح هذا الانسحاب لإيران بالتمدد في العراق، وأيضاً المساهمة في تعزيز مواقعها في سوريا. إضافة إلى ذلك؛ فإن الانسحاب الأمريكي يظهر مُجدداً عدم الالتزام الأمريكي بأمن المنطقة ومواجهة إيران، وعدم وضع الشرق الأوسط كمنطقة ذات أهمية استراتيجية بالمقارنة بمسرح عمليات المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا، كما أن الانسحاب الأمريكي من العراق قد يظهر تناقضاً في السياسة الأمريكية، ما بين الدفع بعدد كبير من المعدات والذخائر والمساعدات العسكرية لمساندة إسرائيل، في حين تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن مواجهة الخطر الإيراني، الذي قد يكون بمثابة تهديد لدول المنطقة في حال عدم تحييده.

مستقبل الانسحاب:

من الواضح أن مستقبل الانسحاب الأمريكي من العراق، وتنفيذ التفاهمات أعلاه سيتوقف على عدد من المحددات، وهو ما يمكن الإشارة إليه كما يلي:

1. نتيجة الانتخابات الأمريكية: ففي حال فوز كامالا هاريس، فإنه من المرجح أن تعمل إدارتها على تخفيض عدد القوات الأمريكية في العراق، وذلك في استكمال لتوجه إدارة بايدن واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنة 2022، التي تقضي بأولوية مسارح عمليات أخرى غير الشرق الأوسط، كتوجه استراتيجي للولايات المتحدة، أهمها مسرح عمليات جنوب شرق آسيا؛ وذلك للمنافسة مع الصين ومنع توسعها.

على النقيض قد يتبنى دونالد ترامب إذا فاز بالانتخابات، خطاً مُتشدداً تجاه طهران؛ إذ من المرجح أن يعيد ترامب تطبيق سياسة الضغوط القصوى (Maximum Pressure) إزاء إيران وسينطوي ذلك بالطبيعة على جعل العراق ساحة للتنافس مع إيران.

2. خطر داعش: يُعد الغرض الرئيسي من وجود القوات الأمريكية في العراق، هو مُحاربة ومنع إعادة إحياء تنظيم داعش؛ لذا فإن العنصر الجوهري في تطبيق الانسحاب الأمريكي من العراق أم عدمه، هو حالة التنظيم ووجوده على الأرض وقدرة القوات الأمنية العراقية على احتواء خطره، ففي حال بقاء خطر التنظيم محدوداً واستمرار فاعلية الضربات الأمنية التي توجهها قوات الأمن العراقية للتنظيم فلن يوجد مُبرر لبقاء القوات الأمريكية في العراق، أما في حال تفاقم خطر التنظيم في الشهور المقبلة؛ فإن ذلك قد يعطي المبرر للولايات المتحدة أو القوى المحلية المتحالفة معها (الأكراد) لطلب تمديد بقاء القوات الأمريكية في العراق.

وفي التقدير، يمكن القول إن الانسحاب الأمريكي من العراق، من الممكن أن يشكل فجوة أمنية؛ ستنتج عن فارق القدرات التكنولوجية التي توظفها القوات الأمريكية في العراق؛ إذ تمتلك الولايات المتحدة قدرات استخباراتية وقدرات استطلاع مُتطورة تسمح لها بمراقبة خطر تنظيم داعش وتوجيه ضربات استباقية له، على أن هذه الفجوة من المرجح أن تكون وقتية إلى حين تمكن القوات الأمنية العراقية (الجيش، الحشد الشعبي، الشرطة الاتحادية) من بناء القدرات الخاصة بها للتصدي لتنظيم داعش، إلا أن ذلك مرهون في المقام الأول بتركيز هذه القوات، ولاسيما فصائل الحشد الشعبي على محاربة تنظيم داعش وعدم الانجرار وراء المشاركة في حرب إقليمية.