أولويات مغايرة:

لماذا يتراجع ملف المناخ في تفضيل الناخبين لهاريس أو ترامب؟

02 September 2024


تُعد أزمة المناخ إحدى أبرز القضايا الدولية التي تحظى بزخم دولي بفعل تأثيراتها الحادة والمتطرفة على المجتمعات والدول كافة؛ لذا أُدرِج العمل المناخي على قمة الأجندات الدولية والوطنية لمجابهة تحدياته وسياقاته المتباينة، كما أنه تداخل مع العمل السياسي بشكل كبير وبات عاملاً مؤثراً في عملية صُنع القرار السياسي. 

وتشهد الانتخابات الأمريكية المقررة في نوفمبر 2024 منافسة قوية بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتمثل قضية تغير المناخ وموقف مرشحي الرئاسة منها سواء كامالا هاريس أم دونالد ترامب، إحدى القضايا المثارة في هذه الانتخابات. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل، ما موقف مرشحي الرئاسة الأمريكية من تغير المناخ؟ وهل يمكن أن يكون له تأثير في نتائج انتخابات هذا العام؟

خسائر المناخ: 

شهدت الولايات المتحدة خلال عام 2023 أكثر من 25 كارثة مرتبطة بالطقس والمناخ، تسببت في خسائر اقتصادية بلغت تكلفتها نحو 73 مليار دولار فضلاً عن مئات الأرواح؛ بسبب موجات الطقس الحادة كالعواصف والأمطار الغزيرة وارتفاع مستوى سطح البحر، ودرجات الحرارة المرتفعة وموجات الجفاف وحرائق الغابات، خاصةً في مناطق الشمال الشرقي التي تُعد من بين الأكثر عُرضة لمخاطر الظواهر الجوية الحادة.

وعلى الرغم من الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي حول أهمية تأثيرات المناخ ووضعها كأولوية لصانع القرار؛ فإن ثمة اتفاقاً على أهمية الحد من الأسباب التي تُفاقم تلك الأزمة من خلال التحول باتجاه الطاقة المتجددة والمشروعات المستدامة. فوفقاً لاستطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في أكتوبر 2016، فإن نحو 36% من الأمريكيين المهتمين بقضايا المناخ، سواء ديمقراطيين أم جمهوريين، يعتبرون أن البشر يؤدون الدور الحاسم في التسبب في الظواهر المناخية، كما يثقون في علماء المناخ وقدرتهم على تقديم الأدلة الكافية بشأن أسباب تغير المناخ.

مواقف متباينة:

لفهم حدود العلاقة والتأثير بين قضية تغير المناخ وانتخابات الرئاسة الأمريكية 2024، يتعين أن نتناول موقف المرشحين هاريس وترامب من تلك القضية، كالتالي: 

1- دعم هاريس: كانت الحملة الانتخابية للرئيس الحالي بايدن ونائبته هاريس، تقوم على استهداف الحد من الانبعاثات الدفيئة بنسبة من 50 إلى 52% بحلول عام 2030، بالإضافة إلى استهداف إنتاج الكهرباء غير المُلوِّثة من المصادر النظيفة بنسبة 100% بحلول عام 2035، والتحول الكامل بالاقتصاد الأمريكي إلى الاقتصاد المستدام الخالي من الانبعاثات بحلول 2050، وتقديم 40% من الفوائد من الاستثمارات الفدرالية في ملف المناخ والطاقة النظيفة للمجتمعات التي تعاني نقصاً في التنمية.

وأسفرت جهود الإدارة الأمريكية الحالية عن عدد من الخطوات، كان من أهمها إقرار الكونغرس قانون خفض التضخم الذي يستهدف معالجة أزمة المناخ من خلال تخصيص نحو 400 مليار دولار على مدى العقد المقبل للقضاء على الانبعاثات الكربونية، وقانون البنية التحتية الذي يسهم في عملية الانتقال للطاقة النظيفة، واتخاذ إجراءات تنفيذية تستهدف حماية البيئة والصحة العامة ومكافحة التلوث وتحقيق العدالة البيئية بغرض حماية أكثر من 41 مليون فدان من الأراضي والمياه العذبة، فضلاً عن إعلان الشركات الأمريكية عن ضح استثمارات لتشييد نحو 580 منشأة لإنتاج الطاقة النظيفة.

وبلغت الاستثمارات الأمريكية في عهد إدارة بايدن في مشروعات الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية والبطاريات وتصنيع التوربينات والألواح الشمسية، أكثر من 390 مليار دولار، فضلاً عن العمل على تحقيق العدالة المناخية من خلال إطلاق أجندة العدالة المناخية التي تستهدف دمج العدالة البيئية في نطاق عمل الوكالات الفدرالية؛ وذلك لمواجهة كافة الأعمال التي تضر بالبيئة، بالإضافة إلى إمكانية استفادة المواطنين الأمريكيين من الضمانات المنصوص عليها في قوانين الحقوق البيئية والمدنية الأساسية؛ وذلك لضمان حماية الهواء من التلوث والحد من الإصابة بالأمراض الناتجة عن تلوث الهواء ودعم إمكانية الوصول إلى المساحات الخضراء. 

علاوة على الخلفية السابقة لهاريس كنائبة للرئيس بايدن، وتبنيها ملف المناخ بحكم منصبها؛ فإنها عززت موقفها المؤيد للعمل المناخي فور إعلان خوضها السباق الانتخابي 2024 كمرشحة للحزب الديمقراطي، وإعلان بعض الحركات الداعمة للعمل البيئي والمناخي دعم ترشيحها؛ بسبب تاريخها المهني الداعم لملف العدالة المناخية، وملاحقتها لشركات النفط أثناء توليها منصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا، ودعوتها إلى خفض استهلاك اللحوم الحمراء من أجل الإسهام في مكافحة تغير المناخ، وموقفها الداعم لقانون خفض التضخم في إدارة بايدن، والذي يُعد إنجازاً مهماً في الولايات المتحدة؛ لأنه يدعم الانتقال العادل للطاقة باتجاه الطاقة النظيفة والمستدامة.

وتعتبر هاريس أن تغير المناخ والظواهر المصاحبة له بمثابة تهديد للمجتمعات المختلفة؛ وهو ما أكدته في قمة الأمم المتحدة للمناخ (كوب28) في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذ دعت إلى ضرورة التحرك سريعاً لمواجهة تهديدات المناخ من خلال الإجراءات الناجزة من حكومات الدول. كما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز" في 22 يوليو الماضي أنه في حال فوز هاريس بالاستحقاق الانتخابي؛ فإنها ستدعم وتعزز أجندة بايدن بشأن المناخ؛ ولاسيما في ظل الدعم الذي تتلقاه من منظمات البيئة، وتأكيدها أنه لا يمكن أن تتلاشى السنوات الثلاث والنصف الأخيرة من إدارة بايدن في ملف المناخ؛ وذلك في حال فوز ترامب بالولاية الثانية، والذي اعتبرته مهدداً للمناخ والبيئة.

الجدير بالذكر أنه خلال المقابلة التي بثتها شبكة "سي إن إن" الأمريكية مع هاريس مساء يوم 29 أغسطس الماضي، سُئلت هاريس عن تراجعها عن مواقف رئيسية اتخذتها من قبل ولاسيما عن حظر تقنية "التكسير الهيدروليكي" المعتمدة على نطاق واسع لاستخراج النفط والغاز، وأجابت أنها لا تريد حظر "التكسير الهيدروليكي".

2- معارضة ترامب: على النقيض من هاريس، يأتي موقف ترامب معارضاً لملف المناخ؛ بل إنه اعتبره بمثابة "خدعة" أثناء ولايته الرئاسة الأولى، وقام بإلغاء نحو 100 لائحة بيئية، وانسحب من اتفاق باريس، وسحب صلاحيات وكالة حماية البيئة وحذف مصطلح تغير المناخ من موقعها الإلكتروني، وأعلن صراحة أن أولويته الأولى في ذلك التوقيت هي تعزيز إنتاجية النفط والغاز الطبيعي والاستفادة من المزيد من الأراضي لأجل التنقيب عن البترول؛ بل إن هناك عدداً من الأهداف التي يسعى ترامب لتحقيقها ضمن برنامجه الانتخابي للفوز بولايته الرئاسية الثانية، ومن أهمها إلغاء مكتب الطاقة والطاقة المتجددة، وإلغاء دعم بايدن للطاقة النظيفة والبرنامج الوطني للتأمين ضد الفيضانات، فضلاً عن دعوته للحفر في القطب الشمالي للتنقيب عن الوقود الأحفوري.

ووفقاً لتصريحات لترامب نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في 9 نوفمبر 2023؛ فإنه يعتقد أن العامل البشري يُعد أحد أسباب تغير المناخ وليس جميعها؛ بل إنه لا يعتقد أن تغير المناخ يتسبب في مفاقمة الأحداث المناخية المتطرفة. ففي عام 2022، سخر من التهديدات المُحتملة لارتفاع مستوى سطح البحر، معتبراً أنها غير صحيحة. وفي عام 2019، رأى أن السبب وراء حرائق الغابات هو سوء إدارة الغابات وليس تغير المناخ. وخلال الإعلان عن حملته الانتخابية، وعد ترامب بالتراجع عن سياسات بايدن الداعمة لإنتاج وتصنيع السيارات الكهربائية.

ولم يقف الأمر عند مجرد إعلان ترامب عن التوجهات المناهضة للمناخ؛ بل تخطاه إلى انتقاد منافسته هاريس، عندما اعتبر أن دعوتها لخفض استهلاك اللحوم نابعة من نظرية "المؤامرة" التي تنتهجها. كما انتقد جي دي فانس، الذي اختاره ترامب مرشحاً لمنصب نائب الرئيس، هاريس، قائلاً إنها تريد أن تسلب مواقد الغاز واللحوم من الأمريكيين.

تأثير محدود:

هناك انقسام داخل المجتمع الأمريكي بشأن موقفه من تغير المناخ، وانعكاسه على مدى أهمية أخذه في الاعتبار عند التصويت في العملية الانتخابية والتعويل عليه كعامل حاسم لاختيار الرئيس الأمريكي القادم. وهذا ما أكدته استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها لرصد مدى تأثير تلك القضية في خيارات الناخبين الأمريكيين. ففي استطلاع رأي أجراه برنامج جامعة ييل للاتصال بشأن تغير المناخ ومركز جامعة جورج ماسون للاتصال بشأن تغير المناخ خلال الفترة (25 إبريل إلى 4 مايو 2024)، تم التركيز على قضية الاحتباس الحراري بالإضافة إلى قضايا أخرى، ووضع تساؤل بشأن ما إذا كان المبحوثون يفضلون مرشحاً يدعم أو يعارض العمل المناخي؟ وكانت نتيجة الاستطلاع أن 37% من المشاركين يؤيدون العمل المناخي، وأن 25% يفضلون المرشح الذي يضع في اعتباره العمل على الحد من الاحتباس الحراري على الرغم من أنهم لا يعتبرون المناخ قضية تصويت مهمة بالنسبة لهم. وكشف الاستطلاع عن أن معظم المشاركين الآخرين يعتبرون أن تغير المناخ لن يكون عاملاً حاسماً في تفضيلاتهم الانتخابية.

وسبق أن أجرى مركز (CU Boulder) للمستقبل البيئي، دراسة لفهم أهمية تغير المناخ بالنسبة للناخبين الأمريكيين في انتخابات 2020 ومدى قدرته على التأثير في تفضيلاتهم وخياراتهم الانتخابية. وتوصلت الدراسة إلى أن الآراء الشخصية حول المناخ كانت من المؤشرات التي أثرت في تفضيلات الناخبين وسلوكهم في الانتخابات السابقة خاصةً بين المستقلين، وأن غالبية الديمقراطيين والمستقلين كانوا قلقين بشأن تغير المناخ، وأن نحو ربع الجمهوريين الذين يعتقدون أن تغير المناخ مهم للغاية صوتوا لصالح الرئيس بايدن. ولكن اعتبرت الدراسة أنه بالرغم من أن المناخ كان مؤشراً قوياً في الانتخابات السابقة، فإنه لم يكن القضية الأولى ذات الاهتمام الأكبر والمؤثرة في عملية الاختيار.

كما كشف استطلاع أجراه "معهد سياسة الطاقة" بجامعة شيكاغو ونُشرت نتائجه في 4 يونيو 2024، عن أن 54% من المشاركين أكدوا أن الممارسات البشرية عنصر فاعل في حدوث تغير المناخ، وأن الناخبين الأكثر تأثراً بقضايا المناخ -والتي تنعكس على تفضيلاتهم في اختيار مرشحيهم للانتخابات- هم المعرضون بصورة مباشرة للظواهر المناخية المتطرفة، وأنه بمقدار ما يتعرضون له من مخاطر مرتبطة بالمناخ؛ بقدر ما يؤثر في قرارهم في الاختيار باتجاه المرشح الرئاسي المؤيد للعمل المناخي.

وبمقارنة تلك الآراء بالوضع الحالي للانتخابات الأمريكية، يتضح وجود نموذجين متناقضين بشأن ملف المناخ. فالمرشحة الديمقراطية هاريس تدعم هذا الملف بقوة منذ توليها منصب نائب الرئيس في إدارة بايدن، في حين أن ترامب يعارض بشدة فكرة أن تغير المناخ هو قضية محورية ويتعين أن يأخذ أولوية في صُنع القرار السياسي الأمريكي؛ بل اعتبر أن تغير المناخ ما هو إلا خدعة للقضاء على انتفاع الولايات المتحدة من الوقود الأحفوري. 

وإذا ما وُضع الناخب الأمريكي في بؤرة الاختيار بين هذين المرشحين بناءً على أولوية قضايا المناخ، فإن الاختيار سيكون في صالح هاريس، بيد أن نتائج استطلاعات الرأي توضح أن قضية المناخ ليست المعيار الأبرز لحسم تفضيلات الناخبين؛ خاصةً أن هناك عدداً من القضايا الأخرى الأكثر أهمية داخل المجتمع الأمريكي، والتي تؤثر في تفضيلات هؤلاء الناخبين، ومنها الاقتصاد وملف الهجرة.