ديموغرافيا متحركة:

لماذا تزايدت سياسة "إفراغ المدن" في الشرق الأوسط؟

10 October 2016


تصاعدت سياسة "إفراغ المدن" أو المناطق داخل المدن في عدد من دول الإقليم، بأشكال مختلفة ولدواعٍ متباينة، منها استهداف المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة المسلحة، وملاحقة التنظيمات الإرهابية، والحد من سيطرة الميليشيات الطائفية، وإبعاد المناطق السكانية غير الموالية، وتزايد تأثير الأبعاد النفسية للصراعات الداخلية، ورفع منسوب الكراهية بين المدنيين والفصائل المسلحة، وتعميق التوترات الداخلية بين الفصائل المسلحة، واستفادة بعض القوى الإقليمية من التحولات الديموغرافية، وتحييد القوى الإقليمية المنخرطة في الصراعات الداخلية، وتنامي اقتصاديات الصراعات المسلحة، وتزايد الميول المعادية للتنظيمات الإرهابية تجاه الأقليات، وإنشاء قواعد عسكرية أجنبية، وإزالة الذكريات التاريخية السيئة. 

وهنا، تتعدد أنماط الإفراغ في الإقليم لتشمل المدنيين والمقاتلين والأقليات والتنظيمات والأسلحة. كما تتنوع الأساليب التي يوظفها الفاعلون الرسميون وغير الرسميين. فعلى سبيل المثال، تلجأ القوات النظامية السورية إلى الضربات الجوية المكثفة لتدمير البِنَى التحتية وقطع خطوط الإمدادات المائية والتيارات الكهربائية وتسييس سلاح المساعدات الإنسانية عبر منع وصول السلع الغذائية، وعرقلة تدفق القوافل الطبية، فضلا عن استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق والأفران، على نحو يقود إلى تهجير المدنيين، وترحيل المقاتلين، سواء بالقوة المسلحة أو بالاتفاقات المحلية، لا سيما أن الصراعات الداخلية لم تسفر عن انتصارات حاسمة أو تسويات سياسية رغم الخسائر البشرية والتكلفة المادية والآثار النفسية الناتجة عنها. في حين تلجأ فصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية إلى الرد بالوسائل العسكرية المناظرة.

غير أن إفراغ المدن من المقاتلين أو المدنيين قد يؤدي إلى تأثيرات عكسية ذات أبعاد إقليمية تصب في صالح جماعات الإرهاب والميليشيات. ففي هذا السياق، حذر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي "المسح السنوي لعام 2016" من سياسة إفراغ المدن في سوريا من سكانها، إذ قد تصب في صالح نظام الأسد، وتخسر قوى المعارضة المسلحة المدن وتتحول إلى خوض حرب العصابات وخاصة في الأرياف، على نحو يخدم التنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيم "داعش"، مع الأخذ في الاعتبار الخسائر التي تعرض لها التنظيم منذ النصف الأول من عام 2015 وحتى الثلث الأخير من عام 2016.

ويمكن القول إن هناك حزمة من العوامل التي تفسر لجوء النظم الحاكمة أو حتى التنظيمات الإرهابية إلى سياسة "إفراغ المدن" في الشرق الأوسط، يمكن تناولها على النحو التالي:

قضم المناطق:

1- إبعاد القطاعات السكانية غير الموالية: وهو ما تشير إليه الهندسة الاجتماعية الجديدة لنظام الأسد في سوريا -بدعم من الميليشيات الشيعية وبغطاء جوي روسي في معظم الأحيان- الذي تمثلت استراتيجيته في تقسيم سوريا إلى أقاليم وإفراغ المناطق الاستراتيجية -مثل القصير، وحمص، وحلب، وداريا، ومضايا، والمعضمية- من السكان من خلال اتباع سياسة "القضم البطيء" والتي تعمل على تجزئة الجبهات، والسيطرة التراكمية على قرية صغيرة ثم الانتقال إلى القرية التي تليها، ثم السيطرة على طريق أو أجزاء منه ثم إكمال السيطرة لاحقًا وهكذا، إضافة إلى الاستمرار في تنفيذ خطة إبعاد المقاتلين المعارضين التي تطال منطقتي الهامة وقدسيا في شمال دمشق عبر اتفاقات محلية.

ويهدف نظام الأسد وحلفاؤه الإقليميون والدوليون إلى تحقيق مكاسب عسكرية ودعائية من هذه السياسة في آن واحد، فيما يطلق عليه "الدعاية من خلال الفعل"، وخاصة بالتركيز على العاصمة دمشق ومحيطها ومدينة حمص وبعض مناطق حماة المجاورة للشريط الساحلي، مع منع السكان المهاجرين من العودة إلى ديارهم، على نحو ما حدث بالنسبة لتفريغ سكان الزبداني واستبدالهم بسكان بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين بريف إدلب.

وقد عبرت عن هذا المعنى صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في 26 سبتمبر 2016 بقولها: "إن إفراغ حلب من سكانها هو هدف بشار وحلفائه الروس".

2- تزايد الأبعاد النفسية للصراعات الداخلية العربية: إذ إن قرار التهجير القسري للسكان في مناطق أو مدن معينة في سوريا تحكمه اعتبارات نفسية، لا سيما أن بعض المدن التي تم تفريغها من سكانها اتسمت بالمقاومة العنيفة لنظام الأسد، مثل داريا، وهو ما تسبب في خسائر للنظام على مدى يزيد على أربع سنوات، مما ولد نزعة الثأر والانتقام من سكانها ومقاتليها.

وكذلك الحال بالنسبة لمهاجمة قوات الأسد لقاطني حلب بالبراميل المتفجرة على نحو يعكس الأثر النفسي لمقاومة قاطني العاصمة الاقتصادية في سوريا. 

كما عمد تنظيم "داعش" إلى إفراغ الأرض من سكانها الأصليين في المناطق التي شهدت مقاومة محلية ملحوظة ضده في العراق، وأحل مكانهم مهاجرين أجانب، على نحو ما فعله مع قبيلتي البونمر والشعيطات في محافظة الأنبار العراقية. وقد برر التنظيم خطوته بأن القبيلتين كانتا تبيعان النفط لجني الأرباح الشخصية، فضلا عن اتهام أفراد القبيلتين بالارتداد عن الإسلام، مما يخلق دعمًا شعبيًّا لخطوته ويساعده على تجنيد مزيد من الإرهابيين.

صناعة الكراهية:

3- رفع منسوب الكراهية بين المدنيين والفصائل المسلحة: لا سيما في الصراعات الداخلية المسلحة الممتدة -مثل الحالة السورية- عبر إظهار الفصائل المسلحة بأنها الطرف المسئول عن معاناة المدنيين المحاصرين، خاصة مع استهداف مقدمي الإسعافات الأولية، وتدمير قوافل الإغاثة الإنسانية التي تحاول إبقاء الجرحى على قيد الحياة. 

فعلى سبيل المثال، لم تنجح جهود الأمم المتحدة في إدخال المساعدات بعد الهدنة التي تم التوصل إليها برعاية روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2016، وهو ما خلق كراهية مجتمعية تجاه الفصائل المسلحة وقوات الأسد والتنظيمات الإرهابية.

ويعود ذلك التوتر بين المدنيين والمسلحين أيضًا إلى امتناع الكثير من الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة السورية عن التدخل لنجدة المدن المنكوبة، على نحو ما حدث بالنسبة لداريا، إذ تفضل تلك الفصائل الاحتفاظ بذخيرتها الحالية، لا سيما في ظل التخوف من توقف إمداداتها عبر الحدود.

وفي هذا السياق، تزايدت ضغوط قوات الأسد على مقاتلي وقاطني داريا الذين اضطروا للقبول بالخروج من مدينتهم، في 25 أغسطس 2016، إذ توجه المقاتلون إلى إدلب، في حين توجه المدنيون إلى أكثر من منطقة، ومنها المعضمية المجاورة. 

4- تعميق التوترات الداخلية بين الفصائل المسلحة: على نحو ما يشير إليه التوتر بين القوى المسلحة المعارضة ووحدات الحماية الكردية، لا سيما بعد التنسيق بين القوات النظامية ووحدات الحماية الكردية في الهجوم على أحياء حلب الشرقية، حيث يسيطر الأكراد على حي الشيخ مقصود في شمال مدينة حلب، وهو حي يقع بين مناطق سيطرة الحكومة وتلك التي تسيطر عليها المعارضة. وقد سبق أن تعاونت قوات الأسد وقوات الحماية الكردية في السيطرة على منطقة الكاستيلو، وقطع طرق الإمداد لحلب عدة مرات.

تغير مذهبي:

5- استفادة القوى الإقليمية من التحولات الديموغرافية: يعمل نظام الأسد على حماية المناطق التي يريد ضمها إلى دويلته بمستوطنين جدد يتم جلبهم من طائفة معينة، على نحو يتطلب استقطابهم من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان لتشكل حاضنة لديه. وقد تم جلب أسر الميليشيات الشيعية من لبنان عبر القرى الحدودية إلى المناطق السنية في القصير.

فضلا عن ذلك، فإن الحوزات تمارس دورًا في التغيير الديموغرافي من خلال نشاطاتها في مجال شراء العقارات من السنة بمبالغ مالية تفوق أسعارها الطبيعية، وإحلال عائلات شيعية بدلا منها. 

ويفسر ذلك ازدياد عمليات التشيع التي تشهدها مناطق ريف حلب، لا سيما بعد سيطرة قوات الأسد والميليشيات المدعومة من إيران عليها. فقد حولت الكثير من المساجد في ريف حلب إلى حسينيات، بما يعني أن الهدف هو تغيير معالم المدن العربية، ثقافيًّا واجتماعيًّا وديموغرافيًّا، بحيث يتم قضم الأراضي العربية لصالح سكان إيرانيين وعناصر أخرى من الميليشيات الشيعية.


وفي هذا السياق، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط: "إن اتفاق داريا الأخير يخالف القانون الدولي، وقد يمهد لتسويات مشابهة تنطوي على تغيير ديموغرافي لأوضاع المدن السورية".


6- تحييد القوى الإقليمية المنخرطة في الصراعات الداخلية: إذ إن حصار السكان في بؤرة صراعية مزمنة -مثل سوريا- على مدى سنوات قد يؤدي إلى إجبارهم على النزوح خارج بلادهم، وخاصة لدول الاستقبال الرئيسية لهم مثل تركيا أو بعض الدول الأخرى التي تتخذ موقفًا مناهضًا من بقاء نظام الأسد في الحكم، حيث يؤدي الأثر الانتشاري لتدفق اللاجئين السوريين إلى التخفيف من درجة مناهضتها لبقاء الأسد لأنها تضررت من التداعيات غير المقصودة لتمدد اللاجئين السوريين.

وقد يدفع ذلك أيضًا تلك القوى الإقليمية إلى الحوار الجدي مع القوى الدولية المعنية بالأزمة السورية، مثل روسيا، والتوصل لتفاهمات بشأن مجموعة من الملفات الإقليمية الأخرى، سواء السياسية أو الاقتصادية، لا سيما أن التدخل العسكري الروسي في سوريا كان عاملا حاسمًا في دعم قوات الأسد ومساعدتها على تنفيذ استراتيجية "إخلاء المدن".

ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا خلال سنة أدى إلى سقوط 9364 قتيلا، بينهم 3800 مدني، منهم 906 أطفال، كما قتل 2746 عنصرًا من "داعش" و2814 مقاتلا من الفصائل المعارضة، من بينها "جبهة فتح الشام" ("جبهة النصرة" سابقًا قبل فك ارتباطها مع تنظيم "القاعدة")، وتم تدمير 60 مركزًا طبيًّا. 

7- تصعيد حدة الحرب بين الجيوش النظامية والتنظيمات المسلحة: على نحو ما تعكسه المواجهات الدورية بين الجيش التركي وقوات حزب العمال الكردستاني. وهنا، يتم إفراغ القرى الحدودية في إقليم كردستان، بسبب تزايد القصف التركي لها بداعي وجود بعض القواعد التابعة لحزب العمال الكردستاني، وهو ما دفع المدنيين من سكان بعض القرى مثل مناطق نيروة وريكان التابعة لآميدي في محافظة دهوك للفرار.

ولعل ذلك ما يفسر الاهتمام التركي بعملية "درع الفرات" التي بدأت في 24 أغسطس 2016، لتقليص نفوذ المقاتلين الأكراد من المناطق الحدودية، وليس مواجهة تنظيم "داعش" كما تردد أنقرة.

خصخصة الإفراغ:

8- تنامي اقتصاديات الصراعات الداخلية المسلحة: أدت موجة الصراعات الداخلية المسلحة التي شهدتها بعض الدول العربية، وخاصة بعد اندلاع الحراك الثوري في عام 2011، إلى خلق "اقتصاديات الصراعات الداخلية"، والتي تدفع جماعات المصالح على طرفي الصراع في اتجاه تغذيته ومواصلة استمراره لكونه يمثل مصدرًا رئيسيًّا للحفاظ على ديمومة مكاسبها المالية الضخمة، والتي بالضرورة سوف تتهدد في حال توقفت تلك الصراعات المسلحة أو حتى هدأت وتيرتها على أقل تقدير.

وهنا تشير بعض الأدبيات إلى رغبة رجال الأعمال المقربين من نظام الأسد في إقامة مشروعات اقتصادية مربحة عبر الاستفادة من تدمير مناطق عدة في محيط العاصمة، على نحو ما حدث بالنسبة لداريا، والاستفادة من فارق الأسعار المحتمل في حال ميل موازين القوى الداخلية لصالح قوات الأسد. 

9- الميول المعادية للتنظيمات الإرهابية تجاه الأقليات: وقد حدث ذلك في محافظة الموصل بعد تهجير متعمد تعرض له سكانها المسيحيون في شمال العراق نتيجة تهديدات تنظيم "داعش" في منتصف عام 2014، حيث وضع التنظيم خيارات ثلاثة أمام المسيحيين، وهي: مغادرة المدينة، أو إعطاؤهم عهد الذمة (أي دفع الجزية مقابل الأمان)، أو إعلان الإسلام.

مواقع استراتيجية:

10- إنشاء قواعد عسكرية أجنبية: سعى نظام الأسد إلى إفراغ المدينة الرياضية في محافظة اللاذقية من العائلات ونقلهم إلى ريف الحفة بهدف تحويل المدينة إلى قاعدة عسكرية روسية، وفقًا لاتجاه سائد في بعض التحليلات الغربية، خاصة أن المدينة تحظى بموقع استراتيجي مهم، لكونها تطل على البحر ويحيط بها مناطق المروج ودمسرخو ورأس شمرا ذات الأكثرية العلوية، إضافة إلى تواجد رادار وصواريخ للنظام مقابل المدينة.

11- تفادي المخاطر العسكرية على المناطق السكنية: وهو ما ينطبق على الحالة العراقية بعد قرار رئيس الوزراء حيدر العبادي، في 4 سبتمبر 2016، الرامي إلى إفراغ العاصمة ومراكز المدن من مستودعات الأسلحة داخل المناطق السكنية، والتي تحتاج إلى ظروف تخزين خاصة لا يمكن توافرها داخل المدن.

وقد جاء ذلك القرار بعد انفجار مستودع للأسلحة والذخائر في منطقة سكنية شرق بغداد، وقتل على إثره 6 أشخاص وأصيب 11، حيث يعود المستودع لإحدى ميليشيات "الحشد الشعبي"، وفقًا لأحد التقديرات.

12- إزالة الذكريات التاريخية السيئة: ويرتبط ذلك بالحالة التركية في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو 2016. فقد انتهت الحكومة التركية من إفراغ مراكز المدن من الوحدات العسكرية، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة، في 16 سبتمبر 2016، وهو ما يأتي تنفيذًا لقرار رئيس الوزراء بن علي يلدريم بعد اتخاذ الانقلابيين قاعدة "أقينجي" الجوي في العاصمة مركزًا لهم، حيث صرح بعدها: "لا نريد أن نرى دبابة أو مقاتلة أو مروحية في أنقرة"، وأضاف: "إننا سنتخذ كل إجراء جذري.. كل الوحدات العسكرية ستزال من المدن".

جبهات جديدة:

خلاصة القول، تشير تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، وخاصة في بؤره المسلحة وصراعاته المندمجة ودوله المنهارة وحدوده المخترقة وحروب الوكالة التي تتواصل فيه، إلى تصاعد سياسة "إفراغ المدن"، سواء داخل الدولة الواحدة أو على طول خطوط الحدود المشتركة، عبر استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح لمعاقبة المقاتلين، وحصار المدنيين، وإنشاء نقاط تفتيش عسكرية، أو زرع ألغام أرضية مضادة للأفراد. ولكن ذلك لا يقود إلى حل الصراعات المسلحة الإقليمية، أو انتفاء تهديدات التنظيمات الإرهابية، بقدر ما يخلق جبهات جديدة تؤدي دورًا في زيادة مضاعفات عدم الاستقرار الإقليمي

لقراءة النص كاملاَ رجاءً الضغط هنا