"جيس".. نموذج إماراتي لقيادة الذكاء الاصطناعي العربي

07 September 2023


في خطوة وصفت بأنها "رائدة" و"غير مسبوقة" في مجال الذكاء الاصطناعي العربي، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة، في نهاية شهر أغسطس الماضي، إطلاق نموذج "جيس" (Jais) للذكاء الاصطناعي والذي اعتبرته "برنامج الذكاء الاصطناعي العربي الأعلى جودة في العالم". 

ويُعد هذا النموذج، وفقاً للقائمين عليه، منافساً عربياً عالي الجودة لروبوت الدردشة الشهير "شات جي بي تي" (chat GPT)، وغيره على مستوى النماذج اللغوية الكبيرة المُدربة مسبقاً بالذكاء الاصطناعي. والنماذج اللغوية الكبيرة هي أنظمة معالجة للغات الطبيعية مُدربة على كميات ضخمة من النصوص وقادرة على الإجابة عن الأسئلة واستيعابها، بالإضافة إلى ابتكار نصوص جديدة. وعلى الرغم من أن العديد من هذه النماذج اللغوية الأكثر تقدماً حالياً مثل (GPT-4) والذي يعمل به روبوت الدردشة (chat GPT)، ونموذج (PaLM) والذي يعمل به روبوت الدردشة (google bard)، تتسم بالقدرة على فهم اللغة العربية وإنشاء نصوص منها، فإنها لا تتميز بالدقة التي يقدمها نموذج "جيس" الإماراتي.

فما هو نموذج "جيس"؟ وما أهميته بالنسبة لمتحدثي اللغة العربية؟ وما الذي يتميز به عن غيره من النماذج السابق ذكرها؟ هذا ما سنتعرف إليه في السطور التالية.

مزايا "جيس":

يُعد "جيس" نموذجاً لغوياً كبيراً مفتوح المصدر للغة العربية، تم تطويره عبر التعاون بين "إنسبشن"، مركز الذكاء الاصطناعي التابع لمجموعة "جي 42" (G42) الإماراتية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وهي أول جامعة للدراسات العليا المتخصصة في بحوث الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، وشركة "سيربيراس سيستمز" الأمريكية. 

وأُطلق على هذا النموذج اسم "جيس" تيمناً باسم أعلى قمة في دولة الإمارات وتقع بإمارة رأس الخيمة، ليقدم مزايا الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى العالم العربي؛ وهو أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي وأكثرها تطوراً وانتشاراً، ويُعد من تقنيات التعلم الآلي التي تمتلك القدرة على إنشاء بيانات جديدة مثل الصور والنصوص والمقاطع الصوتية، بناءً على تدريب الإنسان لهذه التقنيات، على عكس الذكاء الاصطناعي غير التوليدي الذي يصنف البيانات الموجودة فقط أو يتعرف إليها. كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في ابتكار المساعد الافتراضي للمحادثات الإلكترونية وخدمة المتعاملين، أو إنشاء الموسيقى والمحتوى الفني لأهداف تسويقية أو إبداعية وغيرها.

ويستخدم "جيس" اللغة العربية الفصحى الحديثة، والتي يتم فهمها في دول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى اللهجات المنطوقة المتنوعة في المنطقة من خلال الاعتماد على الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي والأكواد.

ويعتبر العديد من العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي أن إطلاق هذا النموذج يُعد "محطة بالغة الأهمية" في العالم العربي، فهو يتيح لأكثر من 400 مليون متحدث باللغة العربية إمكانية استكشاف القدرات الكامنة للذكاء الاصطناعي التوليدي، الأمر الذي يعزز مكانة دولة الإمارات لتحتل مركزاً رائداً في مجال الذكاء الاصطناعي والابتكار وحماية الثقافة والتعاون الدولي. وهذا ما أكده أندرو جاكسون، الرئيس التنفيذي لـ"إنسبشن" (Inception)؛ وحدة الأبحاث التطبيقية للذكاء الاصطناعي التابعة لمجموعة "جي 42" والتي تدعمها شركة (Silver Lake) العملاقة للأسهم الخاصة، بقوله: "إننا في إنسبشن نؤمن بأن التعاون هو أساس الازدهار، ونرسي اليوم معياراً جديداً لتقدم الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط مع ضمان مكانة متميزة للغة العربية بكل ثرائها وإرثها في مجال الذكاء الاصطناعي"، مشيراً إلى أن "اللغة العربية واحدة من أكبر اللغات في العالم، فلماذا لا يحصل المجتمع الناطق بهذه اللغة على نموذجه الخاص به؟"

ولا تُعد هذه الخطوة الأولى التي تخطوها دولة الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي، فقد سبق أن طورت نموذجاً لغوياً كبيراً مفتوح المصدر أيضاً (LLM)، عٌرف باسم "فالكون" أو "الصقر"؛ وتم تطويره في معهد الابتكار التكنولوجي – مركز الأبحاث العلمية الرائد عالمياً وذراع الأبحاث التطبيقية لمجلس أبحاث التكنولوجيا المتقدمة بأبوظبي - وذلك باستخدام أكثر من 300 شريحة من شركة "إنفيديا". بيد أن نموذج "جيس" يمثل "حجر أساس" حقيقي ومتطور للاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي في العالم العربي، وذلك باستخدام الحاسوب الفائق "كوندور جالاكسي1" المدعوم بالذكاء الاصطناعي بقدرة حوسبة متعددة الإكسافلوبس (مليون تريليون عملية حسابية في الثانية)، والذي تم تصميمه بالتعاون بين "جي 42" وشركة "سيربيراس سيستمز" الأمريكية، كذلك فهو يستند إلى 13 مليار مؤشر، فضلاً عن تدربه على مجموعة بيانات متطورة حديثاً تتضمن 395 مليار رمز باللغتين العربية والإنجليزية.

وكما جاء على لسان البروفيسور تيموثي بالدوين، عميد جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي بالإنابة، فإن نموذج "جيس" يتميز بأنه مصمم للحصول على فهم أكثر دقة لثقافة المنطقة العربية، على عكس معظم النماذج التي تركز على اللغة والثقافة الأمريكية. وأضاف، في حوار أجراه مع صحيفة "فاينانشال تايمز"، أنه قبل إطلاقه تم إجراء اختبارات مكثفة للتخلص من المحتوى "الضار" وكذلك "المخرجات المسيئة أو غير المناسبة" التي لا تمثل قيم المنظمات المشاركة في تطوير هذا النموذج. وأوضح بالدوين أن نموذج "جيس" تم تزويده بحواجز حماية للتأكد من أنه "لن يخرج عن الحدود المعقولة من حيث الحساسيات الثقافية والدينية".

وبالرغم من أن بناء هذا النموذج واجه العديد من التحديات والمتمثلة في الافتقار إلى بيانات عالية الجودة باللغة العربية على شبكة الإنترنت مقارنة باللغة الإنجليزية، فقد تم التغلب على ذلك من خلال الاستعانة بأكواد الحاسوب وبيانات اللغة الإنجليزية للمساعدة في تدريب قدرة النموذج على التفكير المنطقي وهو ما يمكن البناء عليه باللغة العربية.

كل هذه المزايا التي يحظى بها نموذج "جيس"، تتيح الاستفادة منه في مجموعة من التطبيقات، ومنها ترجمة النصوص بين اللغتين العربية والإنجليزية، وتلخيص النصوص العربية الطويلة، وإنشاء نصوص إبداعية باللغة العربية مثل القصائد والروايات والسيناريوهات، وغيرها.

ويرى العديد من المهتمين بهذا المجال التكنولوجي أن إطلاق هذا النموذج سيؤدي إلى تحفيز مشاركة المجتمعات العلمية والأكاديمية والمطورين في تسريع نمو منظومة حيوية للذكاء الاصطناعي باللغة العربية والارتقاء بمستوى الابتكار في هذا المجال، بل وقد يشكل "جيس" نموذجاً يُحتذى به للغات أخرى لا تحظى حالياً بدرجة كافية من التمثيل في بيئات الذكاء الاصطناعي الرائجة.

ويؤكد تقييم أداء نموذج "جيس" تفوقه على النماذج اللغوية العربية الحالية بفارق كبير، وقدرته على منافسة النماذج اللغوية الإنجليزية، مع تلقيه تدريباً أقل على بيانات اللغة الإنجليزية. وتظهر النتائج أن جانب اللغة الإنجليزية من النموذج تعلم من بيانات اللغة العربية والعكس صحيح، ما يفتح آفاق حقبة جديدة لتطوير النماذج اللغوية الكبيرة وتدريبها.

استراتيجية إماراتية:

يأتي نموذج "جيس" ضمن استراتيجية الذكاء الاصطناعي التي أطلقتها دولة الإمارات في 17 أكتوبر 2017، والتي تُعد الأولى من نوعها في المنطقة، من حيث القطاعات التي تغطيها، ونطاق الخدمات التي تشملها، وتكاملية الرؤية المستقبلية التي تستشرفها. إذ تسعى في الأساس إلى تطوير وتنظيم أدوات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بحيث تكون جزءاً لا يتجزأ من منظومة العمل الحكومي في الدولة، وبما يسهم في مواجهة المتغيرات المتسارعة وتحقيق تطور نوعي في الأداء العام على المستويات كافة، عبر بناء منظومة رقمية ذكية كاملة ومتصلة تتصدى للتحديات أولاً بأول، وتقدم حلولاً عملية وسريعة، تتسم بالجودة والكفاءة.

وتهدف استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي إلى تحقيق أهداف مئوية الإمارات 2071، ومن ضمنها أن تكون حكومة الإمارات الأولى في العالم في استثمار الذكاء الاصطناعي بمختلف قطاعاتها الحيوية، وخلق سوق جديدة واعدة في المنطقة ذات قيمة اقتصادية عالية، ودعم مبادرات القطاع الخاص وزيادة الإنتاجية، بالإضافة إلى بناء قاعدة قوية في مجال البحث والتطوير، وأن يتم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل 100% بحلول عام 2031، بحيث يتعين على جميع الجهات الحكومية في الدولة اعتماد الذكاء الاصطناعي. ومن شأن التطبيق الأمثل للذكاء الاصطناعي في العمل الحكومي أن يساعد في وضع استراتيجية تنبؤية تساعد في تطوير آليات وقائية، ومنها على سبيل المثال التنبؤ بالحوادث والازدحامات المرورية، بحيث يتم على ضوء ذلك وضع سياسات مرورية أكثر فاعلية.

وتخطط دولة الإمارات لأن يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحفيز النمو في الناتج المحلي الإجمالي للدولة بواقـع 35% بحلول عام 2031، وخفض التكاليف الحكومية بنسبة 50% سواءً فيما يتعلق بخفض الهدر في عدد المعاملات الورقية، أو توفير آلاف الساعات التي يتم إهدارها سنوياً في إنجاز هذه المعاملات. كما يعمل الاستثمار الكفء في الذكاء الاصطناعي على توفير تكاليف النقل، وخفض كلفة إنجاز المشروعات.

ويبدو أن استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي بدأت تؤتي ثمارها. فوفقاً لتقرير أعدته شركة "تورتواز ميديا" المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي ونُشر في 23 يوليو الماضي، ويهدف إلى رصد التطورات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في 62 دولة اختارت الاستثمار فيه؛ تصدرت دولة الإمارات الدول العربية في مؤشر الذكاء الاصطناعي، واحتلت المركز الـ28 عالمياً. وتضمن التقرير عدة معايير لتقييم الدول المُتضمنة به، أولها معيار البنى التحتية المُخصصة للذكاء الاصطناعي، حيث احتلت الإمارات فيه المركز الرابع. فيما جاءت الدولة في المركز الـ24 في معيار الاستراتيجيات الحكومية الداعمة للتكنولوجيا، والمركز الـ29 في معيار المشروعات التجارية التي تركز على الذكاء الاصطناعي، والمركز الـ34 في الأبحاث المتعلقة بالتكنولوجيا.