انهيار سد "كاخوفكا".. هل يعوق الهجوم الأوكراني المُضاد؟

19 June 2023


في الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء 6 يونيو 2023، أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عبر حسابه على موقع "توتير"، أن روسيا نفذت "تفجيراً داخلياً لهياكل" سد "نوفا كاخوفكا"، ومحطة توليد الطاقة الكهرومائية المُقامة عليه وأنه يتعذر إصلاحهما. ودعت كييف، في بيان، إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة ما قالت إنه "هجوم إرهابي" على السد جنوب أوكرانيا.

وقد أنشئ سد "كاخوفكا"، الذي يبلغ ارتفاعه 30 متراً وطوله 3.2 كيلومتر ويمتد من أقصى شمال أوكرانيا حتى البحر الأسود، إبان الحقبة السوفيتية، وهو واحد من ستة سدود على نهر دنيبرو. وكان الهدف من إنشائه، بجانب توليد الطاقة الكهرومائية، تنظيم أعمال الري والنقل النهري. ويحتجز السد خلفه 18 مليار متر مكعب من المياه. وتوجد القوات الروسية على الضفة الجنوبية للنهر، بينما تسيطر قوات أوكرانيا على الضفة الشمالية منه.

تفسيرات مختلفة:

كان لافتاً تصريح الرئيس الأوكراني عبر تطبيق "تليغرام" بأن الهجوم على سد "كاخوفكا"، لن يؤثر في خطط كييف في المُضي قُدماً في هجومها المُضاد الرامي لاستعادة أراضيها من القوات الروسية، مشيراً إلى أنه تواصل مع كبار قادة بلاده العسكريين وأن الجيش في أعلى مستويات الجهوزية. وقد أعقب ذلك تصريح لأمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، أوليكسي دانيلوف، أكد فيه أن هدف روسيا من التفجير هو "خلق عوائق" أمام الهجوم المُضاد لاسترداد الأراضي التي ضمتها موسكو.

وفي 11 يونيو 2023، قالت نائبة وزير الدفاع الأوكراني، هانا ماليار، عبر "تليغرام" أيضاً، إن القوات الروسية نسفت سد "كاخوفكا" لمنع القوات الأوكرانية من التقدم في منطقة خيرسون جنوب أوكرانيا، ولإتاحة الفرصة لنشر قوات الاحتياط الروسية في منطقتي زاباروجيا وباخموت. وكانت أوكرانيا قد اتهمت موسكو في أكتوبر 2022 بتلغيم السد وقت اشتداد المواجهة العسكرية بين الجانبين، وهو ما أنكرته موسكو آنذاك.

في المقابل، قال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في إفادة صحفية يوم 6 يونيو 2023، إن "هذا عمل تخريبي متعمد بشكل لا لبس فيه من الجانب الأوكراني، جرى التخطيط له وتنفيذه بأمر من كييف"، وأحد أهداف هذا العمل كان "حرمان القرم من المياه"، مضيفاً أنه يرفض بشدة اتهامات السلطات الأوكرانية التي تنسب المسؤولية إلى موسكو. 

وفي بيان لاحق، اتهم وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أوكرانيا بتفجير السد "في إطار خطة لإعادة انتشار وحدات من منطقة خيرسون القريبة للقيام بعمليات ضد القوات الروسية"، واصفاً الخطوة بـــ"العمل الإرهابي". وقال إن تفجير السد والفيضانات الناتجة عنه يهدفان إلى منع روسيا من الهجوم بالقرب من خيرسون، بينما يسمح لأوكرانيا "بنقل الوحدات والمعدات من جبهة خيرسون إلى منطقة العلميات الهجومية"، مؤكداً أن أوكرانيا بدأت في بناء مواقع دفاعية على الضفة اليمنى لنهر دنيبرو.

وفي رد فعل أولي من واشنطن، أشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، في إفادة للصحفيين مساء يوم 6 يونيو 2023، إلى عدم توافر أدلة ملموسة بعد تسمح بتحديد الجهة المسؤولة عن الهجوم، مضيفاً أن بلاده تعمل مع الأوكرانيين لجمع معلومات أكثر. من جانبها، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، إن واشنطن تواصل تقييم الوضع فيما يتعلق بالأضرار التي لحقت بسد "كاخوفكا"، ولكنها تُحمّل روسيا بالفعل، في المرحلة الحالية، المسؤولية عن انفجار السد لأنه يقع في الأجزاء التي تسيطر عليها موسكو في منطقة خيرسون. 

وفي ذات السياق، أشار وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، إلى أنه من السابق لأوانه تقديم تقييم جاد لتفاصيل تفجير السد، ولكن السبب وراء وقوع ذلك هو "الغزو الروسي الشامل وغير المبرر لأوكرانيا"، على حد وصفه، مضيفاً: "سنواصل تقييم تطورات الوضع، ولكن أفضل ما يمكن أن تفعله روسيا في الوقت الراهن هو أن تسحب قواتها فوراً". 

ويُلاحظ أيضاً أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تبنى نفس الموقفين الأمريكي والبريطاني، عندما أوضح، أمام الصحفيين في نيويورك مساء يوم 6 يونيو الجاري، أن التدمير الجزئي لسد "كاخوفكا" هو "أحد التداعيات الأخرى المدمرة لغزو روسيا لجارتها".

وترى التقديرات الغربية أنه من غير الواضح ما إذا كان السد قد تم تفجيره عمداً أو بسبب عيوب في هيكله، مضيفة أنه على خلاف كل من أوكرانيا وروسيا، طرح بعض الخبراء الغربيين مثل مارك موليجان، أستاذ الجغرافيا الطبيعية في جامعة لندن، لـــ"BBC" بتاريخ 6 يونيو 2023، رواية بديلة، قائلاً إن القتال في المنطقة التي يقع فيها السد يمكن أن يؤثر فيه، وأن "الفشل الهيكلي الناتج عن تأثير الأضرار المرتبطة بالحرب لا يزال احتمالاً". وطرح موليجان نظرية أخرى لتفسير انهيار السد هي أن روسيا، التي تسيطر على السد، سمحت عمداً لمستويات المياه بالارتفاع خلف الخزان، مما يجعل الانهيار أكثر احتمالاً وتأثيراً. وأضاف أنه وفقاً لتحليل صور الأقمار الاصطناعية الذي أجرته الخدمة الزراعية الخارجية الأمريكية، ارتفع منسوب المياه بشكل حاد خلال الأشهر القليلة الماضية، موضحاً أن "المستوى المُرتفع جداً للمياه في الخزان إلى جانب الأضرار السابقة، يؤدي إلى تدفقات غير منضبطة للمياه عبر السد، وبالتالي إلى فشل هيكلي كارثي". 

ويتسق هذا التحليل مع حقيقة أن المنطقة التي يقع فيها السد كانت، وما زالت، مسرحاً للعمليات العسكرية المكثفة من جانب الطرفين الروسي والأوكراني. وعلى الرغم من ترجيح بعض التقارير الغربية قيام روسيا بتدمير سد "كاخوفكا"، معتبرة ذلك محاكاة لما قام به القائد السوفيتي جوزيف ستالين عندما أمر بتدمير سد "زاباروجيا" الأكبر حجماً لوقف تقدم الجيش الألماني في عام 1941، فإنه لا توجد دلائل قاطعة على أن روسيا أو أوكرانيا يقف أي منهما وراء عملية التدمير هذه.


تداعيات كارثية:

أدت الفيضانات الواسعة التي غمرت عشرات البلدات والقرى المجاورة لنهر دنيبرو، ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بالمياه، إلى إجلاء الآلاف من السكان من على جانبي النهر من منازلهم. وقدرت الحكومة الأوكرانية عدد المتأثرين بالكارثة بحوالي 40 ألف نسمة. وتشمل الأضرار خسائر في البنية التحتية وانهيار مرفق المياه والصرف الصحي في القرى المجاورة، سواءً تلك التي تسيطر عليها روسيا أو أوكرانيا. ويعتمد نحو 700 ألف شخص على خزان سد "كاخوفكا" في مياه الشرب، وبالتالي فإنه في غياب المياه النظيفة، سيتعرض السكان للإصابة بالأمراض.

كما أن هناك مخاوف من تداعيات هائلة على البيئة بسبب انهيار السد، حيث وصف الرئيس الأوكراني الموقف بأنه "قنبلة دمار شامل بيئية". ويُشار في هذا السياق إلى تلوث مياه النهر بحوالي 150 طناً من زيت المحركات المُستخدم في محطة الطاقة الكهرومائية، بجانب 300 طن أخرى مُعرضة لخطر التسرب في مياه النهر. وقدرت كييف الأضرار البيئية مبدئياً بحوالي 50 مليون يورو، حسبما أفادت به "وكالة رويترز". ويُضاف إلى ذلك، الأضرار البيئية التي تأثرت بها المحميات الطبيعية التي تأوي حيوانات برية نفقت جميعها. هذا بجانب تدمير الأراضي الزراعية التي سوف يستغرق الأمر سنوات لاستعادة إنتاجيتها، الأمر الذي سيكون له تأثير كبير في الأمن الغذائي العالمي، إذ سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وفقاً لتوقعات مسؤول المساعدات في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث. 

وتُمثل الألغام مشكلة أخرى بسبب مياه الفيضان، وهو ما يضيف قلقاً متصاعداً ليس فقط لسكان خيرسون، بل وأيضاً لأولئك الذين يقدمون دعماً ومساعدة لهم. ووفقاً لتصريحات بعض مسؤولي الهيئة الدولية للصليب الأحمر، لم يعد الخبراء قادرون على تتبع المسار الذي توجد به الألغام الأرضية.

فيما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه لا يوجد خطر فوري على السلامة النووية في محطة زاباروجيا للطاقة النووية. وذكر الأمين العام للوكالة، رافائيل غروسي، أن فريقه في الموقع أبلغ بأنه في حالة توقف المياه تحت متوسط الدفع اللازم لتبريد مفاعلات المحطة ومولدات الديزل، فإن هناك عدداً من المصادر البديلة للمياه بما فيها بحيرة قريبة للتبريد لعدة أشهر. وأُعلن في 12 يونيو 2023 عن زيارة تفقدية لغروسي لموقع محطة زاباروجيا للوقوف على مدى تأثرها بالفيضانات الناجمة عن الانهيار الجزئي للسد.

وارتباطاً بالتداعيات الاقتصادية والبيئية، نقلت وكالتا "رويترز" و"الأنباء الفرنسية" عن مصادر من البنك الدولي، في 8 يونيو 2023، أنه سيدعم أوكرانيا من خلال إجراء تقييم سريع للأضرار والاحتياجات، وأن هذا التقييم سيستند إلى تحليل سابق للبنك للأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمباني في أوكرانيا، والذي قدّر أن إعادة بناء الاقتصاد الأوكراني بعد الحرب الروسية ستُكلف 411 مليار دولار.

وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الروسي لم يعلن بشكل مفصل عن تداعيات الانهيار الجزئي للسد اقتصادياً وبيئياً، حيث ذكرت مصادر في وزارة الطوارئ الروسية أن نحو 22 ألفاً من السكان في 14 منطقة موجودون في مناطق الفيضان، موضحة أنه "لا يوجد خطر فيضان على مراكز الكثافة السكانية". ومن جانبها أعلنت وزارة الخارجية أن السد المُنهار "تسبب في أضرار مدمرة للأراضي الزراعية في المنطقة وفي النظام البيئي في نهر دنيبرو"، مُضيفة أن انهيار السد سيؤثر سلباً في جودة الأراضي الزراعية في منطقة خيرسون، وكذلك على إمدادات المياه للمنطقة ولشبه جزيرة القرم.

عراقيل الهجوم:

جاء الانهيار الجزئي لسد "كاخوفكا" قبل ساعات من إعلان وزير الدفاع الروسي أن النظام الأوكراني بدأ في شن "الهجوم المُضاد" الذي طالما وعد به على مختلف قطاعات الجبهة خلال الأيام الماضية. وبغض النظر عمن وقف وراء هذا الانهيار، ارتفعت المخاطر الكبرى أمام فاعلية هذا "الهجوم المُضاد" الأوكراني، الذي تعوّل واشنطن والحلفاء الغربيون على إلحاقه أكبر قدر من الخسائر بالقوات الروسية مما قد يجبر الرئيس بوتين على التفاوض.

كما يضع حادث السد المزيد من العراقيل أمام القوات الأوكرانية في محاولتها اقتحام الخطوط الدفاعية الروسية المُعدة جيداً، وذلك وفقاً لتقديرات غربية دللت على ما تقوله بالصور التي تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً حول الخسائر الأولى للدروع الغربية ودبابات "ليوبارد" الألمانية ومركبات "برادلي" القتالية الأمريكية الصُنع. وفي هذا السياق يعتقد خبراء غربيون أن أوكرانيا ما تزال تواجه مهمة شاقة، وأن مكاسبها المستقبلية المُحتملة يُرجح أن تكون تدريجية وأن تأتي بتكلفة أعلى، وذلك ما لم ترتكب القوات الروسية خطأً كبيراً. وليس بعيداً عن ذلك، ما أشارت إليه تحليلات غربية أخرى من أن حادث السد ربما استهدفت به موسكو تجميد الصراع من خلال استنزاف القوات الأوكرانية.