مطرقة سيرسكي:

سيناريوهات الصراع الروسي الأوكراني حول "باخموت"

05 April 2023


دخلت الحرب الروسية الأوكرانيّة عامها الثاني، ولا تزال المعارك ضارية على الأرض في العديد من خُطوط التماس المُشتعلة في عدة جبهات أبرزها باخموت شرقي أوكرانيا، وخاركيف شمال شرقي البلاد. وتشهد مدينة باخموت على وجه التحديد معركة هي الأعنف والأكثر دموية منذ صيف العام الماضي، ولا توجد حتى الآن مؤشرات تُنبئ بنهاية وشيكة بانتصار كامل لأي طرف على الآخر؛ حيث تكثف موسكو هجماتها في سبيل إخضاعها، وفي المقابل تستميت كييف للدفاع عنها. 

وفي هذا الإطار، أعلن رئيس مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية، يفغيني بريغوجين، في وقت متأخر مساء يوم الأحد 2 أبريل 2023، أن قواته رفعت العلم الروسي على المبنى الإداري لمدينة باخموت، قائلاً "من وجهة نظر قانونية تم الاستيلاء على باخموت". لكن الجيش الأوكراني نفى سيطرة الروس على باخموت، مؤكداً أن القتال ما زال مستمراً حول المبنى الإداري للمدينة وكذلك في بلدات أخرى مجاورة. كما نفى البيت الأبيض أن تكون معركة باخموت قد حُسمت لصالح القوات الروسية. ويبقى السؤال لماذا يشتد الصراع الروسي الأوكراني حول مدينة باخموت الاستراتيجية، وما هي تداعياته وسيناريوهاته المُحتملة؟

دوافع المعركة:

لا تزال معركة باخموت بلا حسم بالرغم من حدة القصف وتوالي الهجمات من القوات الروسية منذ ما يزيد على ستة أشهر، حيث تصد كييف العديد من تلك الهجمات، وترى أن باخموت حصن منيع أمام موسكو لثنيها عن مواصلة عمليتها العسكرية، ومن ثم تواصل دفاعها ولا تنوي سحب قواتها من المدينة. وفي المُقابل، لم توقف موسكو هجماتها على باخموت طيلة الأشهر الماضية، وذلك لتحقيق غايتين؛ أولاهما "عسكرية" لبسط نفوذ أوسع على واحدة من أهم المناطق الموصّلة لمناطق استراتيجية عصيّة على موسكو منذ سنوات، هي دونباس في الداخل الأوكراني، والثانية "معنوية" في حربها النفسية ضد كييف لتوصيل رسالة إلى الأخيرة وإلى حلفائها في الوقت نفسه بأن خطوط الدفاع الأساسية على الأرض تتهاوى واحدة تلو الأخرى.

ولم تكُن باخموت مدينة معروفة إعلامياً قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، فهي ليس لها طابع صناعي أو زراعي مُميّز يجعلها تتصدر المشهد العملياتي بين موسكو وكييف، غير أن رمزية باخموت تكمن في الظروف التي صاحبتها وجعلت منها مُفترق طرق لكل من روسيا وأوكرانيا؛ فالأولى ترغب في كسر إرادة أوكرانيا وحلفائها عن طريق السيطرة على باخموت بأي ثمن، وكييف في المقابل تحاول طمأنة حلفائها بأنها لا تزال جديرة بالثقة والدعم. 

ويدعم هذا التقدير، المؤرّخ العسكري سيدريك ماس Cédric Mas في مقال له بموقع "ميديا بارت" الفرنسي يوم 18 مارس 2023، حيث أوضح أن كلاً من موسكو وكييف تناوران بعضهما في باخموت؛ فكييف تستميت في دفاعها عن المدينة ليس لأهميتها التاريخية أو لكونها حائط الصد الأخير بالنسبة لها فقط، وإنما أيضاً لبث رسالة إلى حلفائها مفادها "نحنُ لا نزال مصدر ثقة.. استمرّوا في دعمنا والوقوف إلى جانبنا". أما روسيا فتصر هي الأخرى على السيطرة على باخموت ليس لأن نجاحها في ذلك سيعني انتصارها في المعركة ككل، لكن هدفها زعزعة ثقة حلفاء أوكرانيا وقلب الرأي العام المحلي في تلك البلدان من أجل خفض الدعم المُقدم أو على أقل تقدير عدم التمادي فيه؛ فيكون ذلك مدخلاً لموسكو للتقدُّم أكثر والوصول لأبعد نقطة مُمكنة في الداخل الأوكراني، مما سيساعدها في جولاتها السياسية القادمة. وهذا ما يُضفي رمزية على باخموت بالرغم من تحوُّلها فعلياً إلى مدينة أشباح، بالنظر لكم الدمار الهائل الذي لحق بها طيلة الأشهر الماضية.

وترى كل من روسيا وأوكرانيا أن رهانها على باخموت صائب مهما تكبّدت في سبيل ذلك من خسائر، فموسكو تؤكد أن حلحلة الصراع الجاري منذ ما يزيد عن عام لن يكون إلا بتحقيق انتصار عسكري حاسم على الأرض في مناطق لطالما كانت عصية على الكسر مثل باخموت وخاركيف وغيرهما، وذلك تمهيداً للسيطرة على منطقة دونباس الصناعية بالكامل، والتي لها أهمية استراتيجية لأنها منطقة إنتاج الفحم والصلب بالأساس، بعدما استعصت ولا تزال مُستعصية على موسكو منذ ما يزيد عن ثماني سنوات. وفي المُقابل، ترى كييف أن صمود قواتها في باخموت أشبه بمعركة كرامة برغم كل ما لحق المدينة من دمار، وأن خروجها مُنتصرة في تلك المعركة سيُرتّب انتصارات أخرى. لذا حذر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، يوم 28 مارس 2023، من أنه ما لم تحقق بلاده النصر في باخموت، فسوف تبدأ روسيا في حشد دعم دولي لتوقيع اتفاق يجبر أوكرانيا على تقديم تنازلات غير مقبولة.

وفي كل الأحوال، لن تستمر حرب الاستنزاف في باخموت طويلاً، حتى مع توفر الإمدادات لكل من موسكو وكييف بسبب قدر الدمار الهائل الذي حلّ بالمدينة، وحوّلها إلى مدينة أشباح؛ ورمزيتها مع الوقت ستكون محل شك في مُقابل الثمن الذي يدفعه كل طرف لإبقاء الوضع على ما هو عليه.


معركة سيرسكي:

واحد من أهم أسباب صمود القوات الأوكرانية أمام نظيرتها الروسية في معركة باخموت هو الجنرال ألكسندر سيرسكي، قائد القوات البرية الأوكرانية وعقلها المُدبّر عملياتياً على الأرض. فقد تخرّج سيرسكي في معهد القيادة العسكرية العُليا في موسكو وبدأ حياته العسكرية مُجنّداً في جيش الاتحاد السوفيتي السابق، وبعد انهيار الأخير واستقلال أوكرانيا، انضم إلى الجيش الأوكراني وتدرج فيه حتى تمت ترقيته إلى رُتبة جنرال. وكان قد أُسند إليه باعتباره ممثلاً للجيش الأوكراني في عام 2013 وبالتنسيق مع حلف "الناتو"، مهمة رفع كفاءة الجيش الأوكراني، بحيث يرتقي لمعايير الحلف كنوع من الاستعداد لضم أوكرانيا إليه لاحقاً، وبعدها بعام واحد قاد سيرسكي معارك ضد القوات الروسية والانفصاليين الموالين لموسكو في إقليم دونباس، إلى أن أصبح قائداً للقوات البرية منذ 2019 وحتى الآن، ويُعد كلمة السّر في العديد من المعارك الحاسمة ومن بينها خاركيف في نهاية العام الماضي وباخموت حالياً.

وينظر الأوكرانيون إلى سيرسكي باعتباره رأس الحربة في القيادة العسكرية الأوكرانية طوال الحرب الجارية، خاصة بعد معارك خاركيف وما أحرزه فيها، ومن ثم يُعلّقون آمالهم عليه في استمرار صد الهجمات الروسية، وفي عدم التفريط في باخموت باعتبارها واحدة من أهم الرهانات العسكرية التي تُراهن عليها كييف من أجل إحراج موسكو ودفعها للتراجع حال فشلت محاولاتها في السيطرة على المدينة، فيما توعّد سيرسكي روسيا بهجوم مضاد في باخموت بعد صمود قواته طوال فصل الشتاء.

في المُقابل، تشعر موسكو بالقلق حيال تعاظم الدور الذي يؤديه سيرسكي ضدها على الأرض طيلة السنوات الثمانية الماضية في صد محاولاتها المستمرة في الكثير من مناطق البلاد، في دونباس عام 2014، وأخيراً في كييف، ثم مرة أخرى في خاركيف، والآن باخموت. ومن ثم لا ترغب روسيا فقط في كسب المعركة من الناحية العملياتية على الأرض، وإنما ترغب كذلك في إخضاع سيرسكي والإمساك به حياً باعتباره ورقة ضغط رابحة، تمهيداً لمساومة الأوكرانيين وأصحاب المصلحة على إجراء صفقة تبادل أسرى مُحتملة؛ وتستطيع موسكو أن ترفع سقف مطالبها في نظير إفراجها عن سيرسكي إن استطاعت الإمساك به والسيطرة على المدينة. ولعلّ ما يُساعد موسكو على المُضي قُدماً نحو تحقيق ذلك، رؤية الأوكرانيين لسيرسكي حالياً باعتباره بطلاً قومياً، وواحداً من أكثر الجنرالات العسكريين نجاحاً في القرن الحادي والعشرين.

رهان الوقت:

تُراهن موسكو وكييف على عامل الوقت، وسياسة النفس الطويل التي إما أن تجعل موسكو تكُف عن ما أسمته "حصار باخموت" وتتراجع تدريجياً عن هدف السيطرة على المدينة في سبيل تحقيق أهداف أخرى، أو ترى كييف أن الرهان على باخموت لم يعد رابحاً كما كان طيلة الأشهر الماضية، ومن ثم فالانسحاب لم يعد مُستبعداً لتحجيم الخسائر، وهو ما رجّحه حلف "الناتو" على لسان أمينه العام ينس ستولتنبرغ، الذي أوضح خلال مؤتمر صحفي عُقد في ستوكهولم على هامش اجتماع ضم وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي، يوم 8 مارس 2023، أن سقوط باخموت بات وشيكاً، مُحذّراً من تبعات هذا السقوط لأنه سيفتح الطّريق شرقاً أمام الروس، على حد قوله.

سيناريوهان متغيران:

ما يجري في مدينة باخموت به ثابت ومُتغيّر؛ الثابت هو حرب استنزاف يُراهن على كسبها كل طرف مهما كبّدته من خسائر مادية أو معنوية على الأرض، أما المُتغيّر ففي سيناريوهات ما سيشهده الصراع الروسي الأوكراني في كلتا الحالتين، كالتالي:

الحالة الأولى: فشل مساعي روسيا في السيطرة على باخموت، وهنا ستكون المدينة نقطة انطلاق كُبرى للقوات الأوكرانية لتحرير المزيد من الأراضي وكسب مكانة مُغايرة على مائدة التفاوض مُستقبلاً، وحتى في جولات المساعي الحميدة التي تقوم بها قوى دولية فاعلة من أجل حلحلة الصراع.

الحالة الثانية: نجاح روسيا في السيطرة بالفعل على باخموت، حينها ستكون اقتربت أكثر من حسم جبهات عالقة تُراهن موسكو بأنها ستُمثل نقطة تحول كبرى في الصراع؛ ويأتي على رأس ذلك باخموت وصولاً إلى دونباس، وهو ما سيُعجل من تحقيق أهدافها المُعلنة، إلى جانب أهدافها غير المُعلنة والمتمثلة في الضغط على قوى أوروبية ودولية من أجل إعادة تشكيل نظام عالمي جديد تكون موسكو ضمن أهم القوى الفاعلة فيه. 

ختاماً، بغض النّظر عما ستنتهي إليه معركة باخموت سواءً من ناحية توقيتها أو انتصار أي من الطرفين على الآخر، فالفصول الجديدة في مشهد الصراع الروسي الأوكراني في أعقاب ذلك ستكون لها الغلبة عن الحديث عن باخموت؛ سواءً أكانت الرواية هي تشبُّث بأرض شبه مُدمّرة بالكامل، أهلها إما موتى أو جرحى أو نازحين أو لاجئين، أو كانت الرواية هي سيطرة طال أمد السعي وراءها. فهي فصول بها قدر وافر من الضبابية لكنها ستطفو قريباً على السطح، وستطرح تساؤلات بعينها يأتي على رأسها: ماذا بعد باخموت؟ هل صفقة جديدة مُحتملة وواسعة لتبادل أسرى ومُحتجزين بين الجانبين؟ هل بؤرة صراع جديدة بتصعيد جديد؟ هل تهدئة للصراع وهُدنة مُفاجئة بين موسكو وكييف؟ المؤكّد في كل ذلك أن حركية هذا الصراع "Conflict dynamics" الروسي الأوكراني ستظل قائمة.