• Login

تكاليف إضافية:

انعكاسات قوة الدولار الأمريكي على الاقتصادات العالمية

25 September 2022


شهد الدولار الأمريكي ارتفاعاً قياسياً أمام العملات الرئيسية عقب الحرب الأوكرانية، ووصل مؤشر الدولار، والذي يعتبر متوسطاً مرجحاً لقيمته مقابل ست عملات عالمية رئيسية إلى أعلى قيمة له منذ عام 2002. ويأتي ذلك في ظل الاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، نتيجة لتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي عززت من ارتفاع الطلب على الدولار باعتباره ملاذاً آمناً، فضلاً عن تشديد السياسة النقدية من قِبل الاحتياطي الفيدرالي. ومن المتوقع أن يسبب ارتفاع الدولار في خلق بعض التداعيات السلبية على الاقتصادات العالمية.

أسباب الارتفاع:

ثمة عوامل أدت إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي على حساب العملات الرئيسية الأخرى، ويتمثل أهمها في التالي:

1- ملاذ آمن: ينظر إلى الدولار كملاذ آمن للاستثمار أو الادخار في أوقات الاضطرابات الاقتصادية. وحالياً، ومع تزايد احتمال تعرض كثير من الاقتصادات المتقدمة للركود، ارتفعت معدلات الطلب على الدولار، على نحو عزز من قيمته. وأشار بنك "ستاندرد تشارترد" إلى أن حوالي 45% من قوة الدولار الأخيرة مستمدة من وضعه كملاذ آمن.

2- تشديد السياسة النقدية: يمكن تفسير ارتفاع الدولار هذا العام من خلال سياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي النقدية المتشددة، وفقاً لــ "بنك أوف أمريكا". فخلال يوليو 2022 رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بـ 75 نقطة أساس، للمرة الثانية على التوالي، ويتوقع بنك "جولدمان ساكس" استمرار تشديد الفيدرالي السياسة النقدية لفترة أطول. 

3- ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية: ارتفعت عوائد السندات الأمريكية، نتيجة رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، مما تواكب معه جذب مزيد من المستثمرين الباحثين عن الأصول الأمريكية، ومن ثم ارتفاع الطلب على الدولار.

4- وضع أفضل للاقتصاد الأمريكي: تبدو أوضاع الاقتصاد الأمريكي أفضل حالاً من نظرائه، خاصة أوروبا، حيث تواجه الأخيرة أزمة طاقة متفاقمة مع سعيها لخفض اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، مما ضاعف من الضغوط التضخمية الواقعة عليها، وتستعد كثير من الدول الأوروبية لمواجهة انكماش حاد.

الدولار أمام العملات العالمية:

حقق الدولار ارتفاعاً قوياً أمام معظم العملات الرئيسية في العالم، بينما تباين أداؤه أمام عملات بعض الأسواق الناشئة والنامية، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:

1- تعادل الدولار واليورو: خلال يوليو الماضي وصل الدولار واليورو إلى مستوى التعادل لأول مرة منذ 20 عاماً، ويتوقع بنك "مورجان ستانلي" أن يهبط اليورو إلى 0.97 دولار خلال الربع الجاري من العام، بينما تتوقع شركة "نومورا" أن يبلغ اليورو 0.95 دولار.

ويأتي ذلك في ظل تأثر الاقتصادات الأوروبية بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية بدرجة أكبر مقارنة بالاقتصاد الأمريكي، إلى جانب المخاوف المتزايدة من دخول الاقتصادات الأوروبية في حالة ركود، إذ يرى بنك "جولدمان ساكس" أن احتمالات حدوث ركود في أوروبا تبلغ 60% بينما تبلغ 30% في الولايات المتحدة. 

2- تراجع قوي للين أمام الدولار: ارتفع الدولار إلى أعلى مستوى له منذ 24 عاماً مقابل الين الياباني في يوليو الماضي، مع استمرار السياسة النقدية المتساهلة في اليابان، ومواصلة التيسير الكمي للحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة على ديونها الحكومية.

3- تباين أداء الدولار أمام عملات الأسواق الناشئة والنامية: هبطت قيمة كثير من عملات الأسواق الناشئة أمام الدولار عقب الحرب الأوكرانية، على غرار الروبية الهندية، التي بلغت مستويات قياسية من الانخفاض مؤخراً، إلا أن البعض الآخر لا يزال محافظاً على أدائه الجيد أمام الدولار، لا سيما عملات الدول المصدرة للطاقة والغذاء، ومنها، أنجولا، والبرازيل.

أما الروبل الروسي، فيعتبر من أفضل العملات أداءً مقابل الدولار هذا العام؛ وذلك نتيجة وفرة النقد الأجنبي مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، فضلاً عن القيود المفروضة على حركة رأس المال في السوق المحلي.

انعكاسات عالمية: 

يفرض ارتفاع الدولار تحديات وفرص بالنسبة للاقتصادات العالمية، وذلك على النحو التالي:

1- الاقتصاد الأمريكي:

من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى خفض التضخم، غير أنه سيترتب عليه تراجع ربحية الشركات، وذلك على النحو التالي:

‌أ- خفض التضخم: يؤدي الدولار القوي لخفض معدل التضخم بالسوق الأمريكي، وإن كان بمعدلات ضئيلة، حيث يساعد الدولار القوي في خفض تكاليف الواردات. وتشير تقديرات بعض المحللين إلى أن قوة الدولار يمكن أن تقلص ما يتراوح بين 0.2 – 0.3% من التضخم الإجمالي.

‌ب- تراجع ربحية الشركات: تجني كثير من الشركات الأمريكية معظم إيراداتها ومبيعاتها من الأسواق الخارجية، وتشير بعض التقديرات إلى أن ارتفاع الدولار سيقلص 5% من نمو أرباح الشركات المتضمنة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 هذا العام، أو بما يعادل 100 مليار دولار. 

2- الاقتصادات الأوروبية: 

من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى تأثيرات متباينة على الاقتصادات الأوروبية، ومنها:

‌أ- ارتفاع تكلفة الواردات: سترتفع تكاليف الاستيراد في أوروبا وهي في الغالب مقومة بالدولار، مما يزيد العبء على الأسر والشركات الأوروبية. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تعتبر من الشركاء التجاريين الرئيسين لدول الاتحاد الأوروبي.

‌ب- استقبال السائحين الأمريكيين: يجعل الدولار القوي الرحلات السياحية إلى الخارج أقل تكلفة بالنسبة للأمريكيين، ومن ثم قد تشهد بعض الدول الأوروبية تدفق مزيد من السائحين الأمريكيين إليها، بيد أن بعض التقديرات تشير إلى أن ارتفاع أسعار النفط وارتفاع معدلات التضخم في الدول الأوروبية قد يحد من الوفورات التي سيحققها السائحون الأمريكيون من ارتفاع الدولار.

‌ج- رفع الفائدة على اليورو: سيضطر المركزي الأوروبي لدعم اليورو وخفض تكلفة الواردات، وذلك عبر رفع وتيرة سعر الفائدة في الأشهر المقبلة، بيد أن ذلك سيقلل من فرص الائتمان ويضعف النمو الاقتصادي.

3- الأسواق الناشئة والنامية: 

من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الدولار إلى بعض التداعيات السلبية على الأسواق الناشئة، ومنها التالي:

‌أ- ارتفاع تكاليف الاستيراد: بالأساس، يتم تسعير السلع، مثل النفط والقمح بالدولار، هذا ما يعني بالتبعية ارتفاع تكاليف واردات تلك السلع، خاصة بالنسبة للدول منخفضة الدخل المستوردة للطاقة والغذاء، مما يؤدي لتزايد عجز موازينها التجارية.

‌ب- مزيد من التضخم: يؤدي ارتفاع أسعار الواردات إلى تغذية الضغوط التضخمية في تلك الدول. ويتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع معدل التضخم في الأسواق الناشئة والنامية ليصل إلى 9.5% عام 2022، و7.3% عام 2023.

‌ج- تفاقم مشكلة الديون: معظم الاقتصادات الناشئة والنامية لديها جزء كبير من ديونها الخارجية مقوم بالدولار. وبالتالي، يعني قوة الدولار ارتفاع أقساط الديون، فضلاً عن زيادة تكلفة خدمته. وتقدر وكالة فيتش أن متوسط الدين الحكومي بالعملات الأجنبية في الأسواق الناشئة ارتفع إلى 31% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2021، مقارنة بـ 18% عام 2013، وهو مؤشر سيتفاقم في ظل تبعات الحرب الأوكرانية.

وعلى الرغم من ذلك، تتمتع بعض الاقتصادات النامية والناشئة- خاصة تلك المصدرة للطاقة، والسلع الزراعية- بمستويات كافية من الاحتياطيات من العملات الأجنبية، والمواد الأولية، لتغطية خدمات الديون في المستقبل القريب. 

‌د- خروج رؤوس الأموال الأجنبية: تزايد خروج الأموال الساخنة من أسواق الأسهم والسندات بالاقتصادات الناسئة مع قوة الدولار. وقد بلغ إجمالي التدفقات الخارجة من الأسواق الناشئة حوالي 9.8 مليار دولار في يوليو 2022، وهو ما يعتبر تخارجاً قياسياً للشهر الخامس على التوالي.

ويأتي ذلك في ضوء رغبة المستثمرين في الاستفادة من العوائد المرتفعة لسندات الخزانة الأمريكية، على حساب الأصول الأخرى في الأسواق الناشئة والنامية، على الرغم من قيام بعضها مثل، البرازيل وتشيلي وبولندا، برفع أسعار الفائدة قبل دورة التشديد النقدي التي بدأها الاحتياطي الفيدرالي.

‌ه- سحب الاحتياطيات لدعم العملة: استنزفت الاقتصادات النامية ما يقدر بنحو 379 مليار دولار من الاحتياطيات، في محاولة لدعم عملاتهم مقابل الدولار، بيد أن هذه الجهود لم تسفر سوى عن استقرار محدود في أسواق الصرف الأجنبي لتلك الدول.

هل يستمر الدولار في الارتفاع؟ 

يبدو من الصعب التكهن بالاتجاه المستقبلي للدولار الأمريكي، ولكن أغلب التقديرات تشير إلى استمرار ارتفاع الدولار، لاسيما في الأمد القصير، في ظل الآتي:

1- أصل آمن: سيظل الدولار ملاذاً آمناً للأفراد والمستثمرين، خاصة في ظل استمرار الصراع الروسي الأوكراني، وارتفاع درجة عدم اليقين بالنسبة للمشهد الاقتصادي العالمي. 

2- وتيرة التشديد النقدي: من المتوقع أن يستمر الفيدرالي الأمريكي في رفع الأسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، مما سيحافظ على قوة الدولار، على الأقل، حتى عام 2023. ومن المرجح أن تصل أسعار الفائدة الأمريكية إلى 3.4% عام 2022، و3.8% عام 2023.

وفي الختام، يمكن القول إن الدولار الأمريكي قد يكون في طريقه نحو الارتفاع حتى العام المقبل، ويغذي ذلك استمرار التوترات الجيوسياسية مع روسيا، والآفاق القاتمة للاقتصاد العالمي، مما سيدفع المستثمرين نحو الاحتفاظ بالعملة الأمريكية، على حساب العملات والأصول الأخرى.