"القوة 59":

أهداف تأسيس أول قوة أمريكية بحرية مُسيّرة للردع في الخليج

28 September 2021


أعلنت القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية، في 9 سبتمبر 2021، أن الأسطول الخامس التابع لها شكّل "قوة المهام الـ 59" في الخليج بقيادة خبير الروبوتات "مايكل براسور"، وذلك لزيادة قدرته على الردع ودمج الأنظمة غير المأهولة والذكاء الاصطناعي بسرعة في نطاق عملياته. وهذه القوة التي ستكون الأولى من نوعها التابعة للبحرية الأمريكية، تستخدم الطائرات المُسيّرة وغيرها من الوسائل التي لا تحتاج إلى تدخل العنصر البشري، لتحقيق عدد من الأهداف الأمريكية في منطقة الخليج العربي. وفي ظل تقدم التقنيات التكنولوجية المستخدمة في تلك القوة، يمكن القول إنها قوة رادعة، على نحو أثار التساؤل عن دلالات وأهداف تأسيسها.

دوافع مُحركة:

يمكن الوقوف على أبرز دوافع الولايات المتحدة من وراء تأسيس "قوة المهام الـ 59"، وذلك على النحو التالي:

1- تفعيل الردع الأمريكي: تهدف القوة العسكرية الأمريكية البحرية المُسيّرة في الخليج العربي، إلى ردع إيران لاسيما في ضوء تطورات متلاحقة؛ منها اختطاف ناقلة الأسفلت والبيتومين (أسفلت برنسيس) في خليج عُمان في شهر أغسطس الماضي، والهجوم بطائرة مُسيّرة على ناقلة نفطية ذات صلة بإسرائيل في 29 يوليو الماضي، وهو ما أسفر عن مقتل جندي بريطاني سابق ومواطن روماني. وقد تكرر نشر الأسطول الخامس الأمريكي لمشاهد تتحرش فيها قطع بحرية إيرانية بسفن حربية أمريكية في الخليج العربي، وعلى مسافات قريبة منها للغاية.

2- تعزيز العمليات البحرية: على خلفية الإعلان عن القوة العسكرية الأمريكية البحرية المُسيّرة في الخليج العربي، أكد الناطق باسم الأسطول الخامس، تيم هوكينز، أنها قوة عمل مكرسة لدمج سريع للأنظمة غير المأهولة المُسيّرة عن بُعد والذكاء الاصطناعي مع العمليات البحرية في منطقة الأسطول. إذ تشير الأنظمة غير المأهولة إلى أنظمة يمكن استخدامها تحت الماء وعليه وفوقه، في إشارة إلى طائرات مُسيّرة ووسائل أخرى يمكن التحكم بها عن بُعد. ولا شك أن تقنيات الأنظمة غير المأهولة التي جرى تطويرها وإنتاجها ونشرها في مسارح العمليات بالفعل أو تلك التي لا تزال قيد التطوير والتحديث، سوف تغير من حاضر ومستقبل الحرب الحديثة بصورة جوهرية. فمن شأن تغيير نماذج المعدات والأجهزة غير المأهولة والاختراعات المستقبلية أن يسفر عن تغيير آخر على صعيد استراتيجيات القتال وتكتيكات المراقبة واستخدامات نظم الاستشعار المتعددة، ما يؤثر بدوره في الخطط السياسية والإعلامية لصانعي القرار على الساحة العالمية من ناحية، وأشكال الهجمات الإلكترونية الروبوتية ضد الجنود أو الأنظمة الروبوتية المُعادية في ميادين المعارك من ناحية أخرى.

3- المراقبة المستمرة لمنطقة الخليج العربي: تهدف الولايات المتحدة من خلال قوتها البحرية المُسيّرة في الخليج العربي، إلى إحكام رقابتها على الأنشطة وأنماط الحياة البحرية والساحلية ومعالجتها بصورة مستمرة. وهو الأمر الذي تتزايد أهميته بفعل اتجاه القوات البحرية الإيرانية التابعة للحرس الثوري إلى تمويه أصولها كي تبدو مدنية لتغطية عملياتها. ففي مطلع العام الجاري، أكدت القوة البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني امتلاكها منظومات عسكرية ولوجستية متنوعة تجعلها تمتلك سيطرة ورصداً تاماً لمنطقة الخليج العربي، حسب ادعائها. وهذا أكد أهمية تعزيز الرقابة الأمريكية على هذه المنطقة، لاسيما مع التقارير التي تشير إلى استخدام النظام الإيراني للمدنيين في المناطق الساحلية كدروع بشرية في النزاعات العسكرية المحتملة.

4- مجابهة أنشطة إيران في المنطقة: بالنظر إلى موقع إيران الجغرافي وقدراتها الصاروخية واستعدادها للتصعيد، فإن تحولها إلى قوة إقليمية في مجال الطائرات من دون طيار "درونز" يشكل تحدياً أمام الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة. وقد تكرر التأكيد على هذا المعني من قِبل قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال "كينيث ماكنزي"، في مناسبات عدة، خاصة مع نظر النظام الإيراني إلى القوات البحرية لفيلق الحرس الثوري كرأس حربة في مواجهته مع الغرب من جهة، وتكرار تهديده بعرقلة حرية الملاحة عبر مضيق هرمز من جهة ثانية. وفي هذا السياق، تهدف القوة الأمريكية البحرية المُسيّرة إلى منع إيران من إنكار أفعالها وتقويض يدها المطلقة في عقر دارها.

5- اختبار أسلحة مضادة للطائرات المُسيّرة: مع تفاقم المخاطر الناجمة عن الطائرات المُسيّرة، أصبح السلاح المضاد لهذه الطائرات هو هدف العديد من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة. إذ يبدو أن البحرية الأمريكية تجري أبحاثاً في أطوار متقدمة حول سلاح مضاد للطائرات المُسيّرة، كما أن القوة الأمريكية البحرية المُسيّرة في الخليج العربي قد تكون نواة لتجارب محتملة لذلك السلاح. وفي هذا الإطار، من المقرر أن تبدأ البحرية الأمريكية اختباراً على الأرض لسلاح ليزر عالي الطاقة وبرنامج ODIN في وقت لاحق من العام الجاري.

6- الاستجابة للمخاوف الإسرائيلية: حذر وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، في المؤتمر السنوي للمعهد الدولي لمكافحة الإرهاب بجامعة "ريخمان"، يوم 11 سبتمبر 2021، من التدريبات الإيرانية لميليشيات في العراق واليمن ولبنان وسوريا على استخدام طائرات مُسيّرة متقدمة في قاعدة "كاشان". وقال جانتس إن "إيران تطور إرهاباً بالوكالة تنفذه جيوش إرهاب، تساعد إيران في تحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتعتبر الطائرات المُسيرة التي يبلغ مداها آلاف الكيلومترات إحدى أهم الأدوات التي تستخدمها إيران ومن يعملون لحسابها". وهنا دفعت بعض التحليلات بأن القوة العسكرية المُسيّرة في الخليج العربي تردع الإرهاب الجوي الذي تُصدّره طهران إلى المنطقة بعد أن أعربت إسرائيل عن مخاوفها منه.

 

دلالات بارزة:

تثير القوة العسكرية الأمريكية المُسيّرة في منطقة الخليج العربي، جملة من الدلالات التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:

1- الاعتماد على الشراكات الإقليمية: ترى إيران في القوة الأمريكية وسيلة محتملة لإقامة "قوة خليجية - إسرائيلية مشتركة" على مقربة منها، من وجهة نظر طهران، وذلك في إشارة إلى تغيير خطة القيادة الموحدة لنقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية إلى منطقة عمليات القيادة المركزية في 15 يناير 2021، لتسهيل التعاون الأمني الثنائي والإقليمي وتقاسم الأعباء. وهذا ما دفع إيران لانتقاد هذه الخطوة لتصفها بأنها جزء من "مؤامرة أمريكية" أوسع نطاقاً لتسليم المسؤوليات العسكرية الإقليمية إلى جهات أخرى، خاصة مع العمليات المشتركة التي أجرتها البحرية الأمريكية وخفر السواحل وقوات المارينز في شمال الخليج العربي منذ شهر مارس 2020.

2- تأكيد الانخراط العسكري الأمريكي في المنطقة: جددت الذكرى الـ 20 لأحداث 11 سبتمبر وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، الجدل حول ما إذا كان ينبغي على واشنطن أن تظل منخرطة عسكرياً وبعمق في منطقة الشرق الأوسط، وأثارت النقاش حول تداعيات كارثية محتملة على شاكلة الهجمات الإرهابية، واستهداف عمليات نقل النفط من الخليج العربي، وغير ذلك. كما تزايد الحديث عن مسألة التنافس بين القوى الدولية (لاسيما الولايات المتحدة وروسيا والصين) في الشرق الأوسط، وعن قدرة بكين وموسكو على ملء الفراغ إن انسحبت واشنطن عسكرياً من المنطقة. ولعل القوة العسكرية المُسيّرة في منطقة الخليج العربي ربما تنفي جزئياً احتمالية حدوث مثل هذا الفراغ. 

3- تعزيز التعاون بين الإنسان والآلة في نطاق جغرافي ممتد: تبلور التقنيات العسكرية في منطقة الخليج العربي مفاهيم التعاون بين الإنسان والآلة على مقربة من إيران، من خلال الدمج السريع للأنظمة المتقدمة المستقلة مع العمليات البحرية والساحلية ضمن مجال الأسطول الخامس (الذي يشمل الخليج العربي، ومضيق هرمز، وخليج عُمان، ومضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وقناة السويس، وأجزاء من المحيط الهندي). إذ يمثل الشرق الأوسط بيئة مثالية لاختبار تقنيات عسكرية جديدة تدفع بالابتكارات الاستراتيجية قُدماً من أجل مجابهة تحديات عديدة، مع جغرافية شبه مغلقة، وظروف تشغيل ذات درجات حرارة عالية، ونقاط اختناق بحرية مزدحمة، وبنية تحتية حيوية للطاقة.

4- قدرات فائقة لـ "القوة 59": على الرغم من أن طبيعة أنشطة "قوة المهام الـ 59" ومعظم منصاتها ستبقى سرية، فإنه بإمكان مركبة القتال الجوي من دون طيار "لويال وينجمان" دعم الطائرات المأهولة في المجال الجوي المتنازع عليه. ويمكن للمركبات الشبحية منها العمل إلى جانب الطائرات المأهولة في عمليات أرض - جو أو بالنيابة عنها، كما يمكن استخدامها للاضطلاع بمهام الحرب الإلكترونية والاستخبارات والرقابة والاستطلاع. 

5- رد إيراني مرتقب: من المرجح أن تتعامل طهران مع عمليات "قوة المهام الـ 59" على أنها تهديد جدي لها، وهو ما ينذر بمحاولات إيرانية لتقويضها والحيلولة دون تحقيق الأهداف المرجوة منها. ونظراً لأن أصول هذه القوة وأنشطتها مُسيّرة عن بُعد، فقد تشعر إيران أنها محصّنة ضد الإجراءات الانتقامية إذا دمرتها أو استولت عليها. وهذا ما تؤكده حادثة إسقاط طائرة استطلاع أمريكية من دون طيار من طراز (BAMS-D) في يونيو 2019، والاستحواذ على الطائرة العسكرية "آر كيو-170 سنتينال" عام 2011، فضلاً عن حوادث أخرى لم تؤد جميعها إلى أي رد فعل أمريكي حاسم. 

6- محاولة طهران تعطيل القوة الجديدة: أضافت القوات البحرية للحرس الثوري الإيراني، خلال عام 2020، ما لا يقل عن 6 دفعات كبيرة من الزوارق السريعة المسلحة والطائرات الهجومية من دون طيار، ما يمنح طهران الوسائل والدوافع لمراقبة عمليات "قوة المهام الـ 59" عن كثب وربما تعطيلها. إذ تدّعي إيران أن لديها أنظمة رادار قادرة على اكتشاف وتعقب المركبات الجوية الصغيرة والمتخفية. كما يمتلك الحرس الثوري قدرات كبيرة على صعيد الحرب السيبرانية، وهي القدرات المحتمل توجيهها ضد "قوة المهام الـ 59".

 

ختاماً، بالنظر إلى طابعها الرادع غير الهجومي، قد لا يسفر استهداف "قوة المهام الـ 59" عن رد عسكري أمريكي حاسم، لاسيما في حالة استهدافها سيبرانياً على نحو يطال أنظمة تشغيلها من دون أن يسفر بالضرورة عن تدميرها التام. ولذا، تتزايد أهمية تعزيز مصداقية رسائل الردع الأمريكية التي تستلزم، في المقام الأول، وضع قواعد للانخراط المباشر، على نحو يسبقه تحديد طبيعة النقاط الحمراء التي قد تسفر عن هذا الانخراط المحتمل، مع تحديد أدوات الاستجابة بخلاف العقوبات الاقتصادية (التي تتراجع جدواها الرادعة)، كي لا تتعرض الأصول الأمريكية المأهولة وغير المأهولة لاستهداف محتمل. ومع هذا، فإن "قوة المهام الـ 59" تمنح الولايات المتحدة الأمريكية وشركاءها القدرة على خوض غمار معارك بحرية طاحنة، مع تقليل المخاطر التي تتعرض لها العناصر الأمريكية إلى أقل حد ممكن.