إعادة تشكيل:

كيف تؤثر التداعيات المالية لكورونا على الاقتصاد العالمي؟

14 July 2020


شهدت الفترة الماضية عدداً من التطورات المالية العالمية، التي تنذر بأن أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية الآنية، ستترك ندبات عميقة قد تبقى مسيطرة على ملامح الاقتصاد العالمي لسنوات. ولا تقتصر تلك التطورات ولا الندبات على الاقتصادات المتقدمة فقط أو الصاعدة فقط أو النامية فقط، ولكنها تشملها جميعاً، كونها أزمة تلقي بظلالها على مختلف جوانب الاقتصاد العالمي بكل تنويعاته، الجغرافية والموضوعية والهيكلية.

زيادة الديون:

أظهرت بيانات بنك "باركليز"، مؤخراً، أن الاقتصادات الكبرى تواجه زيادة غير مسبوقة في الديون، جراء تحمل الموازنات بها لنفقات تأمين خدمات الرعاية الصحية من ناحية، وتكاليف خطط التحفيز المالي الضخم من ناحية ثانية، وكذلك تكاليف دعم الفئات الاجتماعية الأكثر تأثراً بالأزمة من ناحية ثالثة.

وفي تقريره الأخير قال البنك: "إن صناع القرار لن يستطيعوا تجاهل الأوضاع المالية المتدهورة لفترة طويلة". ويعتبر هذا الحكم مبرراً إلى حد بعيد، لاسيما أن معدل الدين الكلي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات الكبرى يتجه إلى الارتفاع ليسجل العام المقبل أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية، ففي منطقة اليورو يتوقع ارتفاعه إلى 100% من الناتج بنهاية عام 2020 مقارنة مع نحو 85% عام 2019، فيما يرجح ارتفاعه في الولايات المتحدة بنحو 30 نقطة مئوية في العامين المقبلين.

وإذا كانت الولايات المتحدة تتمتع بوضع مالي مستقر نسبياً، نظراً لأن اقتصادها لديه مزايا، من قبيل امتلاك الدولار الأمريكي الذي هو عملة الاحتياطي العالمي الأولى، وامتلاك سوق سندات كبيرة وأقل عرضة للتقلبات؛ لكن على الجانب الآخر، تبقى الأوضاع المالية بمنطقة اليورو مهددة كثيراً تحت عبء الدين المتزايد. 

فمنطقة اليورو- وإن كانت تعد اتحاداً نقدياً- لا تمتلك ميزة الاتحاد المالي، حيث أنه برغم قيام السلطات المالية الاتحادية على مستوى المنطقة بمحاولات للوقوف بجانب الدول المتأثرة بالأزمات، لكن مهمة الوصول إلى سياسة وموقف موحد لدعم تلك الدول عادة ما تستهلك الكثير من الوقت وتواجه صعوبات جمة، الأمر الذي يترك اقتصاد كل دولة بها في مواجهة أزمته بمفرده في أغلب الأحوال.

وإذا كانت منطقة اليورو تمتلك بعض المزايا الخاصة، وعلى رأسها انخفاض تكاليف الإقراض، لكن اختلاف التوجهات الاقتصادية بين دول جنوب وشمال أوروبا، وكذلك الفوارق الكبيرة بين قوة ومتانة الوضع المالي بينها، يصعب من مهمة المنطقة في إيجاد سياسة موحدة وفعالة ومن ثم تطبيقها لخفض الدين الكلي.

إفلاس الشركات:

شهد الاقتصاد الياباني أحد التغيرات الاستثنائية الناتجة عن التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا المستجد أيضاً. وبرغم أن هذه التغيرات مرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالوباء وتبعاته، لكنها قد تترك آثارها السلبية على الحياة الاقتصادية في البلاد لسنوات، لاسيما في حال استمرار الوباء خارج سيطرة الحكومات حول العالم، وإذا دعت الضرورة إلى العودة إلى الإغلاق الاقتصادي مجدداً.

فقد شهد النصف الأول من العام الجاري ارتفاعاً كبيراً في حالات الإفلاس بين الشركات اليابانية، وهى المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك منذ عام 2009، إبان الأزمة المالية العالمية. فقد أشار تقرير لشركة "طوكيو شوكو للأبحاث"، إلى أن الأشهر الستة الأولى من هذا العام شهدت إفلاس 4001 شركة في اليابان، بزيادة تبلغ 0.2% عن الفترة نفسها من العام الماضي.

وإذا كانت أزمة كورونا وتداعيات الإغلاق الوطني الهادف لمحاصرة الفيروس في اليابان كان لها التأثير المباشر في حدوث 240 حالة من إجمالي حالات الإفلاس بين الشركات، لكن معظم الحالات، وفق شركة "طوكيو شوكو"،  ترجع إلى زيادة تكاليف العمالة وارتفاع ضريبة المبيعات، والتي تعتبر في معظمها أيضاً مرتبطة بأزمة كورونا لكن بشكل غير مباشر، لاسيما مع سعى الحكومة إلى تعزيز إيراداتها كآلية لتأمين التمويل اللازم لخطط التحفيز والإنفاق على الجوانب الضرورية وقت الأزمة.

وتعتبر طبيعة وتوزيع حالات إفلاس الشركات في اليابان ذات أهمية كبيرة بالنسبة لتصوراتها المستقبلية وتأثيراتها المتوقعة على الاقتصاد. فقد أظهرت البيانات أن حالات الإفلاس في قطاع الصناعة شهدت زيادة بنحو 3.8% خلال النصف الأول من العام. وكان ذلك ناتجاً بشكل مباشر عن قيام الحكومة بفرض حالة الطوارئ على الصعيد الوطني لأكثر من شهر حتى أواخر مايو الماضي، في محاولة منها لاحتواء تفشي كورونا. وفي حال استمرار الأزمة، فإن ذلك سيعمق من خسائر قطاع الصناعة في اليابان، ومثلها الاقتصادات المتقدمة عموماً.

ارتفاع الاحتياطيات:

على النقيض مما يحدث في الدول المتقدمة، من تصاعد في الأزمات المالية وتأثيرات سلبية على قطاع الصناعة، فإن هناك بعض الدول، كالصين، وهى أكبر اقتصاد صاعد في العالم، يبدو أنها بدأت الاستفادة من الوضع الاقتصادي العالمي الراهن. 

فقد كشفت البيانات أن احتياطيات النقد الأجنبي لدى الصين تشهد نمواً في الوقت الحالي، وأنها حققت ارتفاعاً بنحو 10.6 مليار دولار في يونيو الماضي، وبلغت 3.112 تريليون دولار بنهاية ذلك الشهر.

وبرغم أن الارتفاع جاء دون توقعات المحللين الذين رجحوا وصول الاحتياطيات إلى 3.120 تريليون دولار بنهاية ذلك الشهر، لكن في الحقيقة يمثل استمرار الارتفاع في حد ذاته إنجازاً للاقتصاد الصيني في ظروف تموج بالضبابية والضغوط على الموازنات والإيرادات الحكومية.

 فهذا الارتفاع يعني أن الحكومة الصينية ليست في حاجة للسحب من الاحتياطيات بشكل كثيف من أجل دعم استقرارها الاقتصادي والمالي والنقدي في خضم الأزمة الراهنة، بل إن اقتصادها بات قادراً على النمو ذاتياً، ومراكمة الاحتياطيات أيضاً.

هذه التطورات المتناقضة على مستوى الاقتصادات الكبرى في العالم، توحى بأن أزمة كورونا وتداعياتها سيكون لها تأثيرها على توزيع الثروات بين الدول، كما أنها سيكون لها تبعاتها على إعادة توزيع التوازنات الاقتصادية في العالم، وأن الاقتصادات التي تمتلك من القدرات الذاتية ما يساعدها على تمويل احتياجاتها المالية، ودعم استقرارها الاقتصادي من دون الاقتراض المفرط، سيتعزز موقعها في النظام الاقتصادي العالمي، بينما ستفقد الدول التي لا تتمكن من ذلك الكثير من نقاط قوتها.

 وقد تجد هذه الدول نفسها مجبرة على تبني حلول استثنائية، من قبيل إعادة توزيع النفقات والائتمان، وتطبيق سياسات التقشف المالي، وتحديد سقف للدين، وكذلك سقف للعائد على السندات، من أجل خفض الدين، ولاسيما في الدول المثقلة بالدين.