مصالح متنوعة:

لماذا يتم التوظيف السياسي للفتاوى الدينية في الشرق الأوسط؟

03 March 2020


تصاعد استخدام الفتاوى الدينية عبر منابر المساجد أو شاشات الفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأعوام الماضية، بحيث وظفت بأشكال سياسية مختلفة في الإقليم وبصفة خاصة في بؤر الصراعات العربية، بما يحقق عدة أهداف، تتمثل في دعم الجماعات المحلية المتطرفة، والثأر لخسائر التنظيمات والجماعات الإرهابية، ومواجهة تصاعد أدوار الخصوم السياسيين، وتعزيز فرص القوى السياسية في المواسم الانتخابية، ومساندة الميلشيات المسلحة في الجبهات القتالية، وخدمة توسعات القوى الإقليمية ولاسيما تركيا، وتوجيه الاستثمارات الاقتصادية في الدول المأزومة مثل إيران.

أهداف عديدة:

تزايد لجوء بعض النظم الحاكمة أو القوى المعارضة أو التيارات السياسية أو الميلشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية للفتاوى الدينية، خلال الأعوام القليلة الماضية، بما يحقق عدة أهداف لها في الشرق الأوسط، على النحو التالي:

ترسيخ الكراهية

1- دعم الجماعات المحلية المتطرفة: يطلق المفتي الليبي المعزول الصادق الغرياني، عبر القناة الفضائية "التناصح" –التي يمتلكها نجله سهيل وتبث من تركيا- فتاوى بمعدل مرة واحدة أسبوعياً، للتحريض على القتال ضد الجيش الوطني الليبي. فعلى سبيل المثال، دعا الغرياني، في الثُلث الأخير من يناير 2020، الشعب الليبي إلى التوقف عن بيع السلع للموالين إلى الجيش الوطني.

وطالب الغرياني المواطنين، في فتوى نادرة، بالخروج في الشوارع والميادين للمظاهرة بشكل عارم لمطالبة كتيبة "الردع" بإخلاء المظلومين، مشيراً إلى أن "هذه الحروب سببها الظلم الذي يقع في كتيبة الردع وغيرها"، الأمر الذي يجسد حالة من العداء والكراهية في الأوساط الاجتماعية، وذلك على خلفية معركة تحرير طرابلس، والتي تصل أحياناً إلى حد المطالبة بقتل الخصوم. وقد استجاب قطاع من الليبيين لفتوى الغرياني للتظاهر في طرابلس للتنديد بالحرب على العاصمة. ولم تكن تلك هى المرة الأولى التي يستجيب فيها التيار الموالي للغرياني بالخروج إلى الشوارع، إذ سبق للغرياني الإفتاء بعدم جواز الصلاة خلف من يدعو لنصرة حفتر.

بقاء الإرهاب

2- الثأر لخسائر التنظيمات والجماعات الإرهابية: وذلك عبر الدعوة إلى تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية، حيث يشير اتجاه في الكتابات إلى أن التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة قد تلجأ إلى إصدار فتاوى تخفي وراءها التراجع التكتيكي في وجودها نتيجة تكثيف العمليات العسكرية في مواجهتها وتقلص المساحات الجغرافية التي كانت تسيطر عليها من ناحية ولحشد المزيد من الأتباع من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن السلطات العراقية ألقت القبض على مفتي "داعش"، في 16 يناير 2020، والذي كان قد أصدر فتوى تبيح تفجير المقار الحكومية والمؤسسات الدينية (تفجير جامع النبى يونس عليه السلام) لاسيما في أعقاب تواتر أنباء عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق، على نحو يشير إلى رغبة ما تبقى من عناصر التنظيم في العودة لاستئناف العمليات الإرهابية وإثارة عدم الاستقرار بعد سقوط مشروع التنظيم.

استباحة الخصوم

3- مواجهة تصاعد أدوار الخصوم السياسيين: وفي هذا الإطار، لجأ حزب "التجمع اليمني للإصلاح" عبر ذراعه الديني "هيئة علماء اليمن"، في بداية سبتمبر 2019، إلى إصدار فتوى اعتبرت فيه المجلس الانتقالي الجنوبي "كياناً متمرداً"، وهو ما يعد امتداداً للفتاوى التي انتشرت منذ أكثر من ربع قرن خلال الصراع بين الشمال والجنوب. فقد وصفت الهيئة الجنوبيين وقتذاك بـ"المرتدين عن الوحدة"، والمجلس الانتقالي بـ"المتمرد"، ودعت للتعامل معه بالقوة.

وسبق أن كان الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح يوظف سلاح الفتاوى في مواجهة خصومه بعد ثورة 2011، إذ أصدرت "جمعية علماء" اليمن المرتبطة بالنظام، في 30 سبتمبر 2011، فتوى بحرمة التظاهرات الاحتجاجية السلمية، داعية السلطات للقيام بمسئولياتها المتمثلة في تأمين المرافق والمنشآت وإخلاء المدارس والجامعات لأن ذلك يعد "جهاداً في سبيل الله". وأكد علماء الدين في بيان لهم أن "المظاهرات والاعتصامات التي ينظمها شباب الثورة ومعارضو النظام محرمة شرعاً وقانوناً لما يترتب عليها من مفاسد ولما تحمل من شعارات مخالفة للشرع". ووجه العلماء الدعوة إلى الشعب لـ"الالتزام بالبيعة المنعقدة في ذمتهم والوفاء بها"، في إشارة إلى انتخاب الرئيس صالح عام 2006 و"عدم الخروج على ولى الأمر"، الذي يعتبر، في رؤيتهم، "من أعلى درجات الخروج".

في حين انتقد محمد الحزمي الناطق باسم "هيئة علماء الدين"، بيان "جمعية العلماء"، قائلاً: "إن بيان نظرائهم في الجمعية عبارة عن بيان عسكري صادر عن قيادة الأمن المركزي والحرس الجمهوري، تم إلباسه لباس العلماء كى يبرروا للرئيس علي عبدالله صالح سفك المزيد من الدماء وإعلان الحرب الشاملة على أبناء شعبه"، وأكد أن "الدليل على ذلك هو أن الرئيس صالح يقتل ويسفك دماء الأبرياء خلال الفترة الماضية بدون أى فتوى دينية"، مضيفاً أنه "سعى إلى استصدار هذه الفتوى لتبرير التدمير الشامل والحرب الشاملة في البلاد".

أصوات الناخبين

4- تعزيز فرص القوى السياسية في المواسم الانتخابية: وهو ما تلجأ إليه العديد من القوى والتيارات السياسية العراقية للتأثير على أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، على نحو ما جرى في آخر انتخابات (12 مايو 2018). إذ اعتمدت التيارات الشيعية على دعم المرجعيات الدينية كمصدر للشرعية، وركزت الحملات الانتخابية على الفتاوى المحفزة للمواطنين على المشاركة في الانتخابات، وترجيح كفة قوائم ومرشحين بعينهم. في حين دعت غالبية التيارات السنية إلى اختيار الأشخاص الذين يتمتعون بالكفاءة السياسية والنزاهة المالية.

وكلاء الله

5- مساندة الميلشيات المسلحة في الجبهات القتالية: يحرص المقاتلون في ميلشيا الحوثيين على البحث عن سبل مختلفة لتجنيد آخرين معهم من خلال "الفتاوى الدينية". فقد أطلق ما يسمى بـ"مفتى الديار البحثية" شمس الدين بن شرف الدين، في 16 أغسطس 2018، فتوى تصف الآباء والأمهات الذين لا يدفعون أبنائهم لجبهات القتال بـ"المتخاذلين عن نصرة دين الله". واعتبر في فتواه أن "ازدحام الأسواق في صنعاء وباقي المدن اليمنية بالشباب في الوقت الذي تكون فيه الجبهات في أمس الحاجة لكل مقاتل، أمر يستدعي غضب الله وعقابه إذا لم يتم تدارك الأمر".

هذا فضلاً عن إصدار فتوى تحرم الفرار من جبهات القتال، الذي اعتبرته "جريمة وراءها جهنم". وقد أثارت تلك الفتوى غضباً واسعاً لدى الرأى العام اليمني من الطريقة التي تتحايل بها الميلشيا الحوثية على الأوضاع لخداع المواطن البسيط. كما حرم المفتي نفسه، في 22 أكتوبر 2018، الزواج من مواطنين في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وهو ما جاء على خلفية اعتداء ميلشيا الحوثي على فتاتين كانتا تزفان إلى زوجيهما القاطنين في مدينة مأرب الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث كانت الميلشيا أصدرت تعميماً على نقاطها الأمنية في المناطق التي تسيطر عليها تمنع خلالها النساء من التنقل بين المحافظات أو السفر دون وجود مرافقين لهن من الرجال الأقارب.

لذا، عينت الميلشيا أعضاءًا من عناصرها والتابعين لها في هيئة الإفتاء الخاضعة لها، والتي تصدر فتاوى بشكل دوري تدعو فيها إلى وجوب القتال في صفوفها والتبرع لها بالأموال وحرمة الخروج على حكمها من ناحية وقتال المدافعين عن حكم الشرعية في عدة مناطق يمنية من ناحية أخرى.

تمدد أنقرة

6- خدمة توسعات القوى الإقليمية: أكد المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية، في دراسة له في 8 فبراير 2020، على أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوظف العامل الديني بشكل عام والإفتائي بوجه خاص في الداخل التركي بما يعزز التدخل العسكري الخارجي لأنقرة، وخاصة في سوريا وليبيا.

فعلى سبيل المثال، نشر رئيس مؤسسة "ديانت" علي أرباش تغريدة على حسابه على "تويتر" دعا فيها جميع المساجد إلى قراءة سورة الفتح كل يوم في صلاة الصبح، وذلك خلال فترة العملية العسكرية في شمال شرق سوريا. كما تم الاستناد إلى فتاوى لتبرير التدخلات التركية في ليبيا، إذ أشارت فتوى الشيخ الليبي عمر مولود إلى أن "طلب حكومة الوفاق الوطني الليبية المساعدة من الحكومة التركية هو حق شرعي لا غبار عليه". وافتى الداعية الليبي الصادق الغرياني، خلال حلقة تلفزيونية في 1 يناير 2020، بأن "التدخل التركي حلال شرعاً ومشروع قانوناً".

وادعى الغرياني أن "التحالف مع تركيا للدفاع عن العاصمة مشرع بالشرع، لأنه مع دولة مسلمة، والله تعالى يقول (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وأيضاً بالقانون، لأن الجهة التي قامت به هى الحكومة المعترف به دولياً". وفي هذا السياق، طالب مؤشر الإفتاء بـ"ضرورة مواجهة الخطاب الإفتائي التركي الذي يفتش في النصوص الشرعية عما يبرر به أعمال العنف والقتل، والذي يذهب بالأدلة الشرعية والقواعد الفقهية عن مرادها، لترسيخ وتصدير صورة صحيحة لأفعال خاطئة".

خصخصة الفتوى

7- توجيه الاستثمارات الاقتصادية في الدول المأزومة: تناولت بعض المواقع الإيرانية فتوى دينية، في يناير 2019، على خلفية تصاعد الاحتجاجات، والتي تحث على ضرورة استثمار رجال الأعمال العراقيين في إيران لدعمها في مواجهة الأزمات الاقتصادية الداخلية والعقوبات الأمريكية في آن واحد، عبر جذب الاستثمارات الخارجية، بالتركيز على نقطة محورية عنوانها "إسلامية الاقتصاد والبنوك الإيرانية"، على نحو يعكس تأزم الموقف الإيراني داخلياً وخارجياً.  

حرب دينية

خلاصة القول، إن ثمة إقحاماً للدين بوجه عام وتوظيفاً للفتاوى بشكل خاص في الخلافات والصراعات السياسية في المنطقة، على نحو ما انطلق في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، وهو ما يزيد من مضاعفات عدم الاستقرار لأنه يؤدي إلى حشد مختلف الأطراف، بمن فيهم الجماعات المتطرفة والميلشيات المسلحة، إلى "حرب دينية" للانخراط في القتال باسم الله وتحت راية الجهاد، في حين تعتبر بعض الكتابات الفتاوى الدينية أحد أدوات حروب "الجيل الخامس" التي تهدد أمن الدول واستقرار المجتمعات.