الإرث القاتل:

تعقيدات التخلص من مخلفات الصراعات المسلحة بالإقليم

11 February 2018


يظل واحد من التحديات التي تواجه استعادة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط مرتبطًا بالتخلص من مخلفات الصراعات المسلحة مثل الجثث والأنقاض أو بقايا الحرب القابلة للانفجار، والتي تشمل قذائف المدفعية والقنابل اليدوية وقذائف الهاون والذخائر الصغيرة والصواريخ والقذائف وغيرها من المعدات التي تشكل خطرًا على الحياة خاصة أنها يمكن أن تنفجر عند لمسها أو تحريكها، لا سيما في ظل غياب خريطة معلوماتية متكاملة بأماكنها.

وثمة مجموعة من التحديات تقف حائلاً أمام مواجهة محاولات التخلص من مخلفات الصراعات المسلحة بالإقليم، تتمثل في استمرار اشتعال الصراعات المسلحة وتعدد البؤر المستهدفة والاستيلاء على الأسلحة غير المتفجرة من قبل الجيوش الموازية وغياب توافر آليات لوجستية لمواجهة تلك المخاطر وعدم رغبة السلطات المحلية في انتشال المخلفات وضعف الوعى المجتمعي بمخاطر المفخخات وتقاعس الدول الكبرى عن مساعدة الدول التي توجد بها الألغام. 

ويقصد بمفهوم الحرب القابلة للانفجار، وفقًا لأدبيات الأمم المتحدة، وخاصة مركز مكافحة الألغام التابع لها، "مجموعة كبيرة من الأجسام المتفجرة، والأجسام غير المتفجرة، أو المتروكة، التي تُخلِّفها الجماعات المسلحة وتبقى في منطقة معينة بعد انتهاء النزاع". ومن الواضح من التعريف أن هناك نوعين من الذخائر، وهى تلك التي لم تنفجر على النحو المقصود بعد إطلاقها أو قذفها على نحو يسمى بـ"الذخائر غير المتفجرة"، إلى جانب الذخائر الأخرى التي تترك بالقرب من ميادين المعارك ويطلق عليها "الذخائر المتروكة".

مخاطر مركبة:

عبر الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون عن مخاطر هذه النوعية من الأسلحة في خطابه بمناسبة يوم التوعية بمخاطر الألغام في إبريل 2010، حيث قال: "لا تزال الألغام ومخلفات الحرب تتسبب في أضرار كبيرة، فهى تسفر عن إصابات بالغة وتودي بحياة العديد من الأشخاص وتعيق عمليات الإعمار في مناطق النزاع وتدمر البيئة وتحول دون تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية بعد انتهاء النزاع".

وتجدر الإشارة إلى أنه من المتعذر معرفة كمية الذخائر التي لم تنفجر ولا تزال موجودة في بؤر الصراعات بالإقليم. فعلى سبيل المثال، أشارت بعض وسائل الإعلام العربية، في 3 فبراير الجاري، إلى أنه تم رفع 200 طن متفجرات من مخلفات الحرب القابلة للانفجار في ليبيا بواسطة إدارة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في المرحلة الأولى من عملها. ولا شك أن هذه المخلفات تعرض حياة الليبيين، وبصفة خاصة قاطني مصراتة، للخطر.

وقد ساهمت الدنمارك وكوريا الجنوبية في بناء قدرات 20 ليبيًا على التعامل الآمن مع هذه المخلفات، وأشارت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا إلى أن العملية تمت بناءً على طلب المركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحروب. وتهدف المرحلة الثانية من المبادرة إلى التخلص من ما لا يقل عن 200 طن من مخلفات الحرب القابلة للانفجار، بدعم من فرنسا.

إن هناك حزمة من العوامل التي تعرقل التخلص من مخلفات الصراعات أو آثار الحروب المسلحة في الإقليم، يمكن تناولها على النحو التالي:

نقاط الاشتعال:

1- تواصل الصراعات المسلحة: لا توجد مؤشرات محددة للتوصل إلى تسويات في كثير من بؤر الصراعات. فعلى الرغم من مرور 7 سنوات على الصراعات المسلحة في سوريا واليمن وليبيا، لم يصل أطراف تلك الصراعات إلى ما يمكن تسميته بـ"مرحلة إنضاج الصراع" والتي تدفعهم إلى التوافق على تهدئة تقود إلى تسوية دائمة أو حل مستدام وليس مجرد تسوية هشة لا تصمد إلا لفترات زمنية محددة سرعان ما يتم اختراقها مع استئناف المواجهات الميدانية.

وتعد الحالة الليبية مثالاً في هذا الإطار، لدرجة أن ماكس ديك مدير برنامج ليبيا في إدارة العمل على مكافحة الألغام التابعة للأمم المتحدة قال، في بيان في 3 أغسطس 2012: "إن الأسلحة ما تزال تمثل تهديدًا خطيرًا لأؤلئك الذين يحاولون إعادة بناء ليبيا بعد أن دمرتها الحرب. فحركة الإعمار بطيئة في المنازل والمنشآت العامة الضرورية نظرًا لاستحالة استئناف العمل دون تطهير المناطق تمامًا من الألغام أولاً"، وأضاف: "لا يمكن أن يحدث شئ يتعلق بإعادة التأهيل وإعادة البناء قبل أن تتم إزالة الألغام".

ساحات متعددة:

2- تعدد البؤر المستهدفة: تتسم بؤر الصراعات المسلحة في الإقليم بكثرة المناطق والمدن التي تتواجد بها الألغام والقذائف غير المتفجرة تحت باطن الأرض، سواء نتيجة موجة الصراعات الراهنة أو بقايا الحروب الإقليمية السابقة أو إرث الحرب العالمية الثانية. كما أن عملية التطهير تستغرق وقتًا طويلاً نسبيًا. فثمة عدم معرفة لدى البلديات في العراق، وبصفة خاصة الموصل، بشأن عدد الجثث سواء للمدنيين أو العسكريين من تنظيم "داعش".

ولعل ذلك يضعف من رغبة السكان النازحين في العودة إلى مقار إقامتهم مرة أخرى. وطبقًا لبيان صادر عن الحكومة العراقية مؤخرًا فإن "الحرب ضد داعش تسببت بنزوح ما يصل إلى 5,5 مليون عراقي من إجمالي نحو 37 مليون، عاد نصفهم إلى مناطقهم المحررة من التنظيم لكن البقية يواجهون المصاعب للعودة نتيجة تدمير دورهم السكنية وعدم توفر الخدمات الأساسية فضلاً عن مخلفات الحرب التي تملأ الأرجاء".

كما سبق أن أعلنت منظمة أطباء بلا حدود أن "الخراب الذي لحق بالموصل شامل وكبير ويشبه دمار ما بعد الحرب العالمية الثانية"، واعتبرت الأمم المتحدة 15 حيًا من أحياء المدينة "شديدة التضرر" ما يعني أنها غير قابلة للسكن، في حين وصفت 23 حيًا بـ"متوسطة الضرر" أى أن نصف المباني فيها قد دمر، و16 حيًا بـ"بسيطة الضرر"، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع تكلفة إعادة الأعمار مع طول المدة الزمنية.

سوق سوداء:

3- الاستيلاء على الأسلحة غير المتفجرة من قبل الجيوش الموازية: سواء كانت تنظيمات إرهابية أو ميلشيات مسلحة. ويمثل سوء تخزين الأسلحة والذخائر في المستودعات المعروفة وعدم تأمينها مشكلة أمنية مع احتمال استخدامها في زعزعة الاستقرار في دول الجوار الجغرافي، من قبل هذه الميلشيات وتلك التنظيمات.

وفي هذا السياق، حذر خبراء إدارة العمل على مكافحة الألغام التابعة للأمم المتحدة، في السنوات السبع الماضية، من أن الكثير من الأسلحة قد ينتهي بها الأمر في أيدٍ خاطئة لا سيما مع عدم تأمين حدود ليبيا بشكل كافٍ، الأمر الذي يمثل تهديدًا لدول أخرى.

لوجستيات محدودة:

4- عدم توافر آليات المواجهة لتلك المخاطر: لا تملك المجتمعات المحلية، في الغالب، القدرة التقنية أو الموارد اللازمة، سواء كانت مساعدات أمنية أو أجهزة متخصصة، لإزالة مخلفات الحرب القابلة للانفجار بصورة آمنة. وعلى الرغم من وجود بعض المساعدات المالية الغربية، إلا أنها ليست كافية للحد من تلك المخاطر. فالمسألة ليست مجرد أموال، لا سيما بعد سيطرة تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من الأراضي داخل العراق وسوريا تحديدًا منذ عام 2014.

وفي هذا السياق، أعلن السفير الأمريكي لدى العراق دوغلاس سيليمان، في 5 ديسمبر 2017، أن بلاده تعمل على تأمين منحة دولية للعراق بقيمة 115 مليون دولار، لتمويل عملية إعادة إعمار المناطق المحررة، وستخصص لرفع المخلفات الحربية من المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم "داعش"، مع الوضع في الاعتبار أن بعض العناصر الهاربة التي تنتمي للتنظيم متواجدة في المناطق الجبلية النائية في شمال غرب البلاد.

ويمكن لمؤتمر إعادة الإعمار في العراق الذي سوف تستضيفه الكويت خلال الأيام القليلة المقبلة أن يحد من التهديدات التي يمثلها التنظيم على طول الحدود الرخوة التي تشترك فيها العراق مع بعض الدول الأخرى، لأن الإرهاب ينتعش في ظل فراغ مؤسسات الدولة الأمنية والتنموية.

جثث المقاتلين: 

5- انعدام رغبة السلطات المحلية في انتشال المخلفات: وهو ما يفسر رفض رفع جثث مقاتلي تنظيم "داعش" في الموصل بالعراق. إذ لا يزال أحد التحديات التي تواجه السكان العائدين إلى الحى القديم في الموصل يتعلق بانتشار هذه الجثث والأنقاض بعد المعارك التي خاضها الجيش والشرطة بالتعاون مع قوات التحالف الدولي في مواجهة كوادر وقيادات "داعش"، لا سيما في ظل غياب الدافع لدى البلدية لدفن هذه الجثث، وهو ما يعود، وفقًا لاتجاهات عديدة، إلى الجرائم التي ارتكبوها بحق الدولة والمجتمع في العراق.

وهنا تجدر الإشارة إلى تصريح العميد محمد محمود رئيس قوات الدفاع المدني في الموصل، في 6 فبراير الجاري، والتي قال فيها: "لا توجد جثث أخرى لمدنيين لانتشالها في الموصل"، على اعتبار أن الدفاع المدني التابع لوزارة الداخلية هو المكلف برفع الجثث وإصدار شهادات الوفاة، إلا أن هذا الجهاز لا يريد إهدار موارده على دفن جثث الإرهابيين، طبقًا لتصريحات مختلفة صدرت في بعض الصحف العراقية، على نحو يفسر بقاء الجثث المتروكة في بعض الشوارع، بل تم العثور على جثث في حجرات النوم في الطوابق السفلية بالمنازل حسب ما كشفت بعض التقارير.

وعى غائب:

6- ضعف الوعى المجتمعي بمخاطر المفخخات: يتعامل بعض الأفراد مع تلك المواد المتفجرة على أنها "ذكريات"، على شاكلة الحرب التي شهدتها ليبيا بعد سقوط نظام الرئيس معمر القذافي، وخاصة الأطنان من الذخائر التي أُسقطت أثناء حملة قصف الناتو، والتي تم جمعها ونشرها في الشوارع أو المستشفيات أو المنازل، على نحو يؤدي إلى حوادث مأساوية عادة ما يكون الأطفال بين ضحاياها، إذ يمكن أن تنفجر الذخائر بشكل غير متوقع وبأخف لمسة لها.

تخاذل دولي:

7- تقاعس القوى الدولية عن مساعدة الدول التي توجد بها الألغام: وهو ما تعكسه مخلفات الحرب العالمية الثانية سواء في ليبيا أو مصر. فعلى سبيل المثال، تطالب الدولتان، منذ أكثر من أربعة عقود، كلاً من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا بتسليمها الخرائط المتعلقة بحقول الألغام التي زرعت في أراضيها خلال تلك الحرب ومساعدتها في إزالة هذه الألغام.

أمراض الحروب: 

يساهم بطء التخلص من مخلفات الحرب ببعض دول الإقليم في تراجع إعادة الإعمار والإضرار بالصحة العامة للإنسان، على نحو يبدو جليًا في ارتفاع معدلات الإصابة بالأورام الخبيثة في العراق، خلال السنوات القليلة الماضية، نتيجة تسمم الماء والهواء والتربة الناجم عن الانبعاثات والإسراف في استخدام الأسمدة، فضلاً عن مخلفات الحرب، ووجود بعض أنواع الذخائر والأسلحة التي استخدمت خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.

وقد تزايدت معدلات الإصابة بمرض السرطان وخاصة في محافظات الجنوب، لا سيما في ظل تنامي مخلفات الحروب المتواصلة منذ ثمانينات القرن الماضي. وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية سيف بدران، في 27 أكتوبر 2017: "المعدل السنوي للإصابة بمرض السرطان في العراق يبلغ 2900 حالة إصابة، بينها 20 بالمئة إصابات بسرطان الثدى".

ووفقًا لما تشير إليه تقديرات صادرة عن وزارة الصحة العراقية، فإن أكثر من 25 ألف إصابة بالسرطان مسجلة في العراق حتى الثلث الثاني من عام 2017، تعود إلى مخلفات الحروب التي شهدتها البلاد في العقود الأربعة الماضية، مع الأخذ في الاعتبار أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بخفض نسبة التلوث البيئي في المدن، لا سيما في ظل ضعف العناية بالمراكز الصحية الحكومية لعلاج الأمراض السرطانية ومحدودية المخصصات المالية بما لا يجعلها قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة للمرضى.

آثار مُهلكة:

خلاصة القول، سيظل التخلص من مخلفات الصراعات المسلحة بالإقليم، سواء كانت جثثًا أو أنقاضًا أو أسلحة غير متفجرة، ملفًا ضاغطًا على أمن واستقرار بعض الدول، لا سيما في ظل تعقيدات متعددة تتعلق بإعادة إعمار المناطق المحررة من سيطرة التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة بعد تمشيطها وتنظيفها من مخلفات الحرب، وتفكيك الألغام الأرضية التي تمت زراعتها، إلى جانب ضعف الوعى المجتمعي بمخاطر تلك المخلفات، وخاصة من قبل الأطفال، حيث يظن قطاع واسع من الرأى العام في بعض البؤر المسلحة، وفقًا لاتجاهات عديدة، أن مخلفات الحرب القابلة للانفجار لا تؤذي، في حين أنها قاتلة بمجرد لمسها أو تحريكها. 

الأكثر من ذلك، أن هناك آلاف من قطع العتاد العسكري من مخلفات الحروب السابقة، التي يعاد إصلاحها واستخدامها، على نحو ما فعلته ميلشيا "الحشد الشعبي" في مستودع الحارثة بالبصرة لمواجهة مقاتلي وكوادر تنظيم "داعش". فضلا ًعن ذلك، هناك ضعف واضح في المساهمات المالية المقدمة من الدول الغربية الكبرى والمنظمات الدولية المعنية بالتخلص من تلك الآفة.

وبعبارة أخرى، تطيل مخلفات الحرب القابلة للانفجار من أمد الآثار المُهلكة للحرب، خاصة في ظل غياب المؤشرات التي تعزز من احتمالات الوصول إلى تسويات سياسية لبعض الصراعات.