"عقدة الدوحة":

لماذا لم تلتزم قطر بالاتفاقات الخليجية؟

12 July 2017


على الرغم من أن مضمون الوثائق التي حصلت عليها شبكة "سي إن إن" الإخبارية لاتفاقات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مع قطر في عامي 2013 و2014، كان معروفًا، وتمت الإشارة إلى كثير من بنوده طيلة السنوات الماضية؛ فإن إتاحة النصوص التفصيلية للجميع كشفت عن مدى الوضوح الذي صيغت به مطالب الدول الخليجية من قطر، وأنها بقيت على حالها دون تغيير حتى اللحظة، وأن قطر نقضت تعهداتها كاملة. وإضافة إلى شق الالتزام القانوني الذي تنطوي عليه الاتفاقات؛ فهناك الشق المعنوي المتمثل في احترام توقيع قادة دول الخليج عليها وضمانهم لها، في محيط سياسي وثقافي واجتماعي يقيم وزنًا كبيرًا للمصداقية الشخصية، واحترام الكلمة والوفاء بالوعود. ويثير ما سبق تساؤلات أبعد حول دوافع السلوك القطري التي تقود خيارات قطر وخطواتها ومواقفها السياسية.

مناورات كسب الوقت:

تُظهر نصوص الوثائق التي نشرتها "سي إن إن" لاتفاق الرياض عام 2013 وآليته التنفيذية واتفاق الرياض التكميلي عام 2014 بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الخمسة من جانب، ودولة قطر من جانب آخر؛ أن قطر تلقت المطالب ذاتها التي تم طرحها الشهر الماضي من دول المقاطعة العربية، وأن دول مجلس التعاون جميعها كانت تتقاسم المخاوف ذاتها إزاء قطر. كما تُظهر الوثائق أن الموقف من قطر كان جماعيًّا، والاختلاف في مواقف دول المجلس إزاء بعض المطالب هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع إزاء السياسات القطرية المثيرة للقلق.

ولا يترك السلوك القطري بعد توقيع هذه الاتفاقات مجالاً للشك في أن الدوحة كانت تسعى إلى كسب الوقت والمناورة ليس إلا، وربما اعتبرت أن نقضها لما تعهدت به عام 2013 لم يترتب عليه أي مساءلات، وأن الأمر لم يتجاوز توقيعًا آخر عام 2014 عقب أزمة سحب السفراء، ومن ثمّ فإن الاستمرار في النهج نفسه ممكن في أي جولة قادمة لن تكلفها أكثر من توقيع جديد على تعهد تتملص منه لاحقًا.

ومن المهم هنا الإشارة إلى البند الأخير في الاتفاقية التكميلية التي وُقِّعت عام 2014، ونصه كالتالي: "في حال عدم الالتزام بهذه الآلية، فلبقية دول المجلس اتخاذ ما تراه مناسبًا لحماية أمنها واستقرارها. ويُظهر هذا البند أن قرارات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين في قطع العلاقات مع قطر ليست إلا تفعيلاً لبنود الاتفاق".

ومن الانعكاسات المباشرة لنشر نصوص الاتفاقات ما ظهر من ردود فعل في كثير من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت أكثر تفهمًا وقبولاً لموقف دول المقاطعة العربية، وأكثر إدراكًا لسياق الخطوات الأخيرة، وقد انتقلت أصوات كثيرة من موقع الحياد أو الارتباك أو التشكك إلى موقع تأييد الإجراءات الأخيرة، وإدراك أسانيده القانونية والأخلاقية، على حدٍّ سواء.

سياسات إقليمية عدائية:

لا يحتاج الأمر إلى تدقيق للكشف عن أن الدوحة لم تُغير من سياساتها وسلوكها، وأنها واصلت، وربما بوتيرة أعمق وأسرع، كل ما تعهدت بأنها ستتوقف عنه. وفيما يلي بعض النماذج التي تؤكد ذلك:

1- تمويل التنظيمات الإرهابية: على الرغم من النص صراحة في الوثائق على التزام قطر بعدم تقديم التمويل المادي والدعم المعنوي للتنظيمات التي تهدد أمن واستقرار دول المجلس في اليمن أو سوريا أو غيرها؛ فإن تتبع سلوك قطر منذ توقيع الاتفاقية عام 2013، يُظهر قيامها بعكس ذلك. فعلى سبيل المثال، موّلت قطر في سوريا تنظيم "أحرار الشام".

كما أن هناك العديد من الأدلة على وجود دعم قطري مباشر لـ"جبهة النصرة"، وقد عقد مسئولون في الاستخبارات القطرية لقاءات عدة مع قادة الجبهة، لـ"غسل سمعتهم" وإعادة تأهيلهم من خلال إقناعهم بإعلان انفصالهم عن تنظيم "القاعدة"، مقابل الحصول على الدعم المادي والسلاح. ويبدو أن التنظيم استجاب لذلك في مناورة منه للبقاء، وهو ما انعكس في تغيير التنظيم اسمه إلى "جبهة فتح الشام"، وإعلان النأي بنفسه عن "القاعدة".

كذلك لجأت قطر إلى تمويل التنظيمات الإرهابية من خلال "دفع الفدية". وفي هذا الإطار، كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" أن قطر دفعت نحو مليار دولار، منها 400 مليون دولار لصالح إيران بهدف تحرير 26 فردًا من العائلة الحاكمة القطرية الذين تم اختطافهم في جنوب العراق بينما كانوا في رحلة صيد. وأضافت الصحيفة أن قطر دفعت المال في هذه الصفقة التي تمت في إبريل الماضي، للقوتين الأكثر إدراجًا في القائمة السوداء في الشرق الأوسط، وهما: ذراع تنظيم "القاعدة" التي تقاتل الآن في سوريا، والمسئولون الأمنيون الإيرانيون.

وهناك تساؤلات جدية طرحتها تحليلات مختلفة حول حقيقة هذه الواقعة، وحول صحة تعرُّض الأسرة للاختطاف بالفعل. ومن المشروع طرح أسئلة من قبيل: كيف يذهب أفراد من العائلة الحاكمة القطرية إلى العراق في ظل أوضاعه المعروفة؟ وهذه التساؤلات وغيرها تقود إلى احتمال أن تكون العملية برمّتها محاولة لتمرير الأموال إلى جماعات إرهابية وجهات إيرانية.

كما كشفت إحدى الوثائق الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، والتي تم تسريبها على موقع "ويكيليكس"، أن "القاعدة" و"طالبان" وغيرهما من التنظيمات الإرهابية، تستخدم قنوات معينة في قطر للحصول على التمويل، وأنه على الرغم من امتلاك الحكومة القطرية القدرات اللازمة لوقف هذا التمويل، فإنها لم تفعل.

ويوثِّق عددٌ من التقارير الدولية الممارسات القطرية في دعم وتمويل الإرهاب، ومنها تقرير مركز "استوكهولم" لأبحاث السلام، الذي أشار إلى تصدير قطر نحو 2.6 مليون قطعة سلاح لمناطق الصراع بتكلفة 100 مليار دولار أمريكي، وأكدت دراسة لمؤسسة دعم الديمقراطية تحويل قطر نحو 1.5 مليون دولار لمسلحي تنظيم "القاعدة" في العراق، و375 ألفًا لفرع التنظيم بسوريا.

2- دعم الإخوان المسلمين: نصّت مواد الاتفاقات بوضوح على عدم دعم قطر للإخوان المسلمين ماديًّا وإعلاميًّا، سواء داخل المجلس أو خارجه. لكن قطر فعلت العكس تمامًا. فثمة علاقة وطيدة بين قطر وجماعة الإخوان المسلمين منذ سنوات، وحتى قبل اندلاع ما يُسمى "ثورات الربيع العربي"، فقد كان أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة مقربًا من يوسف القرضاوي، القيادي الإخواني الذي احتضنته قطر منذ عام 1961، وفتحت له أبواب قناة "الجزيرة" هو وغيره من الشخصيات الإخوانية للتعبير من خلالها عن آرائهم.

وأتاحت قطر الحماية لكثير من أعضاء الجماعة بعد ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، وعزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، واستضافتهم في الدوحة، ووفرت لهم منابر إعلامية لشن هجوم على السلطات المصرية.

وفي إطار الأزمة الراهنة، واصل وزير الخارجية القطري محمد عبدالرحمن آل ثاني، دفاع بلاده عن جماعة الإخوان المسلمين، مصرحًا، يوم 6 يوليو الجاري، بأن "الإخوان المسلمين ليسوا إرهابيين بدولتنا".

3- تهديدات الإعلام القطري: نصّت مواد الاتفاقية على الالتزام بعدم تناول القنوات الإعلامية المملوكة للدولة أو المدعومة بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل أي دولة لمواضيع تسيئ إلى أي دولة من دول المجلس.

لكن الثابت أن قطر استعانت بشبكة قنوات "الجزيرة" وبعض المواقع الإخبارية الأخرى التي تمولها (مثل: عربي 21، وشبكة رصد، وموقع العربي الجديد، وموقع الخليج الجديد، وهافنجتون بوست عربي.. وغيرها) في الترويج لسياسات تهدد مصالح وأمن دول الخليج وغيرها من بلدان المنطقة، وهو ما كان سببًا رئيسيًّا في الأزمة القطرية - الخليجية الراهنة.

وحرصت قنوات "الجزيرة" وتلك المنصات الإعلامية، على مدار السنوات الأخيرة، على إفساح المجال للأفكار والقيادات الإرهابية للظهور، وتقديمهم للرأي العام العربي، فضلاً عن نشر الأخبار والتقارير المغلوطة عن الأحداث التي تشهدها عدد من الدول العربية ودول الخليج. وبالتالي حولت الدوحة هذه المؤسسات الإعلامية إلى أدوات للتحريض، ودعم الفوضى والتخريب، وخرق الصف الخليجي، والإساءة لقادة الدول.

ملامح "عقدة قطر":

يطرح سلوك قطر وممارساتها تساؤلاً حول الأسباب والدوافع التي تجعلها تتبنى سياسة عدائية ضد دول الخليج، وذهب محللون إلى تفسير السلوكيات القطرية وسياساتها الخارجية من منطلق عدد من "العقد" التي تتغلغل في الذهنية القطرية، سواء ما يتعلق بعقدة الحجم الصغير، أو الهاجس من دول الجوار الكبيرة، أو عقدة "الانقلاب الأبيض".

فالموقف العدائي المتجذر في عقلية أمير قطر السابق حمد بن خليفة، وكذلك الأمير الحالي تميم، يعود إلى عدم الارتياح الذي قابل به عدد من دول مجلس التعاون انقلاب الشيخ حمد على والده الشيخ خليفة، وهو ما سماه بعض المحللين "عقدة الانقلاب الأبيض". ولم يكن انقلاب أمير قطر على الأب فقط، بل كان انقلابًا على سياسات قطر التي دعمت -إلى حدٍّ كبير- وحدة الصف الخليجي. ومنذ ذلك التاريخ دأبت قطر على القيام بممارسات تهدد أمن دول الخليج والدول العربية.

من جانب آخر، ظلت عقدة الحجم مقارنة بباقي دول الجوار الجغرافي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تسيطر على السلوك القطري، ووفرت الموارد الضخمة لقطر، التي تستمدها من احتياطياتها الضخمة من الغاز الطبيعي، أداة للتغلب على أزمة الحجم الجغرافي الصغير، وبدأت تبنِّي أدوار خارجية لا تتماشى مع حجمها، وهو ما يفسر محاولة قطر المستمرة لعب دور دولي من خلال التوسط في أكثر من قضية وملف، ومنها المصالحة بين الفصائل الفلسطينية (فتح وحماس)، والمفاوضات بين الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين في الفترة من 2003 إلى 2009، والتوسط في السودان.

ويُمكن القول، إن هذه العقد ظهرت مجتمعة وقت انعقاد قمم الرياض؛ حيث ظهر غضب قطري غير معلن من النجاح الذي حققته بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقادة 50 دولة عربية وإسلامية، والاتفاق على تنسيق المواقف لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وتعهد الولايات المتحدة بالوقوف بجانب دول الخليج ضد تهديدات إيران. وعَكَس رفض الدوحة الضمني لنتائج قمة الرياض، نوايا قطر الخاصة بمنافسة السعودية على مكانتها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط، والتناقض الواضح في رؤى الدولتين إزاء كثير من قضايا المنطقة، وهو ما كانت الدوحة تسعى دائمًا لإخفائه.

وأخيرًا، فإن سلوك الدوحة قد وصل على ما يبدو إلى النقطة التي يصعب معها ابتلاعه أو تمريره كما حدث من قبل، وأن اعتبارات الحفاظ على الوحدة الخليجية وعدم التصعيد والعمل الهادئ لحلحلة الخلافات قد تراجعت لصالح اعتبارات أخرى تتمثل في: إيقاف التهديدات، والتصدي لإذكاء الفوضى وعدم الاستقرار خليجيًّا وعربيًّا، وردع محاولات شق الصف والتحالف مع قوى إقليمية تسعى لتنفيذ مشروعاتها في المنطقة، وتبدو دول المقاطعة مستعدة للمضي في المسار الذي بدأته في مطلع يونيو 2017، ولمزيد من الخطوات التصعيدية إذا لم يطرأ تغيير حقيقي وملموس على السلوك القطري، من خلال خطوات عملية وضوابط واضحة وآليات للتحقق من التزام الدوحة مستقبلاً بما تعهدت به من قبل.