من الديمقراطية إلى بوليوود:

الدرس الهندي في بناء القوة الناعمة في العالم

15 June 2017


عرض: ميرال حسين عبد الغني، باحثة في العلوم السياسية 

أدى تصاعد الاعتماد على مصادر القوة الناعمة في العلاقات الدولية إلى تركيز عدد كبير من دول العالم على إعادة اكتشاف التاريخ والثقافة المحلية والخصائص القومية الفريدة لتعزيز مقومات القوة الناعمة لديها، وصناعة نموذج ذي جاذبية للدولة يمكن الترويج له عالميًّا.

وفي هذا الإطار نشرت مجلة "Palgrave Communications" دراسة بعنوان "من قوة كامنة إلى قوة ناعمة قوية.. تطور الدبلوماسية الثقافية الهندية"، وقام بإعداد هذه الدراسة "ديبيداتا أوروبيندا ماهاباترا" الباحث بمركز السلام والديمقراطية والتنمية التابع لجامعة ماساتشوستس الأمريكية. وتسعى هذه الدراسة لرصد خصائص القوة الناعمة الهندية، وكيف يتم استخدامها كإحدى أدوات السياسة الخارجية الهندية.

الهند.. من الإقليمية إلى العالمية: 

قامت الهند منذ مطلع الأربعينيات بتأسيس العديد من المراكز الثقافية العابرة للحدود، مثل: المجلس الهندي للعلاقات الثقافية (ICCR) والمجلس الهندي للشئون العالمية (ICWA). وقد تم تأسيس الأول في عام 1950 لتقوية العلاقات الثقافية بين الهند والدول الأخرى، ويقدر عدد فروعه في الوقت الحالي بحوالي 35 مركزًا في دول مختلفة من العالم، ويخطط المجلس لإنشاء المزيد في الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والكويت.

فيما تأسس المجلس الهندي للشئون العالمية في عام 1943 بهدف تقوية العلاقات بين الهند والدول الأخرى عن طريق التبادل الطلابي، والأنشطة والمحاضرات المشتركة، وتبادل الأفكار. وقد تم تصنيفه على أنه من أكبر المنظمات الأكاديمية العالمية، وذلك في عام 2015 من قبل الأمم المتحدة. وتمتلك هذه المنظمة في الوقت الحالي حوالي 38 شراكة مع منظمات أكاديمية من دول مختلفة في العالم.

ومما سبق يتضح أنه كان هناك إدراك من كافة القادة الهنود منذ تأسيس دولة الهند الحديثة لدور القوى الناعمة في تعزيز العلاقات مع الدول؛ إلا أنها لم تحظَ بهذا القدر من التأثير إلا في بداية التسعينيات مع العولمة وانتشار أدوات التكنولوجيا الحديثة، واتجاه الهند إلى تبني سياسة تهدف إلى تعزيز العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا، وعقد معاهدات اقتصادية وتجارية معها، إلا أنها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف بشكل كامل، وهو ما دفعها للتفكير في توظيف قوتها الناعمة للتأثير على الدول المجاورة.

وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشار أكبر للثقافة الهندية؛ فتم إنشاء صفحة لوزارة الخارجية الهندية على الفيسبوك، وقناة على اليوتيوب، بالإضافة إلى إنشاء صفحة على تويتر في عام 2010.

كما يمتلك رئيس الوزراء الهندي "ناريندا مودي" صفحة على تويتر يقدر عدد متابعيها بحوالي 21,6 مليون متابع، وقُدر عدد التغريدات التي كتبها منذ عام 2009 بحوالي 12 ألف تغريدة، ووصل عدد متابعي وزيرة الخارجية الهندية "سوشما سوراج" على تويتر إلى حوالي 5,47 ملايين متابع.

وترى الدراسة أن الهند استطاعت مع الوقت بلورة ملامح واضحة لقوتها الناعمة، تتمثل في: التواصل مع الجاليات الهندية في الخارج، والعمل على المشاركة في برامج التنمية مع مؤسسات ودول أجنبية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة للتواصل مع الأجيال الجديدة ومواطنيها المقيمين خارج الدولة، ويساهم كل هذا في خلق ما يعرف بالعلامة المميزة للدولة (Nation Brand).

ركائز النموذج الهندي:

تشير الدراسة إلى أن حالة التعددية الدينية السائدة في الهند تُعد أحد أهم مصادر قوتها الناعمة، فتعايش جميع هذه الأديان معًا في حالة من السلام جعلها تتحول إلى نموذج جذاب في ظل صعود الصراعات الدينية في العديد من أنحاء العالم، يضاف إلى هذا قدرة الهند على إضفاء هويتها في كافة المجالات التي تقوم بالدخول فيها، وهو ما يمكن إيضاحه فيما يلي:

1- النموذج الديمقراطي: استطاعت الهند أن تؤكد أنها دولة ديمقراطية على الرغم من أن الدول المحيطة بها قد شهدت العديد من الصراعات حول السلطة، فعلى الرغم من أنها تعاني من ارتفاع نسب الفقر بالإضافة إلى العديد من المشكلات الاقتصادية، إلا أنها تحظى بانتخابات دورية سلمية يتم من خلالها تداول السلطة.

وقد حظيت انتخابات 2014 بنسبة مشاركة عالية، وهو ما دفع صحيفة "واشنطن بوست" إلى القول: "إن عام 2014 قد أصبح أعظم الأعوام في تاريخ الديمقراطية بفضل الهند".

2- رياضة اليوجا: تعود أصول هذه الرياضة إلى الهند، وقد ساهمت في نقل الثقافة الهندية إلى العديد من دول العالم، وأدي انتشار هذه الرياضة إلى بناء صورة إيجابية عن الهند، خاصة وأن فلسفتها تقوم على التأمل والزهد والتحرر من الارتباط بالماديات، وهو ما يؤدي إلى رفع قدرة الإنسان على التفكير بحرية ودون قيود.

وقد قامت الأمم المتحدة بجعل يوم 21 يونيو من كل عام "اليوم العالمي لليوجا"، لا سيما وأن عدد من يمارسون هذه الرياضة قد وصل إلى حوالي 125 مليون شخص في العالم.

كما استضافت دبي في عام 2016 معلم اليوجا الهندي الشهير "بابا رامديف" في فعالية كبيرة شارك فيها ما يُقدر بحوالي 100 ألف شخص، وهو ما جعلها تسجل ضمن مؤسسة "جينيس" للأرقام القياسية. 

كذلك تم توظيف اليوجا كوسيلة لحل الصراعات، فقد قام معلم اليوجا الهندي الشهير "سري سري رافي شانكار" بالسفر إلى دول الصراعات، مثل: العراق، وكوت ديفوار، والكاميرون، وسريلانكا، للدعوة إلى مبادئ اليوجا من سلام، وزهد، وتأمل، والدعوة إلى الحوار البناء، والانفتاح على أفكار الآخرين.

3- الطب الهندي: ونتيجة لانتشار اليوجا تمكن الطب الهندي"الأيورفيدا" أو الذي يعرف بعلم الحياة، من أن يقتحم دول العالم المتقدم تدريجيًّا بفضل علاقته الوثيقة برياضة اليوجا. ويُعتبر هذا النوع من العلاج نوعًا من أنواع الطب البديل، ويعتمد بشكل رئيسي على النباتات الطبيعية.

 وتستغرق دراسة هذا المجال في الهند حوالي خمس سنوات. وعلى الرغم من التشكيك في فعاليته من قبل البعض؛ إلا أن عدد المراكز العلاجية التي تتبع نظام الأيورفيدا قد وصل إلى حوالي 2000 مركز في العالم، منها 100 مركز في الولايات المتحدة، الأمر الذي يدل على تطور أدوات القوة الناعمة الهندية، ووصولها إلى كافة دول العالم، بما فيها تلك الدول المتقدمة.

4- صناعة السينما: انتشرت السينما الهندية (بوليوود) في العديد من دول العالم، خاصة دول الشرق الأوسط، ويشير الكتاب إلى عدة أمثلة على انتشار الأفلام الهندية بشكل كبير على الرغم من ميزانيتها المحدودة في بعض الأحيان. ففي سوريا كان يتم رفع صور النجم الهندي الشهير "أميتاب باتشان" في الميادين العامة بنفس حجم صور الرئيس حافظ الأسد.

5- المطبخ الهندي: استطاعت الأكلات الهندية أن تحظى بانتشار واسع النطاق في العديد من دول العالم، ويوجد في الوقت الحالي العديد من البرامج التليفزيونية المتخصصة في تقديم طرق إعداد الطعام الهندي. 

وقد أشار تقرير صادر في عام 2003 إلى أن عدد المطاعم الهندية في المملكة المتحدة وحدها قد وصل إلى حوالي 9000 مطعم هندي يعمل بها ما يقارب من 70 ألف موظف، برأس مال بلغ في ذلك الوقت 3,2 مليارات يورو، ويرتاد هذه المطاعم ما يعادل 2,5 مليون شخص أسبوعيًّا.

دبلوماسية الثقافة والتنمية: 

حرص "ناريندا مودي" مع توليه منصب رئيس الوزراء في عام 2014 على توظيف أدوات القوة الناعمة الهندية بطريقة مختلفة عن سابقيه؛ حيث حرص على التواصل مع الجاليات الهندية من خلال زياراته الخارجية.

واستضاف العديد من قادة الدول لحضور المناسبات الهندية الشعبية والدينية. فمثلا قام في ديسمبر 2015 بدعوة رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" لحضور احتفالات دينية هندوسية، كما أشار أكثر من مرة إلى الثقافة والتقاليد الهندية في خطاباته.

وفي سبتمبر 2014، قام بإطلاق مبادرة "صنع في الهند" لنشر المنتجات الهندية في العالم، وتعزيز ثقة الدول الصديقة في الهند، وقدرتها على التصنيع، وتحقيق نمو اقتصادي، وذلك تحت شعار "صنع في الهند، ليس مجرد شعار، أو علامة تجارية، بل حركة قومية"، وقام بزيارة العديد من الدول لنشر هذه الحملة.

كما تم توظيف المناسبات لتصدير صورة إلى العالم تؤكد احترام التعددية، والاختلاف، وقبول الآخر في الهند، ففي عام 2015 قام "مودي" بالاحتفال بيوم اليوجا العالمي في واحد من أكبر ميادين الهند، وقُدر عدد الذين شاركوا في الاحتفال بما يزيد عن 35 ألف شخص ينتمون إلى 84 جنسية مختلفة.

ويرتبط ذلك بتصاعد تقديم الهند العديد من المساعدات الاقتصادية والدعم التقني للدول الصغيرة؛ فمثلا قام "مودي" خلال زيارته لجمهورية جزر فيجي في نوفمبر 2014 بتقديم منحة مالية قدرها 5 ملايين دولار لدعم القرى الصغيرة والصناعات المتوسطة، وأعلن خلال هذه الزيارة عن إنشاء صندوق للدعم التقني والتدريب لمجموعة من الدول، منها: فيجي، وجزر كوك، وجزر سليمان، وغيرها. ولم يقم فقط بالتواصل مع الدول المجاورة، حيث قام بزيارة مجموعة من الدول الإفريقية في يوليو 2016، هي: موزمبيق، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا، وكينيا، وقدم مساعدات مالية لإعادة إعمار أفغانستان بما يقدر بحوالي 290 مليون دولار لبناء سد الصداقة الهندي الأفغاني.