خسائر ماكرون:

كيف تضررت فرنسا من تخريب القطارات في أولمبياد باريس؟

31 July 2024


في خضم سعي فرنسا لإبراز نفسها كقبلة رياضية للعالم من خلال استضافتها لدورة الألعاب الأولمبية 2024 بمدينة باريس، تعرضت شبكة السكك الحديد الفرنسية لأعمال تخريبية في الساعة الرابعة من صباح يوم الجمعة 26 يوليو 2024، وذلك قبيل ساعات من الافتتاح الرسمي للأولمبياد. وتسببت هذه الأعمال التخريبية في اضطرابات ضخمة في مجمل شبكة السكك الحديد الفرنسية، وشل شبكة القطارات السريعة في البلاد، كما عرّضت الصورة الذهنية للدولة الفرنسية للخطر. فحسب تصريح رئيس الوزراء المؤقت، غابريال أتال، كان الأثر على المسافرين وعلى سمعة فرنسا كبيراً. كذلك أثار حفل افتتاح الأولمبياد غضب واسعاً بين المسيحيين في العالم بسبب "لوحة العشاء الأخير"، مما زاد من مأزق الصورة المتراجعة لفرنسا.

ملامح التخريب:

ثمة عدد من الملاحظات الأولية على التخريب الذي استهدف شبكة السكك الحديد الفرنسية، كالتالي:

1- مناطق العمليات: شملت إضرام عدد من الحرائق المتعمدة في أنابيب كابلات محطة كورتالين على بعد 140 كم غرب باريس، ومحطة كرواسي على بعد 200 كم شمال العاصمة، ومحطة بايتي سور موزيل على بعد 300 كم غرب باريس. فيما تم إحباط محاولة إحراق كابلات محطة فيرجيني على بعد 140 كم جنوب غرب العاصمة، إثر رؤية بعض عمال الصيانة لمجموعة من الأفراد والاشتباه بهم والإبلاغ عنهم؛ مما أدى إلى هروبهم بعيداً. وتدل مناطق الاستهداف وأسلوبه على معرفة منفذي هذه العمليات بمراكز التحكم الرئيسية في شبكة القطارات، وآليات شل حركتها.  

2- توقيت الاستهداف: خطط منفذو الأعمال التخريبية أن يكون توقيت تنفيذها على نحو متزامن في الساعات الأولى لليلة السابقة على افتتاح أولمبياد باريس الذي يشارك فيه 10500 لاعب ولاعبة يمثلون 206 لجان أولمبية وطنية في 32 لعبة أولمبية، ويحضره ما يزيد على مليون شخص؛ وذلك بغرض إحداث أكبر قدر من التأثير والترويع. كما جاء توقيت التنفيذ خلال العطلة الأخيرة من شهر يوليو التي تُعد الأكثر ازدحاماً في باريس؛ بسبب استعداد الفرنسيين للسفر لقضاء إجازتهم الصيفية طوال شهر أغسطس. ولأسابيع قبل الأولمبياد، لم تكن التذاكر من وإلى باريس مُتاحة للشراء يوم الجمعة، كما تم إغلاق عدد من الشوارع والجسور والمناطق الواسعة، والعمل على تشديد الإجراءات الأمنية بها؛ الأمر الذي أثار العديد من الانتقادات في الداخل الفرنسي.

3- إجراءات عاجلة: أدت هذه العمليات التخريبية إلى تكدس آلاف الركاب والمسافرين في محطات القطارات، والذين وصل عددهم إلى حوالي 800 ألف راكب تقريباً. وإزاء ذلك، قامت كل من شركة السكك الحديد الفرنسية (SNCF)، وشركة خدمة القطارات بين بريطانيا وفرنسا "يوروستار"، بتحويل مسارات بعض القطارات إلى الخط التقليدي، وإلغاء عدد كبير من مسار الرحلات المقررة. وأعلنت الشركتان عن إمكانية إلغاء العملاء رحلاتهم، أو تعديل موعدها مجاناً، مع تشجيعهم على تبني الخيار الثاني. كما لجأ الموظفون إلى عدد من الإجراءات الاستثنائية لتسهيل الحركة في محطات السكك الحديد، مثل السماح بصعود عدد من الركاب يفوق عدد الكراسي، وعدم اتباع الإجراءات النمطية الخاصة بالتأكد من حيازة كل منهم لتذكرة. وشملت الإجراءات العاجلة أيضاً إعلان وزير النقل الفرنسي، باتريس فيرجريت، زيادة مستوى اليقظة في جميع خطوط السكك الحديد، وقيام وزيرة الرياضة الفرنسية، إميلي أوديا كاستيرا، بالتأكد من ضمان نقل جميع الوفود إلى مواقع المباريات بصورة آمنة. 

4- تُهم بلا أدلة: في أعقاب حدوث أعمال تخريب البنية التحتية للسكك الحديدية، برز عدد من التُّهم التي لم يذكر أنصارها دلائل واضحة تدعمها. وكان أولها اتهام وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، وكلاء إيران بأنهم المسؤولون عن التخريب، مشيراً إلى أنه سبق وحذر نظيره الفرنسي -استناداً إلى معلومات تحتفظ بها تل أبيب- من تخطيط الإيرانيين لشن هجمات على الوفد الإسرائيلي وجميع المشاركين في الألعاب الأولمبية، إلا أن كاتس لم يوضح ماهية هذه المعلومات. والاتهام الثاني هو الإشارة إلى أن هذه الأعمال التخريبية هي محاولة من موسكو لزعزعة الاستقرار في فرنسا، وجاء ذلك عقب إلقاء الشرطة الفرنسية القبض على طاهٍ روسي يُشتبه بأنه عضو في جهاز الأمن الفدرالي الروسي، واحتجازه بتهمة التخطيط لعملية واسعة النطاق. فيما قال وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، يوم 29 يوليو، إن باريس تميل إلى احتمال أن يكون متطرفون من أقصى اليسار وراء التخريب الذي استهدف شبكة السكك الحديد.

سياقات متوترة:

وقعت تلك الأعمال التخريبية في ظل بيئة سياسية مأزومة على المستويين الداخلي الفرنسي والدولي، ظهرت مؤشراتها فيما يلي:

1- توتر المشهد السياسي الداخلي: جاء هذا على خلفية حل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجمعية الوطنية في 9 يونيو 2024، والدعوة لانتخابات مبكرة أُجريت في 30 يونيو و7 يوليو، والتي استطاع خلالها ائتلاف اليسار الفرنسي المعروف باسم "الجبهة الشعبية الجديدة" (NFP) الحصول على أكثرية المقاعد فيها. وصرح ماكرون، يوم 23 يوليو، بأنه لن يشكل حكومة جديدة إلا بعد انتهاء الأولمبياد بسبب إعطاء الأولوية للحفاظ على الاستقرار، وجاء هذا التصريح بعد أن نجح ائتلاف اليسار –على خلاف توقعات ماكرون– في الاتفاق على ترشيح لوسي كاستيه لرئاسة الوزراء عقب انتهاء الأولمبياد، بالرغم من الانقسامات الداخلية بين بعض مكونات الائتلاف. 

2- تصاعد التأثيرات الاقتصادية في فرنسا: ظهر ذلك في زيادة نسب التضخم خاصةً في أسعار الغذاء والطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع مستوى الدين العام ليصل إلى 110.7% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية الربع الأول من 2024 مقارنةً بـ109.9% في نهاية 2023، حسب بيانات المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية. وتوازى مع ذلك إعلان "بنك فرنسا" عن ارتفاع حالات إفلاس الشركات لتصل إلى 55 ألفاً في عام 2023، وهو مستوى لم تشهده فرنسا منذ 2017. وصاحب ذلك تذمر واسع من إصلاح نظام التقاعد الذي مرره ماكرون على الرغم من الرفض الشعبي الواسع له، ومطالبات بزيادة الحد الأدنى للأجور، وإصلاح نظام مساعدات البطالة.

3- انتقال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الداخل الفرنسي: ظهرت مؤشرات ذلك في اختلاف نظرة كل من ماكرون واليسار الفرنسي إلى الحرب الدائرة في غزة، وتوصيف مسؤولية كل طرف عنها، وتحول هذه الحرب إلى قضية أساسية ضمن الحملات الانتخابية لليمين واليسار المتطرف على حد سواء. وبرز ذلك في الموقف من قرار وزارة الداخلية، في 12 أكتوبر الماضي، بحظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في المدن الفرنسية، والذي أبطله مجلس الدولة ولم يوافق البرلمان عليه، وكذلك في موقف الأحزاب الرئيسية من الدعوة إلى تنظيم مظاهرة كبرى ضد "معاداة السامية" في باريس. وتزامن هذا مع وجود مؤشرات قوية على تزايد ظاهرتي "الإسلاموفوبيا" و"معاداة السامية"، وربما تحولهما إلى مهدد أمني "خطر"، خاصةً بالنظر إلى أن فرنسا تضم الجاليتين المسلمة واليهودية الأكبر في أوروبا. 

4- الجدل حول تسييس المشاركة في الأولمبياد: في الوقت الذي حظرت فيه اللجنة الأولمبية الدولية الرياضيين الروس والبيلاروس من المشاركة في الأولمبياد إثر التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والسماح لمجموعة محدودة منهم بالمشاركة تحت علم محايد وبشروط صارمة، رفض الرئيس ماكرون في 15 إبريل الماضي مطالبات عدد من نواب اليسار للجنة الأولمبية الدولية بأن تُفرض على إسرائيل نفس العقوبات المفروضة على روسيا وبيلاروسيا بسبب اختلاف الوضع في الحالتين، من وجهة نظره. وأكد ماكرون، في 24 يوليو، ترحيب فرنسا بمشاركة الرياضيين الإسرائيليين في الأولمبياد، وضمان التأمين الأمني الكافي لهم مع تمتعهم بحراسة شخصية، وإن أرجع سبب ترحيب بلاده إلى "أن اللجنة الأولمبية قررت ذلك". 

انعكاسات سلبية:

سعت الحكومة الفرنسية إلى التقليل من الأعمال التخريبية التي تعرضت لها شبكة السكك الحديد الفرنسية، وربما تجلى ذلك في تجنب تصنيفها "إرهابية"؛ إذ إن مثل هذا التصنيف كان يستدعي القيام بإعلان خطة "فيجيبيرات بلس" أو "حالة الطوارئ"، والتي تفرض تدابير لمكافحة الإرهاب فور وقوع اعتداء لفترة زمنية محددة إلى أن تتم معالجة الأزمة. وسبق لفرنسا إعلانها أكثر من مرة، منها مثلاً عقب طعن الأستاذ دومينيك برنارد على يد طالب من أصول شيشانية في 13 أكتوبر 2023، والذي تم فيه رفع هذه الحالة إلى مستوى "الهجوم الطارئ" على كامل مساحة البلاد. ويدل على ذلك المسعى، توصيف شركة السكك الحديد الفرنسية لتخريب الشبكة بأنه عبارة عن "أعمال خبيثة متزامنة"، ووصف وزير النقل فيرجريت لها بـ"العمليات الإجرامية المشينة"، وبدء مكتب المدعي العام تحقيقاته في إطار الجريمة المنظمة بدلاً من مكافحة الإرهاب.

وقد تفرض هذه الأعمال التخريبية مجموعة من التداعيات على الداخل الفرنسي، من أبرزها ما يلي:

1- التأثير في صورة فرنسا، وإظهارها في مظهر "الدولة الضعيفة أو العاجزة"، خاصةً في ظل مسعى باريس لإبراز تميزها العالمي من خلال استضافة هذه الدورة الأولمبية التي تنظمها للمرة الثالثة في تاريخها بعد مرور 100 عام على آخر استضافة لها في 1924، ورغبة فرنسا في استثمار هذا الحدث العالمي لإعادة بعث دورها كصانع سلام في العالم خاصةً مع دعوة ماكرون لهدنة أولمبية. 

ويرجع السبب في اهتزاز صورة الدولة الفرنسية بعد هذه الأعمال التخريبية، إلى ضعف الترتيبات الأمنية، والتي أشارت شركة السكك الحديد الفرنسية إلى عدم وضوح إجراءاتها بالرغم من الاستعدادات الطويلة نسبياً لتأمين استقبال الأولمبياد، وتصريح وزير الداخلية جيرالد دارمانين لصحيفة "باريس ماتش" الأسبوعية يوم 23 يوليو بأنه تم التحقيق مع أكثر من مليون شخص، من بينهم رياضيون ومدربون وصحفيون ومتطوعون وحراس أمن وحتى سكان محليون بالقرب من مواقع الأحداث قبل الألعاب الأولمبية، ومنع 4360 منهم من الوصول إلى الألعاب الأولمبية.

كذلك تعرضت شبكة الألياف البصرية في عدد من شركات الاتصالات بست مناطق في شمال فرنسا وشرقها وجنوبها الشرقي وجنوبها الغربي لعمليات تخريب، يوم 29 يوليو، من دون أن تؤثر في الاتصال بالإنترنت في باريس. وجاء ذلك بعد ساعات من إعلان وزير النقل فيرجريت عودة حركة القطارات السريعة في البلاد إلى طبيعتها بعد ثلاثة أيام من أعمال التخريب.

2- التشكيك في استفادة ماكرون من الأولمبياد، فعلى الرغم من تفاؤل ماكرون في خطابه للأمة في ديسمبر 2023 بتنظيم الأولمبياد، معتبراً أن هذا "يحدث مرة فقط كل قرن"، وأن استضافة الألعاب الأولمبية والبارالمبية 2024 ستكون عاملاً للحسم والتجديد؛ فإن الأزمة السياسية الناتجة عن الدعوة لتنظيم الانتخابات التشريعية المبكرة، والخشية من الاضطرابات السياسية والأمنية في البلاد، فضلاً عن بعض المسائل اللوجستية، قد أدت إلى تراجع عدد السائحين الوافدين إلى باريس خلال فترة الأولمبياد على النحو الذي برز في انخفاض حجوزات الطيران والفنادق. والأرجح أن يؤثر ذلك في الاستفادة الاقتصادية المتوقعة من تنظيم الأولمبياد.

3- تزايد الاستقطاب السياسي في فرنسا، فعلى الرغم من أن التحقيقات الأولية لأعمال التخريب ما زالت مستمرة، ولم يتم الإعلان عن نتائجها، فإن تحليل المشهد السياسي الراهن في فرنسا، يشير على الأرجح إلى قيام ماكرون بتحميل اليسار المتطرف المسؤولية عن هذه الأعمال. وتوجد بعض المؤشرات الأولية التي تدعم ذلك الاتجاه؛ أولها بدء مكتب المدعي العام تحقيقاته في إطار الجريمة المنظمة بدلاً من مكافحة الإرهاب؛ الأمر الذي يوحي بمسؤولية مجموعة من الأفراد أو الجماعات أو ربما الناشطين السياسيين عن الحادث، وتوجيه تُهم الإضرار بالممتلكات التي تؤثر في المصالح الأساسية للأمة إليهم. وثانيها، أن هذا النوع من عمليات التخريب هو نمط أثير لدى التيارات اليسارية الفوضوية المتطرفة بصفة عامة، وسبق أن حُوكم ثمانية منها عام 2018 في قضية محاولة مماثلة لتخريب السكك الحديد في فرنسا، إلا أنه تمت تبرئتهم. وثالثها، تصريح وزير الداخلية الفرنسي باحتمالية أن يكون متطرفون من أقصى اليسار وراء علميات التخريب. 

وأياً كانت هوية المتورطين في تنفيذ الأعمال التخريبية في فرنسا، فقد تضررت صورة هذه الدولة، والتي ربما تشهد مزيداً من الاستقطاب السياسي في الفترة المقبلة، قد تظهر أولى بوادره في الجدل السياسي حول تسمية المرشح لمنصب رئيس الوزراء الذي سوف يعمل مع ماكرون حتى نهاية مدته الانتخابية في مايو 2027 أو حتى إجراء انتخابات أخرى جديدة لن تكون إذا حدثت قبل عام.