تحديات جيوسياسية:

هل تتجاوز مخرجات قمة واشنطن الشكوك حول دور "الناتو"؟

19 July 2024


استضافت واشنطن قادة الدول الأعضاء في حلف الناتو وشركاءهم، خلال الفترة من 9 إلى 11 يوليو الجاري، للاحتفال بمرور 75 عاماً على تأسيس التحالف عام 1949. وبينما احتفل الأعضاء بمنجزات الناتو خلال السنوات الماضية، خيَّمت على الأجواء مخاوف حقيقية بشأن مستقبل الحلف وسط بيئة دولية وإقليمية مضطربة، في ظل دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، وصعود اليمين المتطرف في أوروبا، والتوتر السياسي المتزايد في فرنسا وألمانيا، وكذلك المخاوف من احتمالية عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر 2024، وأخيراً الصعود الصيني المطرد وما يحمله من تبعات جيوسياسية على البيئة الأمنية في منطقة الإندوباسيفيك. وفيما تعهد قادة الناتو بالاستجابة لهذه التهديدات، تظل هناك تحديات عديدة تواجه الحلف.

بيئة مضطربة:

تأتي قمة الناتو للاحتفال بمرور 75 عاماً على تأسيسه، وسط أجواء سياسية وبيئة أمنية مضطربة، ربما لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة. ويمكن رصد أهم ملامح هذا السياق في النقاط التالية: 

1- استمرار الحرب الروسية الأوكرانية: دخلت الحرب الأوكرانية عامها الثالث، وسط مواصلة الدعم الغربي لكييف. وتظل مسألة هذا الدعم مثيرة للجدل سواء داخل الولايات المتحدة أم أوروبا، وأبرز دليل على ذلك تأخر الكونغرس في الموافقة على تمرير حزمة المساعدات الأمريكية الأخيرة وتجميدها لعدة أشهر، ما أظهر أن الدعم الأمريكي أصبح أكثر عُرضة للخلافات الحزبية من أي وقت مضى، خاصةً في ظل انتقادات بعض أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لافتقار إدارة الرئيس جو بايدن لاستراتيجية واضحة تجاه أزمة أوكرانيا. أما بالنسبة لدول أوروبا، فإن استمرار الدعم لكييف يؤثر في حجم مخزون الأسلحة والنظم الدفاعية التي تمتلكها، علاوة على الضغوط الاقتصادية، وسط تصاعد الأصوات الداخلية المطالبة بترشيد هذا الدعم والاتجاه للحل السياسي للأزمة. 

2- صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية: جاءت قمة الناتو في واشنطن في أعقاب النجاح الكبير لأحزاب اليمين المتطرف على مستوى الانتخابات الأوروبية؛ إذ صوَّت الأوروبيون لصالح الأحزاب اليمينية الشعبوية في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى. ومن المُحتمل أن يؤثر هذا الاتجاه في تكوين وعمل المجلس الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي، وهي الهيئات التي يجتمع فيها رؤساء حكومات الدول الأعضاء والوزراء الوطنيون؛ إذ يضعون أجندة السياسات الأوروبية ويعتمدون التشريعات الاتحادية. ومع تزايد عدد الأحزاب المشككة في الاتحاد الأوروبي، ربما تعمل هذه الأحزاب على تكثيف محاولاتها لإضعاف سياسة الاتحاد وسلطاته لصالح العمليات الوطنية.

3- الأزمات السياسية في فرنسا وألمانيا: كنتيجة مباشرة للنقطة السابقة، تعيش أكبر قوتين حاليتين بالاتحاد الأوروبي في حالة من الاضطراب السياسي الداخلي. ففي فرنسا، دعا الرئيس ماكرون إلى حل البرلمان (الجمعية الوطنية)، وأُجريت انتخابات تشريعية مُبكرة، بعد الهزيمة التي مُني بها حزبه في الانتخابات الأوروبية. وعلى الرغم من أن نتيجة هذه الانتخابات الوطنية بعد جولتها الثانية منعت اليمين المتطرف في فرنسا من تشكيل أول حكومة يمينية منذ الحرب العالمية الثانية؛ فإنها أيضاً لم تعطِ ماكرون الأفضلية، بما قد يشكِّل قيوداً على سياسته الخارجية، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تعقيد سياسات حلف الناتو. وفي ألمانيا، يواجه المستشار أولاف شولتس مشكلات داخلية متزايدة؛ إذ يعاني من تحديات اقتصادية، وائتلاف هش، ويمين متطرف صاعد، ما يثير كذلك حالة من عدم اليقين بشأن المرحلة المقبلة للناتو.

4- احتمالية عودة ترامب: أثار الأداء الضعيف للرئيس بايدن في المناظرة التي أُجريت مع منافسه ترامب في 27 يونيو الماضي، الكثير من المخاوف بشأن احتمالية عودة المرشح الجمهوري إلى البيت الأبيض مجدداً، خاصةً مع تقدمه في استطلاعات الرأي، وما يحمله ترامب من أفكار تثير مخاوف حلفائه الأوروبيين وخاصةً فيما يتعلق بمستقبل الناتو. فقبل أشهر من قمة واشنطن، صدم ترامب الناتو من خلال الإشارة إلى أنه سيشجع روسيا على مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة؛ إذا لم ينفقوا ما يكفي على جيوشهم. ربما ذلك هو ما دفع الكونغرس إلى الموافقة، في ديسمبر 2023، على مشروع قانون يمنع الرؤساء الأمريكيين من الخروج من الناتو من جانب واحد. لكن ترامب لن يحتاج إلى مغادرة الحلف رسمياً لتقويضه؛ إذ إن إشارته مراراً وتكراراً إلى أنه لن يهب للدفاع عن الحلفاء تمكنه من أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه.

وهذه الأجواء التي سبقت قمة الناتو التاريخية جعلت الطابع الاحتفالي لها مصحوباً بقدر كبير من المخاوف والتشاؤم، على الرغم من تحقيق بعض الإنجازات الملحوظة. فقمة واشنطن شهدت مشاركة فنلندا والسويد كحليفين كاملين بعد انضمامهما رسمياً للناتو، وهما قادران على تضخيم القدرات في الجناح الشمالي لأوروبا. كما وصل 23 من أصل 32 عضواً في الناتو إلى عتبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي في الحلف بعد أن كانوا ثلاث دول فقط عام 2014، وتسعاً في قمة فيلنيوس العام الماضي. ومرَد ذلك هو الحرب الروسية الأوكرانية، التي شهدت أيضاً شكلاً من الوحدة بين دول التحالف، أكثر من أي وقت مضى، وهو ما انعكس في طبيعة المخرجات التي صدرت عن قمة واشنطن.

مخرجات القمة:

خلال قمة واشنطن التاريخية، عيَّن الحلفاء رئيس الوزراء الهولندي المنتهية ولايته، مارك روته، أميناً عاماً جديداً للناتو خلفاً لسلفه النرويجي ينس ستولتنبرغ، الذي سيترك منصبه في أول أكتوبر المقبل، وذلك على الرغم من إبداء بعض دول أوروبا الشرقية لأول مرة رغبتها في أن يذهب المنصب إلى مسؤول من منطقتها. كما تركَّزت مخرجات هذه القمة على ثلاثة موضوعات رئيسية؛ يمكن إبرازها على النحو التالي: 

1- مواصلة دعم أوكرانيا: كان ضمان استمرار دعم كييف هو المسألة الرئيسية على طاولة الناتو خلال قمة واشنطن. وبأبسط وسائل تحليل المضمون، ذُكرت أوكرانيا في إعلان واشنطن حوالي 61 مرة مقابل 44 مرة لروسيا. وعلى الرغم من عدم تحقيق طموح أوكرانيا بالانضمام للحلف، وإلى جانب الدعم الثنائي الذي يقدمه الحلفاء لكييف؛ فإن الناتو اتخذ مجموعة من الخطوات المهمة لضمان مواصلة دعمه لأوكرانيا خلال السنوات المقبلة في إطار حربها مع روسيا، واشتملت هذه الخطوات على ما يلي:

أ- إطلاق، لأول مرة، مركز قيادة عسكري في ألمانيا باسم "المساعدة الأمنية والتدريب التابعة لحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا" (NSATU)؛ بهدف تنسيق أعمال المعدات العسكرية والتدريب وتطوير القوة لدعم أوكرانيا في دفاعها ضد روسيا وردع العدوان المستقبلي. وتُعد هذه الخطوة تحولاً ملحوظاً في توجه الناتو إزاء الحرب الأوكرانية؛ إذ إنه كان على مدار العامين ونصف الماضيين متردداً في المشاركة بشكل مباشر في الصراع لتخوفه من جر الحلف في مواجهة مباشرة مع موسكو.

ب- المُضي قدماً في إنشاء مركز التحليل والتدريب والتعليم المشترك بين حلف الناتو وأوكرانيا (JATEC)، وهو ركيزة مهمة للتعاون العملي، لتحديد وتطبيق الدروس المستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة إمكانية التشغيل البيني بين كييف والحلف.

ج- استمرار الدعم المالي لأوكرانيا، عبر توفير تمويل أساسي بقيمة 40 مليار يورو (43.2 مليار دولار) خلال العام المقبل، وتوفير مستويات مستدامة من المساعدة الأمنية، بالإضافة إلى الملايين التي تعهدت بها دول التحالف بشكل ثنائي لدعم كييف.

د- تعيين ممثل أعلى لحلف الناتو في كييف، من أجل تعميق العلاقة المؤسسية لأوكرانيا مع الناتو؛ بحيث يكون بمثابة نقطة محورية لمشاركة الناتو مع كبار المسؤولين الأوكرانيين.

2- تعزيز قدرات الردع والدفاع لدى الناتو: إلى جانب تأكيد زيادة الإنفاق الدفاعي ووصول جميع الحلفاء لعتبة 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي، اتفق الأعضاء على مواصلة تطوير قدرات الدفاع الجماعي وتسريع عمليات تحديثها على جميع المستويات، وتطوير إمكانات الردع. ومن أبرز ما جاء في ذلك، إجراء تدريبات عسكرية أوسع نطاقاً، واتخاذ إجراءات عاجلة لزيادة القدرات وفقاً لعملية التخطيط الدفاعي للناتو (NDPP)، وتدريب ودمج القوات البرية المتقدمة للحلف في الخطط الجديدة، والاستفادة الكاملة من انضمام فنلندا والسويد من خلال دمجها بالكامل في خطط وقوات وهياكل القيادة الخاصة بالناتو، وإنشاء مركز الدفاع السيبراني المتكامل التابع للناتو، وتعزيز حماية البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر (CUI)، والاستثمار في القدرات الدفاعية الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية اللازمة للعمل بفعالية في جميع البيئات. 

3- تعميق الشراكات في منطقة الإندوباسيفيك: إن أحد الاختلافات الملحوظة في إعلان واشنطن هو تركيزه على حلفاء روسيا وشركائها، تحديداً الصين وكوريا الشمالية وإيران. وبالطبع حظيت الصين بتركيز أكبر ووُصفت بأشد العبارات بأنها أصبحت "عامل تمكين حاسم" لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، ودعمها واسع النطاق للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية. وقد أدى ظهور بكين المتزايد في بيانات الناتو إلى دفع دول الحلف لإعادة تقييم شراكاتها في منطقة الإندوباسيفيك. فللعام الثالث على التوالي، منذ قمة مدريد عام 2022، تمت دعوة الشركاء الأربعة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (AP4) وهم أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية، للمشاركة في قمة الناتو. ويوضح إعلان واشنطن أن المسارين الأوروبي الأطلسي ومنطقة الإندوباسيفيك مترابطان؛ إذ تؤثر الديناميكيات الأمنية بشكل متبادل في بعضها بعضاً. وفي هذا الصدد، ركزت قمة واشنطن على تعزيز التعاون العملي مع الشركاء في الإندوباسيفيك، من خلال إطلاق أربعة مشروعات رئيسية، ركزت على دعم أوكرانيا، وتعزيز التعاون في مجال الدفاع السيبراني، وتبادل المعلومات حول التحديات التي يفرضها التضليل، والانخراط في الذكاء الاصطناعي من خلال فريق من الخبراء.

تحديات متشابكة: 

على الرغم من إظهار أعضاء الناتو الوحدة سواء خلال قمة واشنطن أم مخرجاتها؛ فإن التحديات التي تهدد مستقبل الحلف أصبحت تتجاوز الميول الشخصية لزعماء مثل: ترامب أو مارين لوبان أو غيرهم. ويمكن تسليط الضوء على أبرز هذه التحديات في النقاط التالية: 

1- التحولات في القوى العالمية: وفقاً للتقديرات الغربية، فقد انتهى عهد الاتحاد السوفيتي السابق، ولم تعد روسيا قادرة على غزو القارة الأوروبية. فعلى الرغم من أن موسكو تشن حرباً في أوكرانيا، وقد تهدد ذات يوم دول البلطيق الصغيرة؛ فإنه لن يمكنها أبداً شن حرب خاطفة على بولندا مثلاً؛ لأن الجيش الروسي الذي لم يستطع حتى الآن حسم المعركة لصالحه في مواجهة نظيره الأوكراني الأصغر والأضعف، ليس متوقعاً أن يتحول فجأة إلى أداة للتوسع الإقليمي في أوروبا، وفقاً لهذه التقديرات.

كذلك لم تعد أوروبا المركز الرئيسي للقوة الصناعية في العالم، إذ أصبحت حصة آسيا في الاقتصاد العالمي (54%) أكبر كثيراً من حصة أوروبا (17%)، كما أن مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي أعلى أيضاً. لذلك ربما تحظى آسيا بأهمية أكبر من أوروبا بالنسبة لصانع القرار الأمريكي، خاصةً أن ذلك يترافق مع بروز الصين كمنافس قوي للولايات المتحدة؛ وكل ذلك من شأنه أن يهدد مستقبل الناتو ويحوّل اهتماماته المستقبلية. 

2- انقسامات الناتو: لا يتفق جميع أعضاء الناتو على نفس التوجهات السياسية، فقد أّخرت كل من تركيا والمجر مساعي فنلندا والسويد للانضمام للحلف، وهما أيضاً من بين عدد قليل من الأعضاء الذين يحتفظون بعلاقات جيدة مع روسيا. ومن المُرجح بشكل خاص أن تؤدي علاقات رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، مع موسكو إلى إثارة التوترات؛ إذ منع أوربان، الذي يتولى حالياً الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي، مراراً مساعدات الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، واستمر في التجارة مع روسيا، كما التقى الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو، يوم 5 يوليو الجاري، وهي الزيارة التي تعرض على إثرها لانتقادات شديدة من قِبل زعماء الاتحاد الأوروبي وكييف. كذلك التقى أوربان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في بكين، يوم 8 يوليو الجاري، لمناقشة إنهاء الحرب في أوكرانيا، ووصف الصين بأنها قوة استقرار وسط الاضطرابات العالمية، وأشاد بمبادراتها "البناءة والمهمة" للسلام. وهذه الانقسامات الداخلية، بالتزامن مع صعود القادة اليمينيين في أوروبا، قد تكون أحد أهم مهددات الناتو.

3- تزايد الشكوك حول دور الحلف: يواجه الناتو شكوكاً متزايدة حول حدود دوره وكذلك أهميته في دعم الأمن والاستقرار الأوروبي. فقد أدت مغامرات الناتو في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، إلى تأسيس دولة فاشلة يعاني العالم من تبعاتها حتى الآن. وبالرغم من جهود الناتو لمساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا؛ فمن غير المُرجح أن تنتهي الحرب الحالية بانتصار مُحتمل لأوكرانيا والناتو؛ ونتيجة لهذا، يمكن فهم السبب وراء الشكوك المتزايدة حول الحلف حتى مع تدهور البيئة الأمنية في أوروبا. وبالتزامن مع ذلك، فإن الأجيال الجديدة في الغرب عموماً ربما أصبح يتركز وعيها السياسي على قضايا البيئة والمناخ أكثر من سياسات القوة، فيما يهتم آخرون بالشؤون الوطنية؛ ما انعكس في اختيار التيارات القومية في انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخراً. وكل ذلك ربما لا يبشر بالخير للشراكة الأمنية المستمرة في إطار الناتو.

في الختام، يمكن القول إنه بينما حملت قمة واشنطن وعوداً تعكس وحدة أعضاء الناتو؛ فإن التحديات التي تواجه مستقبل الحلف أضحت أكثر من أي وقت مضى. وسيظل احتفاظ الناتو بدوره وأهميته رهناً بعدة محددات، مثل: قدرته على تحقيق انتصارات حقيقية على أرض الواقع، وتعزيز دوره الذي أُنشئ من أجله في دعم أمن واستقرار ومصالح حلفائه، والذي يبدو أنه أصبح يواجه صعوبات في ظل حالة السيولة وعدم اليقين التي يمر بها النظام العالمي.