مستقبل "الناتو" بين استعادة التماسك وتحدي ترامب

16 July 2024


استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن، خلال الفترة من 9 إلى 11 يوليو 2024، قمة استثنائية لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، تزامناً مع الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف، وإظهاراً للقوة والوحدة المتواصلة لأعضائه، حسبما أوضح بيان القمة. ولم يكن هذان العاملان هما فقط سبب استثنائية القمة، ولكن أيضاً السياق الدولي الذي عُقدت فيه، والذي يُوصف في حد ذاته بأنه استثنائي، فضلاً عن كونها أول قمة يجتمع فيها الحلف في صيغة 32 عضواً، بعد انضمام كل من فنلندا والسويد إليه.

استقطاب دولي:

عُقدت قمة واشنطن في وقت يشهد فيه العالم حالة متنامية من الاستقطاب الدولي بين الكتلة الغربية التي تمثل "الناتو"، والكتلة الشرقية التي تمثلها روسيا والصين، على خلفية تطورات الحرب في أوكرانيا، والتنافس التجاري الصيني الأمريكي وتداعيات الحرب الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة، إضافة إلى الترقب الواضح لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة مع خشية العديد من أعضاء الحلف من العودة المحتملة للرئيس السابق دونالد ترامب. 

فعلى صعيد الحرب في أوكرانيا، والتي تشكل التحدي الأكبر لـ"الناتو" في المرحلة الراهنة، كانت تساور الكثير من دول الحلف المخاوف والشكوك بشأن حدود الالتزام بالوقوف مع أوكرانيا في مواجهة روسيا، خاصةً في ظل النجاحات العسكرية الميدانية الأخيرة التي حققتها موسكو، وسط الحديث عن إعدادها لما يُعرف بـ"الهجوم الصيفي الكبير"، وفي ظل ما ظهر من بوادر انقسامات في بعض مواقف دول "الناتو" بشأن كيفية التعامل مع هذا الصراع. علاوة على خوف كييف وحلفائها المقربين من تكرار سيناريو قمة "الناتو" في فيلنيوس التي عُقدت في يوليو 2023، عندما غادر أعضاء "الناتو" وأوكرانيا تلك القمة محبطين بسبب وجود فارق واضح بين ما أرادته أوكرانيا وما كان "الناتو" مستعداً لتقديمه.

وقد جاءت قمة "الناتو" هذا العام بعد مجموعة من التطورات المهمة التي عكست التزام دول الحلف بتقديم دعم أقوى لكييف، ومن بينها توقيع الرئيس جو بايدن في إبريل الماضي قانون المساعدات أو المخصصات الأمنية التكميلية لأوكرانيا والتي تبلغ قيمتها نحو 61 مليار دولار، معظمها ذات طبيعة عسكرية، وتتضمن أنظمة دفاع جوي وقذائف مدفعية هي في أشد الحاجة إليها. وكذلك موافقة الولايات المتحدة ودول أخرى على استخدام أوكرانيا لأسلحة غربية استراتيجية لضرب أهداف في مناطق وجود الروس داخل الحدود الأوكرانية، وربما أيضاً أماكن في العمق الروسي، إلى جانب توقيع دول أوروبية اتفاقيات أمنية مثل: فرنسا وألمانيا وغيرهما. وعلى الرغم من هذه الالتزامات الغربية، لا تزال كييف، وبعض دول "الناتو"، متشككة في فاعلية نتائج قمة واشنطن وما تسفر عنه من مواقف داعمة لأوكرانيا.

من جانبها، سعت روسيا لتعزيز جبهة تحالفاتها، ولاسيما مع الصين وكوريا الشمالية، وهددت باستخدام الأسلحة النووية رداً على مواقف "الناتو" المناهضة لموسكو، وهو ما عكس اتساع نطاق حالة الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الغربي والشرقي.

وبالرغم من خطورة التحدي الذي شكلته الأزمة الأوكرانية والتحديات الخارجية المرتبطة بتطورات الصراع في غزة، والصعود الصيني، وتفاقم ظاهرة الهجرة؛ فإن التحدي الأهم الذي يواجه "الناتو" في هذه المرحلة ينبع من داخل دول الحلف نفسها. فالقمة عُقدت في ظل تغييرات سياسية في الدول الأوروبية جسدها صعود اليمين المتطرف، على نحو ما عكسته انتخابات البرلمان الأوروبي والجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، وبالرغم من أن اليسار نجح في حسم هذه الانتخابات لمصلحته بعد الجولة الثانية فإنه وضع الدولة الفرنسية في مأزق البحث عن تحالف حكومي صعب قد يعطل قدرة باريس على اتخاذ قرارات مهمة على الأقل في السنة المقبلة. ومن المعروف أن القوى اليمينية تتبنى مواقف تركز على الأوضاع الداخلية أكثر من الاهتمام بالتحالفات الخارجية ولاسيما "الناتو".

لكن التطور الداخلي الأهم في دول "الناتو" والذي انصب عليه مجمل التركيز، كان السباق الانتخابي المشتعل في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل الأداء الباهت للرئيس بايدن الذي تراجع بشكل ملحوظ في استطلاعات الرأي العام بعد المناظرة الرئاسية الأولى مع ترامب، والتي كانت كارثية له وللحزب الديمقراطي. وقد تزايد الجدل بشأن الحالة الإدراكية لبايدن، والتي ظهرت في القمة الأخيرة لـ"الناتو" عندما خاطب الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، باسم الرئيس الروسي، بوتين، وما ترتب على ذلك من جدل داخل الحزب الديمقراطي نفسه حول أهلية بايدن للترشح باسم الحزب مع تنامي الأصوات التي تنادي بمرشح آخر حفاظاً على فرص الحزب في الانتخابات.

ويتابع باقي حلفاء "الناتو" هذه التطورات بقلق بالغ، وهم يتمنون ألا تأتي الانتخابات بترامب مجدداً إلى البيت الأبيض، بالنظر إلى تجربته السابقة في الحكم، والتي كانت صعبة بالنسبة للحلف؛ إذ اتسم نهج ترامب في التعامل معه بأسلوب الصفقات، وتسببت مواقفه في إثارة الشكوك حول التزام الولايات المتحدة بتعزيز دور "الناتو". ومع أن إدارة ترامب اتخذت خطوات لتعزيز قدرات الردع لدى "الناتو"، مثل: نشر قوات إضافية في شرق أوروبا، ودعم المبادرات الرامية إلى تعزيز استعداد الحلف لمواجهة التحديات الجديدة؛ فإن إصرار ترامب على قيام الأوروبيين برفع نسبة مساهمتهم العسكرية في الإنفاق الدفاعي للحلف، فضلاً عن مواقفه غير القوية تجاه أوكرانيا، وخشية الأوروبيين من تحميلهم تكلفة إعادة الإعمار، إضافة إلى قلقهم من خطته لإنهاء الحرب والتي قد تنطوي على تنازلات فيما يتعلق بالأراضي، كل ذلك جعل الحلفاء في "الناتو" قلقين من عودة ترامب مجدداً للسلطة بكل ما يحمله ذلك من تأثيرات في مستقبل الحلف.

نتائج القمة: 

على عكس الشكوك التي سبقت قمة واشنطن، جاءت النتائج والالتزامات التي توصلت إليها لتعيد تأكيد قوة ووحدة وتماسك حلف "الناتو"، وإظهار أنه أكثر اتحاداً وقوة اليوم مما كان عليه في أي وقت مضى، ولاسيما مع توسع الحلف بضم أعضاء جدد وزيادة موارده المالية والعسكرية. وبرز ذلك بوضوح في ثلاث قضايا رئيسية ناقشتها القمة، وهي كالتالي:

1- الموقف القوي لـ"الناتو" الداعم لأوكرانيا؛ إذ تم الإعلان عن أكبر حزمة مساعدات عسكرية نوعية ومادية لكييف مثل طائرات "إف 16"؛ إذ أعلن الحلفاء عن نيتهم تقديم 40 مليار دولار كحد أدنى من التمويل الأساسي خلال العام المقبل وتوفير مستويات مستدامة من المساعدات الأمنية لأوكرانيا. كما قرر الأمين العام للحلف تعيين ممثل مدني رفيع المستوى لـ"الناتو" في كييف لتعزيز العلاقة المؤسسية مع أوكرانيا، وسيكون هذا الممثل رفيع المستوى بمثابة نقطة محورية في مشاركة "الناتو" مع كبار المسؤولين الأوكرانيين.

2- مسألة الردع والدفاع في "الناتو"؛ إذ جرى الإعلان عن استعداد 500 ألف من قوات الحلف لأي تدخل عسكري في حال تطلبت الحاجة.

3- التركيز على المحيط الهادئ والهندي، وتحديداً الصين وكوريا الشمالية، في محاولة لردعهم عن مواصلة تقديم الدعم لروسيا؛ إذ كانت هناك رسائل قوية جداً، موجهة لبكين بسبب دعمها لموسكو في حربها ضد أوكرانيا؛ إذ قال بيان الحلف إن الصين أصبحت عامل "تمكين لغزو روسيا لأوكرانيا"؛ ما دفع بكين إلى تحذير الحلف من "إثارة مواجهة". فيما أعلن متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أن بلاده "تدين بشدة التصريحات غير المسؤولة والاستفزازية التي أدلى بها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ضد الصين، والتي تعتبر غارقة في عقلية الحرب الباردة والتحيز العقائدي". 

كما أعرب الحلف في بيانه عن مخاوفه بشأن الشراكة المتنامية والتعاون العسكري "غير القانوني" بين كوريا الشمالية وروسيا؛ متهماً بيونغ يانغ بـ"تأجيج الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا من خلال تقديم مساعدات عسكرية مباشرة إلى موسكو"؛ وهو ما انتقدته كوريا الشمالية بقوة؛ إذ قالت وزارة خارجيتها في بيان لها إن بيان "الناتو" "ينتهك الحقوق المشروعة للدول المستقلة ذات السيادة ويمثل برنامجاً عدوانياً يحرض على حرب باردة جديدة ومواجهة عسكرية على نطاق عالمي".

 مسار مستقبلي:

أظهرت نتائج قمة "الناتو" في واشنطن التزاماً من قِبل دول الأعضاء بإعادة الوحدة والتضامن بين دول الحلف، كما أظهرت حرصاً من هذه الدول على تعزيز قوة الحلف وقدرته على مواجهة التحديات؛ وهذا ما برز في العديد من المؤشرات، التي من بينها، إضافة إلى النتائج التي أفرزتها القمة الأخيرة، اتساع دائرة الدول الأعضاء التي رفعت نسبة إنفاقها العسكري لأكثر من نسبة 2%، فحالياً تفي 23 دولة عضواً من دول الحلف بالتزاماتها الخاصة بالإنفاق الدفاعي أو تتخطاها، وهو تطور كبير مقارنةً بما كان عليه الوضع في عام 2014 عندما كان ثلاثة حلفاء فقط ينفقون 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.

كما بدأ "الناتو" يوجه اهتماماته نحو مجالات جديدة للدفاع والأمن، ومن بينها التهديدات السيبرانية؛ إذ شارك شركاء مختارون لـ"الناتو" للمرة الأولى في مؤتمر الحلف لتعهد الدفاع السيبراني لهذا العام، وتبادل الشركاء أفضل الممارسات والدروس المستفادة في مجال حماية البنية التحتية الوطنية من التهديدات السيبرانية. علاوة على المشاركة بشأن الذكاء الاصطناعي، إلى جانب تعزيز التعاون الثنائي في المجالات الأمنية والعسكرية، وذلك ضمن استراتيجية الحلف للتوسع ومحاصرة المنافسين التقليديين؛ روسيا والصين. كما اتجه "الناتو" لتعزيز شراكاته الاستراتيجية وتوسيعها، لتشمل منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع التركيز على دول أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، والتي تمت دعوتها للعام الثالث على التوالي. 

وعلى الرغم من هذا السياق التفاؤلي الذي يشير إلى مستقبل أكثر قوة وتماسكاً لحلف "الناتو"، تظل المشكلات أو التحديات الرئيسية القائمة هي ذاتها، وأخطرها تلك النابعة من الداخل، والمتمثلة في احتمال حدوث تغييرات سياسية في الدول الأعضاء، ولاسيما الولايات المتحدة، تعرقل مسار الحلف المستقبلي. وقد تكون رئاسة ترامب، في حال فوزه في الانتخابات المقبلة وهو أمر مُحتمل، مؤشراً مهماً في هذا السياق.