سياقات ضاغطة:

فرص وعوائق بقاء نتنياهو في السلطة بعد حرب غزة

10 July 2024


تتزايد الضغوط على رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بشكل غير مسبوق؛ بسبب عدم وضوح موقفه من صفقة تبادل الرهائن التي يجري العمل عليها في جولة جديدة من المفاوضات يُفترض أن تنتهي في نهاية شهر يوليو الجاري. وعلى الرغم من موافقة نتنياهو على خوض هذه الجولة من المفاوضات، فإن تصريحاته التي تشدد على تحقيق أهداف الحرب في قطاع غزة، بما في ذلك إسقاط حكم حماس في القطاع، تشكك في إمكانية نجاح هذه المفاوضات. ومع انسحاب بيني غانتس، زعيم حزب "معسكر الدولة"، من حكومة الطوارئ، في شهر يونيو الماضي، بات السؤال عن مصير نتنياهو مطروحاً بقوة في ظل ارتفاع مطالب الشارع الإسرائيلي بإجراء انتخابات مبكرة. 

تراكم الإخفاقات:

يواجه نتنياهو أزمة عنيفة وغير مسبوقة في ظل الإخفاقات المتعددة لحكومته التي تشكلت في نهاية عام 2022، بدايةً من عجزها عن تمرير معظم بنود خطة التعديلات القضائية، والتي تسبب طرحها في اندلاع مظاهرات عاصفة في إسرائيل استمرت نحو ستة أشهر، مروراً بتوتر علاقاتها مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وتهديد العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، فضلاً عن فشل استراتيجية نتنياهو لردع حماس، والتي تسببت في أسوأ هجوم تتعرض له إسرائيل داخل أراضيها منذ حرب عام 1948، وانتهاءً بالعجز عن تحقيق الأهداف التي حددها نتنياهو بنفسه للحرب الحالية (وهي القضاء على حماس، وتحرير الرهائن، وضمان عدم تكرار هجوم السابع من أكتوبر 2023) بعد مرور أكثر من تسعة  أشهر على بدئها.

وتشير الانقسامات العنيفة التي تضرب حكومة الائتلاف الحالي بعد تفكك حكومة الطوارئ، إلى احتمالات شبه مؤكدة بقرب انتهاء الحقبة الطويلة لحكم حزب "الليكود" وعلى رأسه نتنياهو قريباً، غير أن المخاوف من تمكن الأخير من الإفلات من مصيره المحتوم لا تزال تراود العديد من المعلقين السياسيين في إسرائيل؛ بسبب ما أثبته مراراً من قدرة على البقاء بالرغم من مطاردة القضاء له منذ عام2019  بتُهم الفساد وتقديم الرشاوى واستغلال النفوذ.

والواقع أن القياس على أن قدرة نتنياهو في السابق على الصمود في وجهة الأزمات التي واجهها سواء من داخل حزبه أم من شركائه في جبهة اليمين (أحزاب الصهيونية الدينية، والأحزاب الحريدية) أم من جانب أحزاب المعارضة، تعني وجود احتمال لأن يتمكن من تجاوز الأزمة الحالية، يُعد قياساً خاطئاً لأن الأزمة الحالية ليست "سياسية" مثل تلك التي واجهها نتنياهو في السابق قبل حرب السابع من أكتوبر الماضي، بل يمكن وصفها بأنها أزمة "وجودية" سواء لإسرائيل (استخدم نتنياهو هذا التعبير في وصفه لهجوم حماس في حينها) أم لنتنياهو نفسه الذي أقام تاريخه السياسي كله على شعار "نتنياهو الأنسب للحفاظ على أمن إسرائيل"، ليحطم هجوم حماس هذا الشعار عملياً.

فرص البقاء:

تشير معظم الدراسات التي تناولت الخصائص الشخصية لنتنياهو، إلى أنه من طراز السياسيين الذين لا يستسلمون أمام الأزمات مهما كان عنفها؛ ومن ثم فإن العناصر التي تدعم احتمالات بقائه في السلطة والحياة السياسية، تتمثل في الآتي:

1- أول هذه العناصر يتعلق بإصرار نتنياهو على البقاء، وهو ما ظهر مبكراً بعد نحو ثلاثة أسابيع من بدء حرب غزة؛ إذ رد على إعلان عدد من قادة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية تحملهم مسؤولية الإخفاق في قراءة نيات حماس واستعداداتها للحرب، بالتنصل من المسؤولية، على اعتبار أن التقارير التي قدمتها الاستخبارات العسكرية (أمان) –المسؤولة رسمياً عن تقديم التقرير الاستخباري القومي– أوصت بعدم استباق المواجهة مع حماس في غزة بالرغم من مواصلتها مراكمة السلاح وتدريب مقاتليها على الاشتباك مع القوات الإسرائيلية. ومع أن نتنياهو سارع بالاعتذار عن ذلك في حينها، فقد أعاد تأكيد نفس المزاعم مرة أخرى في 24 مايو الماضي. 

2- ثاني العناصر التي يمكن لنتنياهو المراهنة عليها للبقاء، يتمثل في النقاط التالية: 

أ- نجاحه على مدى ما يقرب من 20 عاماً من زعامته لحزب "الليكود"، في "شخصنة الحزب"؛ أي جعل بقاء الحزب مرهوناً بوجود نتنياهو نفسه في القيادة. فقد تغلب نتنياهو على كل خصومه ومنافسيه داخل "الليكود"، بدايةً من تمكنه من حشد اللجنة المركزية للحزب للوقوف في وجه زعيمه السابق، أرئيل شارون، عام 2005، على خلفية خطة الانسحاب من غزة آنذاك؛ وهو ما اضطر شارون لمغادرة الحزب وتشكيل آخر جديد باسم "كاديما". وبينما تمكن نتنياهو من تقوية "الليكود" وإعادته للحكم عام 2009 بعد قضاء فترة قصيرة في المعارضة؛ فإن حزب "كاديما"، الذي فقد زعيمه شارون بعد مرضه ودخوله في غيبوبة عام 2006، لم يتمكن من البقاء طويلاً وانهار بشكل كامل بعد دورتين انتخابيتين فقط.

ب- التغلب على الانشقاقات التي ضربت "الليكود"، والتي بدأت عام 2014 بانسحاب القيادي البارز موشيه كحلون من الحزب وتشكيل آخر جديد باسم "كولانو" والذي لم يستمر طويلاً وأعلن حل نفسه عام 2019. وكذلك جدعون ساعر الذي انسحب من "الليكود" بعد أن خسر في المنافسة على رئاسة الحزب أمام نتنياهو في الانتخابات الداخلية عام 2019، وأعلن بعدها تشكيل حزب باسم "أمل جديد" ولكن أداء هذا الحزب في الانتخابات المتتالية حتى عام 2023 أوضح محدودية تأثيره في ناخبي اليمين، ولم يحصد سوى عدد قليل من المقاعد، قبل أن يتحالف مع غانتس في الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2022.

وبنظرة إلى الوراء، يمكن القول إن انشقاق كحلون وساعر عن "الليكود"، كان فرصة لنتنياهو للتخلص من منافسين قويين كانا يطمحان إلى خلافته، وأدى خروجهما مع ضعف أداء حزبيهما في الانتخابات العامة، إلى المحافظة على قوة "الليكود" وقوة نتنياهو في الحزب أيضاً. وفي الوقت نفسه كان خروجهما من "الليكود" وعدم تمكنهما من تحقيق أي إنجاز سياسي، بمثابة ردع لكل من يفكر في منافسة نتنياهو مستقبلاً على رئاسة الحزب.

ج- حتى اليوم يبدو نتنياهو قادراً على إحكام السيطرة على "الليكود" بالرغم من ظهور أصوات معارضة لبقائه بعد أزمة حرب غزة، ومن هؤلاء وزير الاقتصاد، نير بركات، الذي يرى أن بقاء نتنياهو على رأس "الليكود" سيكلف الحزب خسارة أية انتخابات مقبلة، أما إذا ترأسه هو، فإن "الليكود" سيحصل على ما لا يقل عن 25 مقعداً (رشحته الاستطلاعات في شهر مايو الماضي للفوز بـ17 مقعداً فقط إذا جرت الانتخابات في حينها). وهناك أيضاً يولي إدلشتاين، وموشيه فيغلين، ولكنهما لا يتمتعان بتأييد كبير داخل "الليكود". ويمكن أن يشعر نتنياهو ببعض القلق من عضوين آخرين هما ديفيد بيتان وداني دانون، الذين ينسقان علناً مع زعيم المعارضة، يائير لابيد، لإسقاط الائتلاف الحاكم بحجب الثقة عنه في الكنيست، والدعوة لانتخابات مبكرة. لكن من الصعب الحكم على مدى تأثير تلك التحركات في مستقبل نتنياهو في "الليكود"، حتى لو نجحت في إسقاط الحكومة.

وفي كل الأحوال، يمكن لنتنياهو الاعتماد على تمسك معظم أعضاء "الليكود" بالإبقاء على زعامته للحزب، ليس بالضرورة بسبب ولائهم الشخصي له؛ بل بسبب غموض مستقبل الحزب في ظل عدم وجود بديل له يتمتع بالكاريزما التي يحظى بها نتنياهو بالرغم من تبعات حرب غزة. 

3- ثالث العناصر التي يمكن أن تمنح نتنياهو شبكة أمان تحميه من السقوط داخل "الليكود" ومن الحياة السياسية بشكل عام، هو تماسك جبهة اليمين من حوله. فأحزاب الصهيونية الدينية (بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير) والأحزاب الحريدية (شاس ويهوديت هتوراه)، تدرك جيداً أن فرص الإبقاء على الائتلاف الحاكم الذي تشارك فيه مع نتنياهو، أو العودة مع ائتلاف جديد يقوده "الليكود" أيضاً، ستتلاشى حال اختفاء نتنياهو بسبب غموض مستقبل "الليكود" من بعده، وعدم قدرة أحزابهم على الانفراد بتشكيل الحكومة أو المشاركة في ائتلافات حاكمة أخرى مستقبلاً، خاصةً في ظل خلافاتهم الأيديولوجية العميقة مع أحزاب المعارضة من الوسط واليسار.

عوائق مضادة: 

إذا كان رهان نتنياهو للبقاء في منصبه والحياة السياسية، يعتمد إلى حد كبير على دعم حزبه، وعلى مراهنة الأحزاب الصهيونية والحريدية عليه للحفاظ على حكم اليمين؛ فإن العناصر المعاكسة التي تقلل من إمكانية ذلك تبدو أكثر قوة وتنوعاً، وأهمها ما يلي:

1- انضمام غانتس للمعارضة التي تطالب بإجراء انتخابات مبكرة، وإطلاق برنامجه الانتخابي مبكراً، والذي يشدد على أن أبرز أهداف حزبه إذا وصل إلى السلطة ستكون القضاء على حماس، وإعادة الرهائن، وتشكيل حكومة بديلة في غزة، وإعادة السكان الإسرائيليين إلى شمال البلاد، وتشكيل لجنة حكومية للتحقيق في ملابسات التقصير والمسؤولية عما جرى منذ أحداث السابع من أكتوبر الماضي.

2- محاولات تشكيل تجمع لأحزاب اليمين الرافضة لكل من نتنياهو وغانتس كقيادة لليمين، أظهر استطلاع نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، في 4 يوليو الجاري، أنه حال ظهور الحزب الذي سيضم أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب إسرائيل بيتنو)، ونفتالي بينيت، رئيس الوزراء السابق، ويوسي كوهين، رئيس جهاز الموساد السابق، وأيليت شاكيد، القيادية السابقة في حزب "الصهيونية الدينية"، وساعر، زعيم حزب "أمل جديد" أو اليمين الحقيقي كما يقول؛ فإن مثل هذا الحزب سيحصل على 29 مقعداً في مقابل 19 مقعداً لـ"الليكود"، و16 مقعداً لحزب غانتس. وفي نفس الاستطلاع، يعتبر 48% من المشاركين أن بينت الأصلح لرئاسة الحكومة، مقابل 33% اختاروا نتنياهو.

3- ضغط إدارة بايدن على نتنياهو من أجل تحجيم الحرب الدائرة في غزة، والقبول بإسناد دور للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع بعد الحرب. ويخشى نتنياهو من التقارب بين إدارة بايدن وغانتس فيما يتعلق بسياسة اليوم التالي للحرب. فمن جهة، ترشح الاستطلاعات غانتس للفوز في الانتخابات المقبلة، بما يجعله خطراً بالغاً على مستقبل نتنياهو السياسي، ومن جهة أخرى يخشى نتنياهو التدخلات الأمريكية غير المباشرة في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة لصالح غانتس. ومن المعروف أن نتنياهو له تاريخ طويل في عدم الثقة في الأمريكيين في هذا الجانب على وجه الخصوص؛ إذ سبق له أن اتهم إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، بل كلينتون، بإسقاطه في انتخابات عام 1999 التي فاز بها زعيم حزب العمل في ذلك الوقت، إيهود باراك. كما لم يتورع نتنياهو عن اتهام الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، بمحاولة إسقاطه في انتخابات عام 2013، والتي فاز بها نتنياهو بالفعل.  

4- حتى لو لم يتم تشكيل لجنة التحقيق في أحداث غزة بشكل عاجل، والتي يطالب بها غانتس، فإن صدور قرار بتشكيلها أمر محتم بعد نهاية الحرب. وفيما يأمل نتنياهو في ألا يتم تشكيل هذه اللجنة قبل تمكنه من الإعلان عن انتصاره بالقضاء على حماس حتى يتجنب الكثير من التُّهم المتوقع أن توجه إليه بالتقصير، فإن فكرة تحقيق نصر واضح على حماس تبدو مستبعدة بسبب صعوبة تحديد من المهزوم ومن المنتصر في الحروب اللامتماثلة (بين جيوش نظامية وجماعات مسلحة) إلا لو تمكن الجيش الإسرائيلي من اعتقال أو اغتيال قادة حماس. وإن كان ذلك لن يعني إمكانية إعفاء لجنة التحقيق المنتظر تعيينها لنتنياهو من مسؤوليته عن التقصير، والتوصية بإخراجه من منصب رئيس الحكومة إذا كان مستمراً في شغله حتى ذلك الوقت.

5- بافتراض أن نتنياهو يمكن أن ينجو من إدانة لجنة التحقيق المنتظر تشكيلها عاجلاً أم أجلاً، فإن ذلك لن يكون كافياً لحمايته من السقوط تحت الضغوط المتوقع زيادتها من جانب الشارع الإسرائيلي الذي احتشد قبل عام واحد ولمدة ستة أشهر كاملة في مظاهرات ضخمة كانت تطالب برحيله بسبب خطة التعديلات القضائية. وهناك سابقة قديمة تؤكد أن الرأي العام الإسرائيلي يتمكن أحياناً من فرض التغيير بنفسه وليس عبر المؤسسات القانونية، ففي عام 1974 وبعد ستة أشهر فقط من حرب أكتوبر بين إسرائيل من جهة، وكل من مصر وسوريا من جهة أخرى، كسب حزب "العمل" ورئيسته آنذاك غولدا مائير الانتخابات العامة وتشكلت حكومة جديدة برئاستها، غير أن مظاهرات الشوارع التي احتجت على بقائها في منصبها أجبرتها على الاستقالة بعد 20 يوماً فقط، على الرغم من أن التقرير الأولي للجنة "أجرانات" التي تشكلت آنذاك للبحث في أسباب الإخفاق في الحرب كان قد أعفاها من أية مسؤولية عن التقصير.

6- ما يزال نتنياهو تحت المحاكمة الممتدة منذ عام 2019 بتهم الفساد والرشوة، وليس من المستبعد تكثيف جلسات الاستماع في تلك القضايا وصدور حكم بإدانته وعزله من منصبه أو حتى معاقبته بالسجن.

ختاماً، يمكن القول إن أمام نتنياهو فرصة ضئيلة للبقاء في الحياة السياسية الإسرائيلية بعد نهاية حرب غزة؛ بسبب غلبة قوة العناصر الداعمة للإطاحة به على تلك التي يمكن أن تساعده على البقاء.