مأزق ماكرون:

زلزال اليمين المتطرف في فرنسا.. سيناريوهات ما بعد الانتخابات البرلمانية

04 July 2024


يواجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، موقفاً صعباً في ظل النتائج الكارثية التي تعرض لها ائتلافه الوسطي في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية (الجمعية الوطنية) التي جرت يوم 30 يونيو الماضي. فماكرون يواجه خصمين لا يكفي التفاؤل والثقة بالنفس لمواجهتهما معاً، وهما اليمين الشعبوي المتطرف بقيادة حزب "التجمع الوطني"، وائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي يضم أحزاب الاشتراكيين وأقصى اليسار والخضر بقيادة حزب "فرنسا الأبية"، الذي يتزعمه جون لوك ميلونشون، وينتقد بشكل حاد قرارات الإليزيه. 

واحتل تحالف "معاً" الوسطي بقيادة رئيس الوزراء غابرييل أتال، والذي ينتمي إليه ماكرون، المركز الثالث في الجولة الانتخابية الأولى بـ20.8% فقط، خلف "التجمع الوطني" الذي حصل على 33.1%، و"الجبهة الشعبية الجديدة" التي حصلت على نحو 28%. 

وفي هذا السياق، تثور مجموعة من التساؤلات حول مساحة المناورة لدى الرئيس ماكرون لإبعاد اليمين المتطرف عن تشكيل الحكومة القادمة، والسيناريوهات التي تنتظر فرنسا بعد إغلاق صناديق الاقتراع في الجولة الثانية المُقررة يوم 7 يوليو الجاري، ولماذا يخشى الكثيرون في أوروبا والعالم العربي وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في باريس؟ وما مدى قدرة ماكرون على الدعوة لانتخابات مبكرة جديدة لإبعاد اليمين عن حكم الدولة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي؟

صعود اليمين المتطرف:

قبل أكثر من 50 عاماً عندما أسس جان ماري لوبان حزب "الجبهة الوطنية" عام 1972 مع بعض المحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب الجزائر، لم يحلم لوبان وقتها بأن يكون هذا الحزب هو الحزب الفرنسي الأول في البرلمان الأوروبي، وينافس على الأغلبية في الجمعية الوطنية الفرنسية؛ لأن لوبان عندما خاض الانتخابات الرئاسية عام 1974 حصل على أقل من 1% من الأصوات، وكانت أفكاره مرفوضة من غالبية الشعب الفرنسي. لكن اليوم بات الحزب اليميني الشعبوي على أبواب الحكم في باريس عندما حصل الحزب على نحو 31.4% من المقاعد الفرنسية في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت يوم 9 يونيو الماضي، وهو الحزب الذي تحول عام 2018 إلى اسم "التجمع الوطني" وتقوده حالياً ابنته مارين لوبان مع الوجه الشاب جوردان بارديلا، الذي تسلم رئاسة الحزب عام 2021.

وقادت عوامل عدة إلى صعود اليمين الشعبوي المتطرف في فرنسا، ومنها ما يلي: 

1- الضغوط الاقتصادية: بالرغم من الأداء الجيد للاقتصاد الفرنسي في السنوات الثلاث الأخيرة، فقد عانى الناخب الفرنسي من ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القوة الشرائية؛ وهي القضية التي راهن عليها "التجمع الوطني" سواء في انتخابات البرلمان الأوروبي أم الجولة الأولى من انتخابات الجمعية الوطنية هذا العام، وتزامن ذلك مع الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، وعدم القدرة على الوصول للخدمات الطبية في الأماكن البعيدة عن المدن والتجمعات الرئيسية. 

وبدأ هذا التراجع الاقتصادي في ظل المعاناة من جائحة "كورونا"، وضعف سلاسل الإمداد، ثم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة بما فيها أسعار الكهرباء والتدفئة في الشتاء. ويشعر سكان المناطق البعيدة عن المدن والتجمعات الكبيرة في فرنسا أن الرئيس ماكرون تجاهلهم بعد أن وصلت نسبة البطالة في البلاد نحو 25% العام الماضي، ويتجلى هذا بوضوح في عدم قدرة المواطن الفرنسي على دفع تكاليف السكن الذي تزامن مع إغلاق السلطات الفرنسية بعض المدارس نتيجة الاقتطاع من الميزانية، وإغلاق بعض المراكز الصحية الصغيرة. 

2- انعدام الأمن: تعاني فرنسا من تراجع حاد من الإحساس بالأمان، خاصةً من جانب المرأة في بعض المناطق التي تشهد تصاعداً في معدلات الجريمة. وأصبحت المرأة الفرنسية تشكو من زيادة عدد المتسكعين في الشوارع بعد أن كان الإحساس بالأمان سائداً في كل المدن والبلدات الفرنسية.

3- الاحتجاج على قانون التقاعد: تفيد كل المؤشرات بأن الرئيس ماكرون يدفع ثمن إصراره على تمرير قانون التقاعد الجديد الذي رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، وهو قرار عارضه حتى الذين ظلوا يدعمون ماكرون منذ عام 2017.

4- تكلفة التحول نحو الاقتصاد الأخضر: شهد عام 2019 طفرة كبيرة في فوز أحزاب الوسط واليسار والخضر التي تنادي بالتحول نحو الاقتصاد الأخضر في فرنسا. لكن في انتخابات البرلمان الأوروبي والجمعية الوطنية الفرنسية هذا العام، صوت الناخب ضد هذه الأجندة التي اقتطعت الكثير من رفاهيته دون أي مقابل. 

5- مرونة "التجمع الوطني": مقابل الجمود وعدم المرونة من جانب ائتلاف الوسط وأحزاب اليسار والخضر الفرنسية، نجحت مارين لوبان مع جوردان بارديلا في تقديم وجه جديد لحزب "التجمع الوطني". فعلى سبيل المثال، لم تعد رؤية الحزب اليميني المتطرف تقوم على الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل العمل على إصلاح المؤسسات الأوروبية، وخفض الدعم الفرنسي للاتحاد الأوروبي بنحو ملياري يورو. وبعد أن كان يُنظر لمارين لوبان على أنها داعمة لروسيا، باتت تدعو لدعم أوكرانيا لكن من دون إرسال الأسلحة التي تضرب العمق الروسي. ولم يخض اليمين المتطرف الفرنسي في القضايا الجدلية التي قد تضعف موقفه الانتخابي. 

6- قومية بوجه جديد: من أكثر العوامل التي نجح من خلالها اليمين المتطرف مع الجناح اليميني من الجمهوريين في فرنسا، هي أنهم يقدمون روايتهم القومية لكن مع بعض التجميل. فعلى سبيل المثال، يطرح اليمين المتطرف قضية الهوية الفرنسية عبر الدعوة لعدم منح الجنسية للأطفال الجدد من أبوين مهاجرين بشكل غير شرعي. كما يطالب اليمين الشعبوي بأن تكون الأولوية في الوظائف والخدمات للفرنسيين وليس للحاصلين على الجنسية الفرنسية. وكلها دعوات تأتي على هوى الناخب الفرنسي الذي يعاني من التداعيات الاقتصادية الهائلة خلال السنوات الأخيرة.

ستة سيناريوهات:

في ضوء نتائج انتخابات الجمعية الوطنية، تنتظر فرنسا سيناريوهات عدة، لعل أبرزها ما يلي:

1- "تحالف الأحلام": يقوم هذا السيناريو على تحالف معسكر ماكرون بقيادة أتال الذي حصل على نحو 20%، مع ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي حصل على حوالي 28%، ليشكلوا معاً كتلة واحدة ضد "التجمع الوطني" في البرلمان الفرنسي. لكن هذا السيناريو يواجه الكثير من التحديات، أبرزها أن ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" يضم الاشتراكيين واليسار المتطرف والخضر، وبالرغم من خوضهم معاً انتخابات البرلمان الأوروبي وانتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية، فإن درجة اختلافهم حول سُبل التعاون مع تحالف الوسط بقيادة أتال، تهدد ليس فقط أي تعاون مستقبلي بين "الجبهة الشعبية الجديدة" والتحالف الرئاسي، بل يمكن أن يؤدي التقارب مع ماكرون إلى تفتيت "الجبهة الشعبية الجديدة" نفسها، وخروج حزب "فرنسا الأبية" بقيادة الزعيم اليساري وعدو سياسيات الإليزيه، ميلونشون. 

2- سيناريو المادة 8 من الدستور: هذه المادة تنص بوضوح على أن رئيس الجمهورية يعين رئيس الوزراء، لكنها لا تحدد المعايير التي يجب أن يستند إليها. وهو ما يعني أن ماكرون يمكن أن يتجاهل "التجمع الوطني" برئاسة بارديلا؛ إذا ما تشكل ائتلاف من الوسط واليسار له عدد مقاعد أكبر من المقاعد التي سيحصل عليها "التجمع الوطني" بعد فرز آخر صندوق في السابع من يوليو الجاري. وقد يكون أمام ماكرون طريقان لتنفيذ هذا السيناريو، كالتالي: 

أ- إعلان بارديلا عدم قبوله بتشكيل الحكومة ما لم يحقق الأغلبية في الانتخابات البرلمانية، ويُعد تحقيقه هذه الأغلبية احتمالاً ضعيفاً؛ إذا حدث تنسيق بين ائتلاف ماكرون والاشتراكيين والخضر واليسار. 

ب- اختيار ماكرون شخصية ليس لها انتماء حزبي لتشكيل الحكومة؛ اعتماداً على أن المادة 8 من الدستور لم تحدد المعايير التي يستند إليها الرئيس الفرنسي في ذلك. 

3- التنسيق في مواجهة "التجمع الوطني": يعني أن يتم التنسيق في الجولة الانتخابية الثانية بين ائتلاف أتال والاشتراكيين والخضر واليسار، حتى يحرم "التجمع الوطني" من الحصول على مزيد من المكاسب، بحيث يكون ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري الاشتراكي هو الكتلة الأولى وليس "التجمع الوطني"، مقابل أن يمنح ماكرون هذا الائتلاف منصب رئيس الحكومة؛ لأن التعايش السياسي سيكون مقبولاً بين ماكرون والاشتراكيين واليسار والخضر، على العكس مع "التجمع الوطني" شديد التطرف. 

وهناك بوادر لتنفيذ هذا السيناريو بشكل كلي أو جزئي عبر انسحاب أكثر من 210 مرشحين من ائتلاف ماكرون وائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة"، من أجل تشكيل جبهة موحدة لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف في الجولة الثانية للانتخابات؛ إذ لم يبق سوى نحو 100 مرشح من أصل 311 ترشحوا في الجولة الأولى. وكلما ازداد عدد الانسحابات، تضاءلت حظوظ اليمين المتطرف في بلوغ الرقم (289 مقعداً من إجمالي الدوائر الانتخابية البالغ عددها 577) الذي يوفر له الأغلبية في البرلمان ويُلزم حينها ماكرون بتكليف بارديلا بتشكيل الحكومة المقبلة.

4- التعايش الإلزامي: يقوم على فرضية فوز "التجمع الوطني" بالأغلبية البرلمانية، وهنا لن يكون أمام الرئيس ماكرون خيار إلا "التعايش الإلزامي" مع حكومة يمينية متطرفة. 

5- الحائط المسدود: هو سيناريو يتحقق إذا لم يحصل أي من الائتلافات الثلاثة على الكتلة الأكبر أو الأغلبية البرلمانية، وهو ما يحول "التجمع الوطني" إلى "كتلة مُعطلة" في البرلمان الفرنسي؛ الأمر الذي يمكن أن يتسبب في جمود سياسي غير مسبوق وشلل في اتخاذ القرارات. 

6- نهاية الماكرونية: على الرغم من إصرار الرئيس الفرنسي الحالي على أنه لن يستقيل، وسوف يواصل ولايته التي تنتهي عام 2027، فإن فشل المناورة السياسية بالدعوة لانتخابات مبكرة لم يكن الإليزيه في حاجة إليها، يمكن أن يدفع ماكرون إلى الاستقالة، خاصةً أن الدستور الفرنسي يمنع الدعوة لانتخابات مبكرة قبل يونيو 2025؛ الأمر الذي قد ينهي "الحالة الماكرونية" التي تأسست مع انتخابات 2017 وجمعت تيارات من يمين الوسط ويسار الوسط في السنوات الماضية. 

ختاماً، يمكن القول إنه لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تقف فرنسا على المحك باقتراب اليمين المتطرف من قصر الإليزيه؛ وهو ما يهدد بتغيير وجه فرنسا التي ظلت دائماً رمزاً للحرية والتسامح، في ظل دعوات اليمين بوقف الهجرة، وترحيل المهاجرين، ومنع الحجاب، وتقليص المساهمات المالية الفرنسية في دعم مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وحتى لو لم يشكل اليمين المتطرف الحكومة الفرنسية القادمة؛ فإن تأثيره في البرلمان ومؤسسات الحكم أصبح بالفعل واقعاً لا يمكن إنكاره.