بين القيم والواقعية:

الانخراط الدبلوماسي النشط والتغيُّرات التدريجية في العقلية اليابانية

29 May 2024


شهدت الدبلوماسية اليابانية نشاطاً ملحوظاً ومكثفاً خلال الشهر الأخير، شمل أربع قارات في العالم؛ وهو ما يظهر في الزيارات الرسمية لرئيس الوزراء، فوميو كيشيدا، إلى كلٍ من فرنسا في أوروبا، ثم البرازيل وباراغواي في أمريكا اللاتينية خلال الفترة من 1 إلى 6 مايو الجاري، وزيارات وزيرة الخارجية، كاميكاوا يوكو، إلى 6 دول شملت فرنسا، ثم مدغشقر وساحل العاج ونيجيريا في إفريقيا؛ ثم سريلانكا ونيبال في جنوب آسيا خلال الفترة من 26 إبريل إلى 6 مايو الجاري، هذا بالإضافة إلى قيام وزراء خارجية كلٍ من المجر وتايلاند وغواتيمالا، بزيارات رسمية إلى اليابان يومي 21 و22 مايو أيضاً.

وكعادة الدبلوماسية اليابانية، سيطرت مجالات التعاون السلمية على بنود وأجندة هذه الجولات الدولية، ولكن هذه الزيارات لم تخلُ أيضاً من أهداف سياسية واستراتيجية يابانية تتلاءم مع المتغيرات التي تشهدها اليابان في محيطها الإقليمي على وجه خاص.

أهداف ونتائج جولة مسؤولي اليابان العالمية:

تؤمن اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية أن الدبلوماسية هي جسر التواصل الأكثر فاعلية، لزيادة مساحات المصالح المشتركة والربط بين السلام وإدارة عملية التنمية الدولية، وأنها المسار الحتمي للتعامل مع الصراعات على تنوعها. وعليه كان من الطبيعي أن تشمل الموضوعات الأساسية محل النقاش في اجتماعات وزيرة الخارجية مع نظرائها؛ المستويات السياسية الأعلى، الاقتصاد والتنمية والصحة والمرأة وقضاياها.

توقفت المسؤولة اليابانية عند مكتبات عامة وجامعات ومستشفيات ومراكز رعاية أمومة وعيادات متنقلة (مشروع يدعمه صندوق الأمم المتحدة للسكان)، علاوة على عقد لقاءات مع المقيمين اليابانيين وممثلي الأعمال والقيادات النسائية، ففي زيارتها لساحل العاج، كان اللقاء على المستوى الرئاسي ثم المشاركة في حفل إطلاق مشروع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، وفي نيجيريا، شاركت في فعالية حول المرأة والسلام والأمن؛ الأمر الذي جعل التنمية وقضاياها الإنسانية محور أجندة تلك الزيارة الإفريقية.

تعي القيادة السياسية اليابانية نقاط قوتها وميزتها التنافسية، كما تعي أيضاً المجالات التي ربما تمثل تحدياً إن أرادت تحقيق الصدارة دولياً؛ فقد ظلت اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ الدولة صاحبة السياسة الخارجية التعاونية الداعمة لنماذج تنموية صغيرة ومتوسطة. وفي هذا النطاق استخدمت اليابان أداة المساعدات الدولية لمد أواصر التعاون التنموي بالأساس، وهذا ما تم البناء عليه خلال الجولة العالمية لرئيس الوزراء ووزيرة الخارجية من ناحية إلقاء الضوء على المساهمة اليابانية الدولية في تلك المجالات، سواءً من خلال قنوات التعاون الثنائي أم من خلال تمويل منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها؛ إذ تأتي اليابان ضمن أكبر ممولي مشروعاتها.

وكما سبقت الإشارة، تناولت هذه الزيارات مجالات ربما لا تُعد استراتيجية بالمعنى التقليدي، ولكنها بكل تأكيد مجالات حققت فيها اليابان وجوداً دولياً ترسَّخ عبر سنوات، ومن ذلك ما يتعلق على سبيل المثال بدور المرأة، فالتعاون الياباني الإفريقي قد شهد من خلال آليات عديدة، على رأسها التعاون الثلاثي، إنشاء مراكز صحة وتدريب تَستهدِف الارتقاء بصحة المرأة. وتأتي هذه الزيارات رفيعة المستوى لتؤكد أن اليابان تتحدث عن أولويات إفريقيا وتعتني بها، وأنها صديق يُمكِن الاعتماد عليه، وهو ما حدث كذلك مع سريلانكا ونيبال؛ إذ شملت المحادثات في هاتين الدولتين الأولويات التنموية الرئيسية في قطاعات مثل: الزراعة والطاقة الكهرومائية وتطوير البنية التحتية.

وتعكس الجولة كذلك أهمية أحد محاور السياسة الخارجية، بل الداخلية أيضاً في اليابان، وهو الاعتماد الكبير على القطاع الخاص الياباني كشريك أساسي ومؤثر في تحقيق أهداف السياسة الخارجية اليابانية، بما يعكس كذلك القيم التي تعمل على أساسها تلك السياسة، والتي تعنى بالفرد وتؤكد مسؤوليته في الحفاظ على المصالح القومية اليابانية داخلياً وخارجياً؛ الأمر الذي ظهر من خلال اللقاءات مع الجاليات اليابانية في إفريقيا، واجتماع رئيس الوزراء الياباني أثناء زيارته للبرازيل مع المواطنين من أصول يابانية، والذين يُقدَّر تعدادهم بنحو 2 مليون فرد.

بمعنى آخر، ترى اليابان أن مساهمتها في تنفيذ أجندة التنمية المستدامة ساحة تستطيع أن تحقق الريادة العالمية فيها بَعد أن لُقبت اليابان -بحسب بعض المحللين- بالقوة البيئية العظمى. ومن خلال هذه الزيارات الرسمية تعود اليابان لترتكز على أداة المساعدات التنموية الرسمية تعزيزاً لحضورها الدولي وتوطيد شراكات وجبهات تعاون تتسع باتساع النظام الدولي، خاصة أن بعض تلك التحركات يزيد عمره على ثلاثين عاماً من خلال إطار مؤسسي مثل مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في إفريقيا "تيكاد"، الذي يعود تأسيسه إلى عام 1993.

اتصالاً بذلك، دعمت اليابان مشروعات زراعية كالأرز، وهو المحصول الاستراتيجي بالنسبة لليابان، فقد قدمت اليابان مشروعاً بحثياً حول (الأرز الجديد لإفريقيا) في غرب إفريقيا، يعتمد على تهجين أنواع الأرز الإفريقي، الذي يتسم بمقاومة الأمراض والجفاف، والأرز الآسيوي، الذي يتسم بالإنتاجية العالية، وهو مشروع تم تنفيذه بمساعدة من اليابان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات أخرى. وتؤكد اليابان من خلال تلك المشروعات حرصها على تقديم الدعم المباشر لتحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بمحاربة الجوع والفقر وتغيُر المناخ.

وامتداداً لتسليط الضوء على دور اليابان الاقتصادي، حلَّت قضايا الديون ضمن مباحثات كاميكاوا، أثناء زيارتها سريلانكا، فقد تناولت قضايا إعادة هيكلة ديون الأخيرة بطريقة شفافة، إضافة إلى التوقعات الخاصة باستئناف القروض بالين، خاصة إذا تعرض الأمر لخطوط التجارة اليابانية؛ إذ ناقش الطرفان إمكانيات تطوير اليابان ميناء ترنكومالي وميناء كولومبو، وأعربت الحكومة اليابانية عن دعم التطوير المستمر لموانئ سريلانكا باعتبارها ممراً رئيسياً لنقل البضائع، بل ويمكن استضافة سريلانكا سفينة متطورة يُتوقَّع أن تُمكِّن اليابان من الاطلاع على الخرائط البحرية؛ مما سيعزز قدرتها على التحكم في ممرات وتقاطعات مائية حيوية لليابان.

الأمن الياباني والعوائد المنتظرة على المدى المتوسط:

لا تقتصر قراءة الجولة الإفريقية الآسيوية اللاتينية لمسؤولي اليابان على تحقيق مكاسب مباشرة؛ ولكن يتطلع صناع السياسة الخارجية لتعظيم مصالح اليابان الاستراتيجية على المدى المتوسط، وربما الطويل، من خلال تعزيز الوجود والمشاركة الدولية، ولاسيما في دول الجنوب، التي طالما كانت، ولا تزال، ساحة للتنافس بين القوى الكبرى وحروب الوكالة، فحتى بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تنتهِ حالة التنافس ولكن تغيَّر المتنافسون.

لذلك يُلاحَظ أن اليابان تعيد استخدام تقسيم العالم إلى شمال وجنوب، محاولةً فرض السيطرة والتفوق، أملاً في تعزيز تنافسها مع الصين من جهة والاستفادة من ثقل تلك الكتلة؛ أي كتلة الجنوب من جهة أخرى، مثل حالة نيبال وسريلانكا اللتين شملتهما الزيارة الأخيرة، واللتين تقعان بين النفوذ الصيني والهندي؛ لهذا تدعم اليابان تنمية الدولتين؛ الأمر الذي يخدم مساعيها أو محاولاتها على الأقل لتطويق الصين.

بالتالي، تسعى اليابان من خلال زياراتها الرسمية إلى البحث عن أصدقاء وحلفاء في كل مكان لمواجهة توترات العلاقات الآخذة في الاشتعال في جوار اليابان الجغرافي المكتظ بالفعل بصراعات وتنافسات كبيرة.

تأتي الصين بطبيعة الحال على قمة القوى المنافسة لليابان، مع وجود ساحات مختلفة لمواجهة النفوذ الصيني الذي يتزايد في قطاعات البناء والتنمية في إفريقيا وآسيا، لذلك لم تغفل اليابان دولة نيجيريا كمصدر للطاقة التقليدية المهمة لليابان، إذ لا تخلو المنافسة مع الصين من التنافس على أسواق الطاقة، مثلما رأينا في تفوق الصين على اليابان في شهر إبريل الماضي كأكبر سوق للفحم في أستراليا؛ الأمر الذي فسرته اليابان بأنه تحسنٌ في العلاقة الأسترالية مع الصين.

وفي إطار سياسة الدفاع اليابانية الجديدة، رأت الحكومة اليابانية ضرورة بناء قوة دفاع أكثر فعالية تتكيف مع الظروف وتعمل بسلاسة وتقوم ببناء "قوة دفاع مشتركة ديناميكية"، وهو التوجه الذي بدأ قبل عشر سنوات؛ إذ أنشأت قوات الدفاع الذاتي البرية قيادة مركزية برية لتوفير قيادة موحدة على مستوى الدولة للجيوش الإقليمية، لتسهيل العمليات المشتركة والعمليات الثنائية بين اليابان والولايات المتحدة. كما تعزز اليابان الإجراءات الثلاثة الرئيسية في الجزر النائية بما يشمله ذلك من: الدفاع الذي يتمثل في "وحدات التمركز المسبق"، و"وحدات النشر السريع"، و"استعادة الجزر التي تم غزوها".

لكن يبدو أن تلك التطورات ذات العشر سنوات لم تكن كافية؛ إذ أدركت اليابان أهمية التنسيق الإقليمي والدولي، وأن التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية ربما لن يكون مسعفاً أو منقذاً بما فيه الكفاية من اللحظة الأولى في كل الأحوال.

هذا الإطار العام للأمن الياباني قد رسم الزيارات الرسمية الأخيرة من حيث تنويع الشراكات اليابانية، خاصةً مع تعقُّد مواجهة اليابان مع كوريا الشمالية ومع روسيا مؤخراً، وسيطرة حالة من عدم التكافؤ تواجهها اليابان مع جار كوري شمالي يرى أن تطوير قدراته العسكرية أساس "المواجهة العسكرية المتهورة للأعداء" و"تعزيز الردع في الحرب النووية".

النظام القيمي الياباني لا يمكن فصله أو استبعاده، فالدفاع أساس للحفاظ على مسار السلم في التعامل مع الصراعات. وتتطلع اليابان على المدى المتوسط لكسب تأييد الأصدقاء للفوز بعضوية مجلس الأمن الدائمة، محاولة إظهار مساعيها لتحقيق قيادة دولية بعد أن قدمت الدعم لقضايا ذات أولوية عالمية كالتنمية المستدامة.

في الإطار ذاته، لا ترضى اليابان عن الأسلوب الأمريكي الذي يجنح لاستخدام القوة دائماً أو على الأقل التلويح بها، فقد اختبرت كوريا الشمالية إطلاق صواريخ بالستية قصيرة المدى باتجاه بحر اليابان، وذلك بعد يوم من إجراء تدريبات مشتركة بين الولايات المتحدة والجار الكوري الجنوبي، باستخدام طائرات مقاتلة خفية لمحاكاة القتال الجوي؛ ومن ثم تأتي الاستفزازات الكورية الشمالية كرد فعل لإجراءات عسكرية أمريكية؛ وهو الأمر الذي لا تحبذه السياسة اليابانية؛ أي اللجوء للقوة العسكرية.

لا يُعد الردع الصيني والكوري الشمالي الهدف غير المباشر الوحيد للزيارات الخارجية اليابانية المكثفة، وإنما هناك الدب الروسي أيضاً الذي يُعد مصدر التهديد الأساسي للحليف الأمريكي، ولا تخفى حالة القلق التي انتابت الأوساط اليابانية بعد إعادة انتخاب الرئيس بوتين في إطار من الفخر والثقة الفائقة من تحقيق الانتصار على حد تعبير الأخير. ومن المرجح أن يتزايد الاحتكاك بين اليابان وروسيا في خضم الحرب الأوكرانية الدائرة. على سبيل المثال، حظر الكرملين السفن غير الروسية من دخول المياه القريبة من جزر الكوريل (المعروفة في اليابان بالأراضي الشمالية) التي تحتلها روسيا حالياً ولكن اليابان تطالب بها. وفي كل مرة تقوم طوكيو بشيء أكبر لمساعدة أوكرانيا أو لتعزيز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، تتخذ موسكو بعض الإجراءات لمعاقبة اليابان.

ختاماً، على الرغم من أن ترتيب أهمية ووزن الأقاليم وفقاً لأولويات السياسة الخارجية اليابانية مُعلَنٌ رسمياً، ويبدأ بآسيا وينتهي بإفريقيا، فإن الزيارات الأخيرة تدل على تغيُّر تدريجي من صانع القرار والحكومة اليابانية (التي يترأسها وزير خارجية سابق) بتبني سياسة خارجية قائمة على تنويع الشراكات واستغلال جميع الفرص وتحويل الرصيد التعاوني الياباني إلى فرص مستقبلية؛ إذ يتزامن ذلك التغيُّر مع تغيُّرات أخرى فرضتها تحديات البيئة الإقليمية والدولية.

لقد أدت تلك التحديات إلى تغيُّرات في العقلية اليابانية التي اعتادت الشعور بالأمان مع الحماية الأمريكية منفردة. واتخذت هذه التحولات اليابانية خطواتها الأولى منذ سنوات، كما هو الحال مثلاً بالنسبة لتعديل طبيعة قوات الدفاع الذاتي اليابانية، وموافقة مجلس الوزراء في ديسمبر 2023 على أكبر ميزانية دفاعية على الإطلاق، وموافقته كذلك على تخفيف قيود التصدير بما يسمح لليابان بتوريد أسلحة وذخائر فتاكة كاملة إلى دول أخرى في ظل ظروف معينة... وكلها تطورات تدل على صعوبة البيئة المحيطة باليابان ما بين تحديات أمنية إقليمية وتحديات اقتصادية واجتماعية داخلية وتحديات دولية بصراعات وتنافسات متزايدة فرضت تنويع وتوسيع نطاق شراكات؛ أو هي تغيرات ربما لن تؤتي أُكلها اليوم، ولكنها بكل تأكيد تحدث تراكمات تدريجية ستدعم مواجهة اليابان لتحدياتها ومساعيها إقليمياً ودولياً، كما قد تعيد رسم خريطة أولويات حلفاء اليابان ولو بعد حين.