• Login

انعكاسات مُحتملة:

هل تؤثر التُّهم الأوروبية للصين بالتجسس في علاقات الطرفين؟

13 May 2024


في خطوة تأخرت كثيراً من جانب أوروبا، كشفت بعض دول القارة العجوز، في الثلث الأخير من إبريل 2024، عمّا اعتبرته قضايا تجسس تورط فيها مواطنون أوروبيون لصالح الصين. فقد أعلنت ألمانيا، في 23 إبريل، عن توقيف مساعد لنائب ألماني في البرلمان الأوروبي للاشتباه في قيامه بنقل معلومات إلى الصين. وذلك بعد يوم من اعتقال ثلاثة ألمان، بتهمة نقل تكنولوجيا عسكرية إلى بكين. وفي توقيت مُتزامن، اتهمت بريطانيا رجليْن، عمل أحدهما باحثاً في البرلمان البريطاني لصالح نائب بارز في حزب المحافظين الحاكم، بالتهمة ذاتها. وهو ما يعكس قلقاً مُتنامياً في أنحاء أوروبا إزاء ما يُنظر إليه بأنه أنشطة تجسسية صينية.

دوافع التُّهم:

تضمنت ادعاءات التجسس التي وجهتها بعض الدول الأوروبية الرئيسية مؤخراً ضد الصين، العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ الأمر الذي يفسر ما انطوت عليه التُّهم الأوروبية الأخيرة من عوامل واعتبارات، تدفع الصين، من وجهة النظر الأوروبية، للتجسس على دول القارة العجوز، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1. تُهم متنوعة الأبعاد: تُشير قضايا التجسس، وكذلك بعض التقارير الاستخباراتية التي أصدرتها بعض الدول الأوروبية، إلى أن ما يُنظر إليه على أنه أنشطة تجسس صينية، لا يقتصر على مجال محدد، وإنما يتسم بالتنوع والشمول؛ إذ يشمل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهو ما يعكس –إن ثبتت صحته-  سعي بكين إلى ممارسة أكبر قدر ممكن من التأثير والنفوذ في أوروبا.

فالمواطن الألماني الذي تم اعتقاله في مدينة دريسدن، ويعمل لدى ماكسيميليان كراه، النائب في البرلمان الأوروبي، مُتهم بنقل معلومات عن قرارات وسياسات البرلمان الأوروبي إلى الصين، ويُشتبه أيضاً في تجسسه ضد المعارضين الصينيين في ألمانيا.

كذلك، قام المُتهم البريطاني الذي عمل باحثاً في البرلمان البريطاني لصالح نائب بارز في حزب المحافظين الحاكم، بتقديم معلومات سرية للصين، كما وتضمنت إحدى القضايا التي كشفت عنها السلطات الألمانية مؤخراً، اتهام ثلاثة مواطنين ألمان بالحصول على معلومات تتعلق بالتكنولوجيا العسكرية الألمانية لنقلها إلى الصين.

2. التأثير في العملية السياسية بأوروبا: تهدف عمليات التجسس المشتبه في قيام الصين بها، إلى محاولة التأثير في عملية صنع القرار السياسي في أوروبا والدول المستهدفة من التجسس الصيني، من خلال معرفة ما الذي تفكر به هذه الدول فيما يتصل بعلاقاتها وسياساتها تجاه الصين. ومما يؤكد ذلك، طبيعة الأشخاص المستهدفين من هذه العمليات، وهم من الشخصيات السياسية ذات الصلة بصناعة القرار في هذه الدول.

فقد حذّر رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، مما وصفه بأنه محاولات الصين للتدخل بهدف التأثير في الديمقراطية البريطانية، في إشارة إلى محاولات بكين التأثير في السياسيين البريطانيين. فيما اعتبرت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، أن ثبوت تُهم التجسس، سوف يُعد بمثابة اعتداء على الديمقراطية الأوروبية من الداخل.

ويذهب البعض إلى أن الصين تحاول، عبر الوصول إلى المجال السياسي وشركات التكنولوجيا والجامعات والمغتربين، التلاعب بالعمليات السياسية في أوروبا، من خلال قادتها وناخبيها، وذلك في إطار سعيها لتأسيس نظام عالمي جديد تعمل بكل إصرار على تكوينه؛ إذ يتم النظر إلى عمليات التجسس الصينية على أنها محاولة للتأثير أيضاً في العملية الانتخابية على المستوى الأوروبي.

3. الحصول على أسرار التكنولوجيا العسكرية: يتمثل أحد أهداف التجسس الصيني المزعوم ضد أوروبا، كما كشفت عنه القضايا الأخيرة، وبعض التقارير الاستخباراتية الأوروبية، في الحصول على أسرار التكنولوجيا العسكرية الأوروبية ونقلها إلى الصين؛ إذ تضمنت تُهم التجسس الأخيرة اتهام ثلاثة ألمان بالتورط في نقل معلومات حساسة حول أنظمة الدفع البحرية الألمانية، ذات القيمة الكبيرة للصين التي تقوم ببناء قواتها البحرية، فضلاً عن شراء ليزر عالي الطاقة مزدوج الاستخدام وتصديره إلى الصين دون إذن.

كذلك، حذّر جهاز مكافحة التجسس العسكري الألماني، في يوليو 2023، من زيادة عمليات التجسس على القوات المسلحة الألمانية من جانب روسيا والصين. كما أشار جهاز الاستخبارات العسكرية الهولندي، في إبريل 2023، إلى أن الصين تتجسس ضد هولندا بهدف تعزيز القدرات العسكرية الصينية، عبر الحصول على المعلومات المرتبطة بصناعة أشباه الموصلات والتكنولوجيات الكمية والصناعات الجوية والبحرية. فضلاً عن اختراق شبكات الكمبيوتر الداخلية لوزارة الدفاع الهولندية. وهي المرة الأولى التي تعلن فيها هولندا تورط الصين في نشاط تجسس إلكتروني مع تزايد التوترات المرتبطة بالأمن القومي بين الدولتين.

4. التأثير في الأمن الاقتصادي لأوروبا: يتمثل أحد دوافع التجسس الصيني المزعوم، من وجهة النظر الأوروبية، في محاولة التأثير في الأمن الاقتصادي للقارة العجوز، فقد أكدت شركة "فولكس فاغن" الألمانية لصناعة السيارات قيام قراصنة إلكترونيين صينيين بالاستيلاء على أكثر من 19 ألف وثيقة حساسة على مدى أربع سنوات، بدءاً من عام 2010.

وعلى الرغم من أنها تُعد شريكاً تجارياً مهماً لهولندا، فإن الصين تُشكل، وفقاً لتقديرات الاستخبارات الهولندية، أكبر مهددات الأمن الاقتصادي الهولندي، عبر استهداف شركات ومعاهد التكنولوجيا المتقدمة الهولندية، من خلال "صفقات الاستحواذ على الشركات والتعاون الأكاديمي وأنشطة التجسس الرقمي غير المشروعة، والمصادر الداخلية، والاستثمارات السرية والصادرات غير القانونية".

دلالات مُهمة:

تعكس التُّهم الأخيرة من جانب بعض القوى الأوروبية الرئيسية للصين بالتجسس عليها، العديد من الدلالات المهمة، ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:

1. تحوّل في الموقف الأوروبي تجاه الصين: لطالما حرصت أوروبا على أن تظل ردود أفعالها إزاء ما يُنظر إليه على أنه عمليات تجسس من جانب الصين، في طي الكتمان وألا تخرج من دائرة السرية إلى العلن. غير أن هذا الموقف طرأ عليه تحوّل جوهري في الآونة الأخيرة، وذلك بخروج التُّهم الأوروبية للصين بالتجسس عليها من دائرة الكتمان والسرية إلى دائرة العلن، وذلك للمرة الأولى، وهو ما يعكس القلق المتزايد من جانب الدول الأوروبية إزاء ممارسات التجسس الصينية، والتي شهدت تنامياً ملحوظاً في الفترة الأخيرة. وقد أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية مؤخراً إلى هذا الأمر؛ إذ أشارت إلى أن ردود أوروبا على ما يُشتبه في أنه عمليات تجسس من قبل الصين يعكس تحوّلاً في موقف التكتل الأوروبي تجاه قوة عظمى لطالما اعتمدت على الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا، للرد على ما تصفه بكين بأنه "ضجيج مناهض للصين" صادر عن واشنطن.

2. احتمال وجود تنسيق ألماني بريطاني لاستهداف الصين: يلاحظ أن مزاعم التجسس الصينية ضد أوروبا، جاءت في وقت متزامن تقريباً من جانب ألمانيا وبريطانيا، وهو ما قد يشير إلى احتمال وجود تنسيق بين الدولتين بشأن إثارة تلك الادعاءات في توقيت متزامن، وهو ما يسمح لهما بتقاسم المخاطر، كما أن ذلك ربما يشير إلى وجود رغبة لدى الدولتين في إثبات أن ما يُشتبه في أنها قضية جواسيس للصين في أوروبا لا تُعد مشكلة منعزلة، وإنما تعتبر مشكلة عامة تشمل دولاً متعددة في أوروبا ولا تقتصر على هاتين الدولتين فقط، وأنه لا توجد دولة أوروبية بمنأى عن التعرض لعمليات تجسس من جانب الصين.

وهو ما قد يشير إلى احتمال سعي الدولتين إلى قيادة الجهود الأوروبية الرامية إلى تبني مواقف أكثر حزماً وتشدداً تجاه عمليات التجسس المزعومة من جانب الصين ضد أوروبا؛ الأمر الذي ربما يشجع دولاً أوروبية أخرى تتعرض لعمليات تجسس صينية للكشف بصورة علنية عن تلك العمليات.

3. تمدد وتوسع التجسس الصيني في أوروبا: تعكس قضايا التجسس التي تم توجيهها مؤخراً إلى الصين في ألمانيا وبريطانيا، والتي تم الكشف عنها في الثلث الأخير من إبريل 2024، في أحد أبعادها، وجود مساعي من جانب بكين لنشر شبكة كبيرة من الجواسيس في قارة تفتقر إلى الاستعدادات الكافية لمواجهة مساعي التجسس الصينية. وعلى الرغم من عدم وجود ارتباط بين القضيتين اللتين كشفت عنهما برلين ولندن مؤخراً، فإنهما تشيران إلى قيام الصين بتوظيف إمكانات كبيرة للتأثير في الرأي العام الأوروبي، والتجسس على الاقتصادات والشركات واختراق المؤسسات والكيانات التعليمية.

وهو ما يمكن أن يشير إلى أن الصين تقوم بعمليات تجسس تشمل جميع أراضي ومناطق القارة العجوز بكاملها؛ وبالتالي، يتطلب الأمر ضرورة انتباه السلطات الأمنية والاستخباراتية في دول القارة واستنفارها لمواجهة التجسس الصيني. ولاسيما في ظل المخاوف حيال انتقال الصين من التركيز على عمليات التجسس الاقتصادي والتجاري إلى محاولة التأثير في العمليات السياسية للنظم الأوروبية، كالانتخابات وعملية صنع القرار في المؤسسات السياسية، وذلك على غرار ما تقوم به روسيا.

رد بكين والتداعيات المحتملة:

تُقابل الصين ما يُثار بشأن قيامها بالتجسس على الدول الأوروبية بردود حاسمة، خاصة وأن هذه التُّهم تترتب عليها تداعيات محتملة على الجانبين الأوروبي والصيني، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1. رفض الصين للتُّهم الأوروبية: نددت بكين بما اعتبرته "افتراءً" ضدها من جانب الدول الأوروبية، ولاسيما ألمانيا وبريطانيا وغيرها من دول القارة العجوز، كما نفت كافة ما وصفته بأنه مزاعم التجسس الصيني، واعتبرت على لسان متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، أن نظرية التهديد بتجسس صيني مزعوم ليست أمراً جديداً لدى الرأي العام الأوروبي، مؤكدة أن الهدف وراء إثارة مثل تلك المزاعم هو التأثير في التعاون الإيجابي بين الصين وأوروبا.

كما نفت الصين تُهم برلين بالتجسس عليها، ورأت أنها تهدف إلى محاولة تشويه سمعة الصين والتشهير بها للقضاء على التعاون بين الصين وأوروبا. وأعربت عن الأمل في أن يتخلى المسؤولون الألمان عن نهج الحرب الباردة، والتوقف عن استخدام ما يُسمى خطر التجسس للانخراط في ألاعيب سياسية مناهضة للصين.

2. التشدد الأمني الأوروبي ضد الصين: يُتوقع أن تؤدي التُّهم الأوروبية الأخيرة للصين بالتجسس على أوروبا إلى توجه الدول الأوروبية نحو فرض مزيد من القيود الأمنية على الصين، ولاسيما فيما يتصل بمعدات التكنولوجيا الحديثة. فعلى سبيل المثال، تبنى مجلس العموم البريطاني مشروع قانون يحظر استخدام تكنولوجيا المراقبة الصينية في المؤسسات الحكومية والمنشآت العسكرية البريطانية.

كما فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على مواطنين صينيين ومؤسسة صينية تعمل في مجال الأمن الرقمي، على خلفية تُهم بالتجسس والقيام بهجمات إلكترونية تستهدف النظام الانتخابي البريطاني. كذلك، قد تؤدي قضايا التجسس الأخيرة التي كشفت عنها ألمانيا، إلى تعزيز مطالب وكالات الاستخبارات الألمانية بمنحها المزيد من السلطات في مواجهة تنامي التسلل الأجنبي العدائي إلى ألمانيا.

3. تأثير محدود في العلاقات الأوروبية الصينية: على الرغم من التوتر الذي تشهده العلاقات بين الصين وأوروبا بين الحين والآخر، ولاسيما على خلفية الممارسات الاقتصادية والتجارية المتبادلة بين الجانبين، فإنه لا يُتوقع أن تؤدي القضايا الأخيرة بشأن التجسس الصيني المزعوم ضد أوروبا إلى التأثير بدرجة كبيرة في علاقات الطرفين. وذلك في ظل حاجة الطرفين إلى بعضهما بعضاً، فأوروبا تحتاج إلى الأعمال التجارية والاستثمارات الصينية، فيما تحتاج بكين إلى شركاء تجاريين وأصدقاء في مواجهة المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الصيني، والعلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة. كما أنه من النادر أن تؤدي عمليات التجسس إلى إحداث تغيير كبير في طبيعة العلاقات فيما بين الدول. ومن هنا، فمن المتوقع أن يكون للتُّهم الأوروبية الأخيرة ضد الصين صدى محدود على العلاقات بين الجانبين، وسرعان ما ستهدأ الأزمة الناجمة عن تلك التُّهم وسيتم حلها بينهما عبر القنوات الدبلوماسية.

4. احتمال اتهام مواطنين أوروبيين بالتجسس ضد الصين: يتمثل أحد التداعيات المحتملة على مزاعم التجسس التي أعلنتها أوروبا مؤخراً ضد الصين، ولاسيما من جانب ألمانيا وبريطانيا، في احتمال قيام بكين بتوجيه تُهم بالتجسس إلى مواطني الدولتين، وهو النهج الذي لطالما لجأت إليه بكين للرد على التُّهم التي توجه إليها بالتجسس من جانب الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، ورداً على قيام بريطانيا باتهامها بالتجسس ضدها، اتهمت بكين، في يناير 2024، جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية، المعروف باسم (MI6)، بتجنيد مواطن أجنبي في الصين للتجسس لصالح بريطانيا.

وفي التقدير، يمكن القول إنه على الرغم مما تنطوي عليه التُّهم الأخيرة، ولاسيما من جانب ألمانيا وبريطانيا، للصين بالتجسس ضد أوروبا، من دلالات على حدوث تحوّل في الموقف الأوروبي لجهة التشدد ضد الصين بالكشف علناً عن تورط محتمل لبكين في التجسس السياسي والاقتصادي والعسكري على دول القارة العجوز، وتمدد الأنشطة الاستخباراتية الصينية داخل دول القارة، فإن تلك التُّهم لن تؤثر بدرجة كبيرة في العلاقات القوية بين أوروبا والصين، وسيكون تأثيرها محدوداً، على الرغم من تباين الطرفين في توصيف طبيعة العلاقات بينهما.