سرديات النفوذ:

الدبلوماسية الإعلامية الصينية تجاه الصراعات الدولية

20 January 2024


عرض: بسنت عادل

تخيّل عالماً تتحوّل فيه الكلمات إلى رصاصات تنطلق لتشكل معارك إعلامية بين الدول، هذا هو عالم الدبلوماسية الإعلامية الجديد، إذ تتنافس القوى العظمى على بناء الأخبار، بما يخدم مصالحها ويعزّز صورتها وسردياتها. وفي ظل هذه "الحرب الباردة الإعلامية"، تبرز الصين كفاعل أساسي يسعى إلى فرض رؤيته على الساحة الدولية، مستغلّة تطور تكنولوجيا الإعلام لبناء شبكاتها الخاصة من القنوات الإخبارية ومنصات التواصل، فهل ستنجح الصين في استخدام "سلاح" الإعلام لتحقيق طموحاتها السياسية والاقتصادية؟

يستكشف كتاب "الصين.. الإعلام.. والصراعات الدولية" الصادر في عام 2023 الإجابة عن ذلك التساؤل عبر تسليط الضوء على استراتيجيات الدبلوماسية الإعلامية الصينية، مقدماً منظوراً مغايراً للنظرة الغربية المعتادة للصراعات الإعلامية في العصر الرقمي. الكتاب من تأليف البروفسور شيتشين آيفي شانغ، أستاذة مشاركة في دراسات الصحافة، في جامعة نوتنغهام نينغبو بالصين، والبروفسور ألتمان يوزهو بينغ، أستاذ مساعد في الاتصال بين الثقافات في جامعة وارويك بالمملكة المتحدة، بالتعاون مع عدد من الباحثين من مختلف الدول. 

واعتمد مؤلفا الكتاب في تحليل التغطية الإعلامية للصراعات المختلفة، على الإطار الاستراتيجي، الذي يركز على الدوافع والأهداف الاستراتيجية للدول، والإطار المفاهيمي الذي يركز على السياسات والقضايا الموضوعية التي تؤدي إلى الصراع.

الصراعات من منظور صيني:

يناقش الكتاب كيف تستخدم بكين وسائل الإعلام لتشكيل سردياتها حول الصراعات، بشكل يعزز قوتها ونفوذها على الساحة الدولية، إذ يسلط الضوء على موقف الإعلام الصيني من الصراع التجاري لبكين مع واشنطن، والذي بدأ في مارس 2018، إذ اتخذت وسائل الإعلام الصينية موقفاً متحيزاً لصالح الدولة، وركزت على إظهار أن بكين الطرف الأقوى في الصراع، وأن الصراع التجاري يضر بالاقتصاد الأمريكي في المقام الأول.

فوفقاً لدراسة تحليلية بالكتاب أجريت على 240 تقريراً إخبارياً من أربع مؤسسات إعلامية صينية تتراوح بين الحكومية والمستقلة، فإن وسائل الإعلام الصينية، بغض النظر عن توجهها السياسي، استخدمت إطارين رئيسيين في تغطيتها للصراع التجاري، الأول، يركز على السياسات التجارية التي تتخذها الصين والولايات المتحدة، مثل: فرض الرسوم الجمركية، والثاني، يركز على التأثيرات السلبية للصراع التجاري في الاقتصاد الأمريكي. وخلص الباحثون إلى أن وسائل الإعلام الصينية الحكومية كانت أكثر اهتماماً بإطار سياسة الرسوم الجمركية أكثر من إطار التأثير في الولايات المتحدة، بسبب أهمية التجارة بالنسبة للصين، بينما تركز وسائل الإعلام المستقلة بشكل أكبر على تأثير الصراع في كلا البلدين.

أما القضية الثانية بالكتاب، فتتعلق بالتخوف من توسع حلف "الناتو"، كأداة أمريكية في آسيا. ففي ظل صعود الصين الاقتصادي والعسكري وتزايد نفوذها الدولي، أصبح لها حضور سياسي في المناقشات السياسية داخل حلف "الناتو". وفي دراسة حديثة، أجريت على 125 منشوراً داخل منصة "تشيهو"، وهي أكبر منصة للأسئلة والأجوبة في الصين، وجد أن رواد المنصة ينظرون إلى حلف "الناتو" نظرة سلبية وانتقادية.

ووفقاً للدراسة، يعتقد مستخدمو منصة "تشيهو" أنه بالرغم من أن "الناتو" تأسس في الأصل للدفاع عن أوروبا، فإنه تحول الآن إلى أداة للولايات المتحدة تتحكم في قراراته وتوجهاته لتعزيز نفوذها في العالم، كما يعتقدون أن "الناتو" يسعى إلى تطويق الصين ومنع صعودها مما يُشعرهم بالقلق من توسع الحلف في آسيا. ورغم أنه لا يمكن تعميم النتائج على كافة جوانب الرأي العام داخل الصين، فإن رواد منصة "تشيهو" يمثلون الطبقة الوسطى الصينية، والتي تؤدي دوراً مهماً في التوجهات السياسية للبلاد.

أما القضية الثالثة بالكتاب، فتتعلق بإحياء ذكرى حرب "مقاومة العدوان الأمريكي" في كوريا لتعزيز شرعية النظام الصيني، والتي انتهت بهدنة في عام 1953. ويناقش الكتاب كيف يتم استدعاء ذكرى الحرب وإعادة تأطيرها كوسيلة لتوحيد المشاعر القومية المحلية ضد العداء الأمريكي. وبناءً على تحليل التقارير الإعلامية من صحيفتي "الشعب اليوم" و"جيش التحرير الشعبي اليومية"، فقد استخدمت وسائل الإعلام الصينية الرسمية الحرب الكورية لتعزيز الشرعية السياسية للحزب الشيوعي الصيني في الداخل والخارج، ولتشكيل صورتها، كقوة عظمى مسؤولة قدمت تضحيات من أجل إنقاذ دولة أخرى.

ورغم إيمان الصين بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، فإنها لم تعرض حرب "مقاومة العدوان الأمريكي" ومساندة كوريا على أنها تدخل خارجي، كما صورت وسائل الإعلام غير الرسمية الصينية الحرب الكورية على أنها صراع بين الإمبريالية الأمريكية والاشتراكية الصينية، باعتبارها دفاعاً للصين عن العدالة.

ناقش الكتاب أيضاً قضية رابعة تتعلق بدعم الإعلام الصيني لموقف بكين في النزاع مع اليابان على جزر ديايو/سينكاكو. إذ تدَّعي الصين أن تلك الجزر تقع ضمن مياهها الإقليمية، وترفض الاعتراف بسيادة اليابان عليها، وتصاعدت التوترات بين البلدين بشأن هذه الجزر عِدة مرات أبرزها عام 2012 حين أعلنت الحكومة اليابانية "تأميم الجزر".

وبتحليل وسائل الإعلام الصينية التقليدية عقب هذا التاريخ مثل: وكالة شينخوا، صحيفة الشعب، وتلفزيون الصين المركزي، وجد الباحثون أن وسائل الإعلام الصينية أظهرت موقفاً متشدداً تجاه اليابان، وركزت على تصوير اليابان كدولة عدوانية، وتحميلها المسؤولية عن تصعيد النزاع، بينما حاولت بعض الصحف التجارية الصينية ذات التوجه الليبرالي تقديم وجهة نظر أكثر تعقيداً للنزاع، لكنها كانت محدودة بسبب القيود المفروضة عليها من قبل الحكومة الصينية. ومن ثم نجد أن الصين تسعى إلى تعزيز موقفها التفاوضي ونفوذها في المنطقة، وتستخدم وسائل الإعلام لتشجيع الرأي العام الصيني على دعم موقف الحكومة، ولإقناع الدول الأخرى بحق الصين في الجزر.

الرؤية الإعلامية الخارجية للصين: 

يعكس الكتاب رؤية الإعلام الخارجي تجاه موقف الصين من بعض الصراعات الدولية، ويعزو ذلك إلى مجموعة عوامل، منها، طبيعة الصراع والمصالح المتضاربة للقوى الدولية المختلفة. ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى أن تكون فاعلاً رئيسياً على المسرح العالمي، فإن عليها أن تدرك أن موقفها من بعض الصراعات الدولية سيكون له تأثير في صورتها في العالم. ومن أبرز ملامح ذلك ما يلي:

- الموقف الإيجابي للإعلام الفلسطيني تجاه الصين، تتمتع الصين بعلاقات قوية مع فلسطين منذ عقود، إذ تدعم حل الدولتين وتمنح الدعم المالي للحكومة الفلسطينية، ويرجع ذلك إلى قيم الصين الأخلاقية التي تدعم التخلص من الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن مصالحها السياسية إذ تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، نظراً لمصالح الصين الاقتصادية في المنطقة. وأكدت دراسة أجراها الباحثون على عدد من الأخبار الإلكترونية الفلسطينية خلال الفترة من 2020 إلى 2021، خاصة في أوقات سياسية حرجة بفلسطين، مثل: "صفقة القرن" لترامب والاشتباكات في حي الشيخ جراح بالقدس، أن وكالات الأنباء الفلسطينية الرئيسية، سواءً الحكومية أم الخاصة صورت الصين بشكل إيجابي في أخبارها وتتوافق هذه الصورة مع نظرة الفلسطينيين للصين كقوة عالمية صديقة. وبرغم زيادة العلاقات الاقتصادية بين الصين وإسرائيل فإنها لم تؤثر في صورة الصين في الأخبار الفلسطينية.

- انتقاد الإعلام الغربي لموقف الصين تجاه سوريا، يشير الكتاب إلى أن مشاركة الصين في الأزمة السورية تعكس تحولاً في سياستها الخارجية من التركيز على المكاسب الاقتصادية البحتة إلى تعزيز الدعم السياسي مع صعودها إلى مرتبة دولة عظمى، وذكر أن موقف الصين في الأزمة السورية يستند إلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو مبدأ يُنظر إليه على أنه تعبير عن احترام السيادة الوطنية، والبقاء بعيداً عن النزاعات المسلحة، إذ تمكنت الصين من استخدام حق "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع إصدار قرار يدين النظام السوري أو يفرض عليه عقوبات، منعاً لتكرار نفس سيناريو الأزمة الليبية التي تم فيها إيجاد غطاء شرعي لإسقاط نظام القذافي والسماح بالتدخل العسكري من خلال استصدار قرارات من مجلس الأمن. 

كما عملت الصين على الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، ومع ذلك، فقد تعرض هذا الموقف لانتقادات من الإعلام الغربي الذي يرى بأن تصرف الصين تجاه القضية السورية لا يتناسب مع محاولة قيامها بدور قوة عظمى في الشرق الأوسط، خاصةً في مواجهة الأزمات الإنسانية والنزاعات المسلحة في سوريا.

تفاوتات المواقف الإعلامية:

يُبرز الكتاب مدى تفاوت الرؤى الإعلامية بين الشرق والغرب تجاه بعض الصراعات الدولية، ويستكشف كيف تتباين المواقف بين الصين والعالم الغربي في مواجهة الأحداث العالمية الراهنة، ويتضح ذلك بصورة أكبر في الصراعات التالية:

- الصراع الروسي الأوكراني، سلط الكتاب الضوء على دور الإعلام الصيني في تغطية الصراع الروسي الأوكراني، ففي البداية، عكست تصريحات وسائل الإعلام الصينية تبنيها للمواقف الروسية وتوجهها المُعادي لأوكرانيا وحلفائها الغربيين، إذ اتهمت وسائل الإعلام الصينية أوكرانيا بالتخطيط للانضمام إلى "الناتو"، وهو ما اعتبرته الصين تهديداً لأمنها القومي، كما ركزت الصين على الهجمات التي شنتها القوات الأوكرانية على المدنيين في دونباس، ووصفتها بأنها "إبادة جماعية".

 مع تطور الأزمة، تغيرت نبرة الصين الإعلامية لتصبح أكثر مرونة، وبدأت تُظهر رغبتها في حل الأزمة بشكل سلمي، وفي تقديم صورة أكثر توازناً؛ لإدراكها أن النظرة المتشددة تجاه أوكرانيا تؤثر في علاقتها مع الغرب. ويشير الكتاب إلى دراسة أثبتت أن وسائل الإعلام الأوروبية تميل إلى تأطير الصراع في أوكرانيا من منظور الصراع بين الغرب والشرق، بينما وجدت دراسة أخرى أن وسائل الإعلام الروسية تميل إلى تأطير الصراع في أوكرانيا من منظور الصراع بين روسيا والغرب.

- قضية أقلية الإيغور، يشهد إقليم شينجيانغ، الذي يقع غربي الصين، صراعاً عرقياً بين الأغلبية الصينية وأقلية الإيغور المسلمة، ووجهت العديد من وسائل إعلام الجهات الدولية الأوروبية والأمريكية تُهماً للصين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد الإيغور. من جانبها، أعلنت الصين من خلال وسائل الإعلام الرسمية أنها تواجه تهديداً إرهابياً من قبل جماعات متشددة إيغورية، كما تؤكد أن معسكرات الاعتقال هي مراكز إعادة تأهيل، وأن التدابير المتخذة ضد الإيغور ضرورية للحفاظ على الأمن القومي الصيني.

إلا أن المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين تؤدي دوراً مهماً في تأجيج الموقف، فالولايات المتحدة، التي تسعى إلى الحد من صعود الصين، توظف قضية شينجيانغ لتصوير الصين على أنها دولة عدوانية لا تحترم حقوق الإنسان، في المقابل، تسعى الصين إلى حماية صورتها الدولية، وترى أن اتهامها بارتكاب إبادة جماعية هو حملة تشويه تهدف إلى تقويض قوتها وتعتبره تدخلاً في شؤونها الداخلية.

ختاماً، يمكن القول إن الدبلوماسية الإعلامية للصين هي استراتيجية نشطة تستخدمها الصين بما يحقق أهدافها السياسية أو الاقتصادية أو بما يخدم مصالحها وأهدافها مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وملف الصراع حول جزر ديايو/سينكاكو مع اليابان، والحد من توسع حلف "الناتو" في آسيا، أو بما يعزز صورتها كقوى عظمى مثل: إحياء ذكرى حرب مقاومة العدوان في كوريا، كما تضمن الكتاب عرضاً لموقف وسائل الإعلام الدولية من الصين في بعض الصراعات، مثل: الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية، بما يعكس القيم والمصالح الخاصة بالصين في كل قضية.

المصدر: 

Shixin Ivy Zhang and Altman Yuzhu Peng, China, Media, and International Conflicts, Routledge, 2023.