ساحات استراتيجية:

لماذا تكثف روسيا أنشطتها البحرية في منطقة المحيط الهندي؟

18 January 2024


يبدو أن روسيا تسعى للعودة بقوة إلى منطقة المحيط الهندي، خاصةً فيما يتعلق بأنشطتها البحرية، تحقيقاً لعدد من الدوافع الاستراتيجية، إذ يلفت الانتباه كثافة الأنشطة البحرية الروسية في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا المطلة على المحيط الهندي مؤخراً، ولاسيما في خليج البنغال، في إشارة روسية إلى أن الحرب الأوكرانية لم تَحُل دون انخراط روسيا في مسارح عالمية أخرى بخلاف المسرح الأوروبي.

ولا شك في أن تزايُد الأهمية الاستراتيجية لمنطقة جنوب آسيا يُعد أحد الأسباب الدافعة إلى تكثيف الأنشطة البحرية في المنطقة، وَسْط تساؤلات عن ردود أفعال مُختلَف الدول والفاعلين الإقليميين على تلك الأنشطة؛ فإذا كان النفوذ البحري الروسي مقبولاً لكثير من دول المنطقة، فإن من شأنه أن يجعل روسيا أحد الفاعلين المستقبليين في الديناميكيات الاستراتيجية للمنطقة، خاصة إذا اتسع تعاونها ليشمل مجالات أخرى للتعاون مع دول المنطقة.

ولا تُعد الأنشطة البحرية العسكرية الروسية جديدة في عدد من البحار والمحيطات، ومنها المحيط الهندي، الذي طالما أجرت فيه روسيا تدريبات عسكرية مُشترَكَة مثل المناورات البحرية الثنائية المعروفة باسم "إندرا"، والتي بدأت منذ عام 2008 مع الهند، وثمة وجود للبحرية الروسية في بحر العرب منذ عام 2005 للقيام بدوريات لمكافحة القرصنة وتدريبات متعددة الجنسيات.

لكن كثافة هذه الأنشطة مؤخراً هي ما تثير الانتباه، خاصةً في ظل رئاسة روسيا لمجموعة البريكس في العام الجاري 2024، والتي تحمل شعار "التعددية من أجل العدالة في التنمية والأمن في العالم"، الذي يعكس في أحد جوانبه الاهتمام الروسي بالأمن البحري وإقامة طرق نَقْل جديدة مستدامة وآمنة من خلال تطوير الطرق العابرة للقارات لربط الموانئ الروسية في البحار الشمالية وبحر البلطيق بالمحطات البحرية في الخليج العربي وبحر البلطيق والمحيط الهندي.

التدريبات البحرية:

تتضح كثافة النشاط الروسي البحري في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا في الآتي:

1 – إجراء أول تدريب بحري مع ميانمار: أجرت روسيا يومي 7 و9 نوفمبر 2023 أكبر مناورات لها مع ميانمار، وتحديداً في بحر أندامان على الطرف الشمالي الشرقي للمحيط الهندي على بُعد 157 كيلومتراً (85 ميلاً) غرب مييك في أقصى جنوب ميانمار، وذلك بمشاركة سفينتين مضادتين للغواصات من الأسطول الروسي في المحيط الهادئ، وهما "أدميرال تريبوتس" و"أدميرال بانتيلييف"، بالإضافة إلى فرقاطة وطراد من بحرية ميانمار. وتضمنت التدريبات طائراتٍ وسفناً بحرية، بهدف التركيز على مجابهة التهديدات الجوية والبحرية والبرية، والتدريب على مُختلَف تدابير الأمن البحري.

على خلفية تلك المناورات، التقى رئيس الحكومة العسكرية في ميانمار الجنرال مين أونغ هلينغ، مع الأدميرال نيكولاي يفمينوف، القائد الأعلى للبحرية الروسية، في ميناء ثيلاوا في الجزء الجنوبي من يانغون، إذ قام الأول بجولة في إحدى السفن الروسية، بينما وصفت وزارة الدفاع الروسية تلك التدريبات بأنها "أول تدريب بحري روسي ميانماري في التاريخ الحديث".

الجدير بالذكر أنه بين أيام 10 و17 نوفمبر 2023، أجرت القوات البحرية الصينية والباكستانية تدريبات مُشترَكَة استمرت لمدة أسبوع، في المياه والمجال الجوي لشمال بحر العرب، شملت عمليات مضادة للغواصات، وهو ما يعكس رغبة كلٍ من الصين وروسيا في تعزيز الوجود والنشاط البحري في المنطقة.

2 – أول زيارة لسفن عسكرية روسية لبنغلاديش منذ 50 عاماً: بَعْد أيام قليلة من التدريبات بين روسيا وميانمار، رست نفس السفن الحربية الروسية، يوم 12 نوفمبر 2023، في ميناء شيتاغونغ في خليج البنغال، وهو الميناء البحري الرئيسي في بنغلاديش. ووصفت السفارة الروسية في العاصمة، دكا، ذلك الحدث بأنه "مَعلَم ضخم للعلاقات الروسية البنغلاديشية"، ولاسيما أن تلك السفن القتالية الروسية لم تزر البلاد منذ ما يقرب من نصف قرن، وأن آخر مهمة اضطلعت بها البحرية السوفيتية كانت تطهير ميناء شيتاغونغ من الألغام بعد أن غرقت عشرات السفن البحرية أثناء حرب 1971 بين الهند وباكستان، في عملية إنقاد إنسانية استمرت من إبريل 1972 حتى يونيو 1974 بمشاركة أكثر من 800 بحار من البحرية السوفيتية". أما الآن، فقد أتت السفن الروسية إلى الميناء مرة أخرى في زيارة ودية تدل على توطُد العلاقات الثنائية بين الدولتين.

3 - إجراء مناورات (PASSEX) البحرية مع الهند: أجرت الهند وروسيا مناورات بحرية استمرت لمدة يومين، 21 و22 نوفمبر 2023، تحت اسم (PASSEX) في خليج البنغال، إذ تحولت مناورات إندرا إلى مناورات (PASSEX) الأوسع نطاقاً، في عام 2020. وشملت المناورات سفناً من الأسطول الروسي في المحيط الهادئ، بما في ذلك المدمرة "أدميرال تريبوتس" المضادة للغواصات، وتمثَّل الهدف المُعلَن لتلك التدريبات في تطوير وتعزيز التعاون البحري الشامل. لكن الهدف الروسي العملي يتمثل في ضمان سلامة الشحن المدني في آسيا من ناحية، وتعزيز العلاقات الأمنية مع الهند من ناحية أخرى.

ووفقاً لوزارة الدفاع الروسية، فإن تلك التدريبات ساعدت البحريتيْن على التصدي المُشترَك للتهديدات العالمية عموماً، والتهديدات التي تواجهها آسيا خصوصاً، وهو ما يأتي على خلفية المصالح الاقتصادية والأمنية المُشترَكَة بين الهند وروسيا؛ إذ لم تنضم الأولى إلى الدول الغربية التي فَرَضَت عقوباتٍ على موسكو بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

ومن غير المُرجَّح أن تثير التدريبات العسكرية الروسية مع دول مثل: ميانمار وبنغلاديش قلق الهند، على الرغم من أن التدريبات تمنح روسيا موطئ قدم في المنطقة؛ إذ تَعتبِر الهند روسيا شريكاً استراتيجياً ممتداً منذ عقود طويلة، وهو ما ظهر في عدم تنفيذ العقوبات الغربية ضد روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، ومواصلتها شراء النفط الروسي.

الدوافع الروسية:

يُمكِن تفسير دوافع عودة النشاط البحري الروسي الكثيف في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا وتركيز اهتمام روسيا على منطقة المحيط الهندي، فيما يلي:

1 - تنويع الشركاء: تهدف روسيا من إجراء مثل هذه المناورات الثنائية السابقة، إلى جانب مناوراتها المُشترَكَة مع إيران والصين في غرب المحيط الهندي، إلى تنويع شركائها في المنطقة وتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، والحفاظ على صورتها خارج الدوائر الغربية، وإرسال رسالة للغرب بأنها ما تزال شريكاً عسكرياً مقبولاً في الوقت الذي تخوض فيه حرباً ضد أوكرانيا.

هذه الرغبة الروسية تتوافق مع مساعي دول جنوب آسيا لتنويع شراكاتها وتطوير بنيتها التحتية وبناء قدراتها العسكرية. ولا شك أن هذا الاهتمام الدولي بالمنطقة يُقدِّم خيارات استراتيجية واسعة للدول الصغرى التي تتلقى عروضاً من صناديق تطوير البنية التحتية، وتسعى لتنويع اختياراتها على صعيد سياساتها الأمنية الوطنية، وهو ما يساعدها على تجنُب القيود التي تفرضها منافسات القوى الإقليمية والعالمية.

2 – تعزيز العلاقات الروسية الهندية: تتمثل أحد أهداف روسيا من إجراء التدريبات البحرية الثنائية مع الهند في عدم الإضرار بالعلاقات الثنائية بين الدولتين. وفي حين تُجرِي روسيا مناوراتٍ مُشترَكَة مع الصين في بحر اليابان ومع إيران في غرب المحيط الهندي بشكل طبيعي؛ فإن موسكو تتفهم مخاوف الهند من الوجود الصيني المكثف في المنطقة، خاصة في ظل العلاقات الاستراتيجية التي تربط بينها وبين كلتا الدولتين، وهي علاقات لا ترغب موسكو في زعزعتها مع أي منهما.

عملياً، لا تمانع الهند في أن تُعزِّز روسيا وجودها في منطقة المحيط الهندي بهدف موازنة الطموحات الاستراتيجية للصين. وكجزء من هذه السياسة، قامت الهند بزيادة حضورها في الشرق الأقصى الروسي، وأعادت تنشيط مبادرة الاتصال البحري بين "تشيناي" الهندية و"فلاديفوستوك" الروسية، في إطار الممر البحري الشرقي. وبالإضافة إلى ذلك، تستكشف الدولتان إمكانية إنشاء مركز لإعادة الشحن في خليج البنغال.

3 - الحفاظ على مبيعات الأسلحة الروسية: قد تساعد التدريبات العسكرية البحرية على تبرير بيع المعدات العسكرية الروسية في المستقبل، وهو ما تبرز أهميته بالنظر إلى كون روسيا أقدم مُورِّد عسكري لمعظم دول جنوب آسيا بما في ذلك الهند، وهو ما تزداد أهميته لأن الإمدادات العسكرية واحدة من مصادر الدخل القومي الروسي في ظل تعدُد العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها في أوكرانيا.

وعلى الرغم من تراجُع الصناعة العسكرية الروسية ومبيعات السلاح الروسي نسبياً في المنطقة، فإن موسكو لا ترغب في خسارة أي موطئ قدم لها في جنوب آسيا كونها إحدى المناطق الأسرع نمواً على صعيد واردات الأسلحة، وذلك وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. ويؤشر على تلك الحقيقة أنه منذ استيلاء المجلس العسكري على السلطة في ميانمار في أكتوبر 2021، تزايَد تقارُب موسكو معها حتى أصبحت روسيا ثاني أكبر مُورِّد للأسلحة إلى ميانمار بقيمة بلغت 406 ملايين دولار في عام 2022، وتُعد ميانمار أيضاً سوقاً رئيسية لصادرات روسية أخرى. 

الدلالات الرئيسية:

يشير النشاط البحري الروسي الكثيف في المحيط الهندي، إلى جملة من الدلالات، لعل أولها محاولة تعزيز كفاءة البحرية الروسية بعد الحرب الأوكرانية التي دخلت عامها الثاني من دون أن تؤدي البحرية الروسية دوراً كبيراً فيها، بل إنها مُنِيَت ببعض الانتكاسات في البحر الأسود، فقد نجحت أوكرانيا، على سبيل المثال، في إغراق السفينة الرائدة في الأسطول موسكفا في عام 2022 وزورقي إنزال في نوفمبر 2023.

الدلالة الثانية تشير إلى تعقُد المشهد الجيوسياسي في منطقة المحيط الهندي، إذ تسعى القوى الإقليمية والدولية إلى الوجود فيه لأسباب متنوعة منها الوصول إلى الأسواق وطُرُق التجارة (مصالح قومية)، والدفاع عن الحق في حرية الملاحة (أسباب معيارية). وقد أدت تلك الأهمية الاستراتيجية إلى وجود عسكري أكبر لمختلف البلدان في المنطقة، حتى أصبح المحيط الهندي أحد المسارح الرئيسية للتنافس بين القوى العظمى، وتحديداً بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما يدفع موسكو لتعزيز وجودها الاستراتيجي في المنطقة من خلال إبراز قوتها خارج دوائر أمنها القومي المباشرة.

في هذا الإطار، يعتقد البعض أن التدريبات العسكرية الروسية الأخيرة في المنطقة، إلى جانب رغبة روسيا في إنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان؛ هي بمثابة خطوات تهدف بها روسيا إلى استعراض القوة من جانب، ومحاولة فرض صورتها بوصفها "قوة مساوية" وليست "قوة متلاشية" من جانب آخر.

الدلالة الثالثة تتعلق بالهند، ففي سياق رؤيتها أن آسيا هي مفتاح بناء عالم متعدد القطاب، وكذلك في سياق رؤيتها البحرية القريبة من رؤية حلفاء الولايات المتحدة، والقائمة على أن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، فإنها لا تنظر في الوقت ذاته للأنشطة البحرية الروسية من نفس الزاوية التي تنظر بها إلى الصين، فهي تَعتبِر الوجود الروسي عاملاً موازناً للقوة البحرية الصينية في المنطقة، مع تزايُد نفوذ الصين في دول مثل: سريلانكا وميانمار والمالديف في العقد الأخير.

وترتبط الدلالة الرابعة بتصاعُد أهمية ميانمار النسبية في الحسابات الروسية، في إطار ثلاثة عوامل متداخلة، أولها، أن ميانمار حليف تقليدي للصين، وثانيها، انتقادات الغرب للمجلس العسكري الحاكم هناك الآن، وثالثها، حاجة ميانمار إلى روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، ومُصدِّر رئيسي للأسلحة المتقدمة. ولهذا ترى موسكو في ميانمار شريكاً مثالياً لتعزيز انخراطها في جنوب آسيا والمحيط الهندي على نطاق أوسع؛ إذ تربط ميانمار جنوب آسيا بالجنوب الشرقي منها، وهي أيضاً جسر بين آسيا القارية والبحرية. ومن ثم، فإن الوجود الروسي الاستراتيجي في ميانمار يساعد روسيا على تعزيز نفوذها في شرق المحيط الهندي.