الدبلوماسية الإماراتية وجهود تهدئة حربي أوكرانيا وغزة

12 January 2024


تتبنى دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ تأسيسها، سياسة واضحة ترتكز على بناء السلام وترسيخ الأمن والاستقرار في ربوع منطقتها والعالم، من منطلق إدراك قيادتها الرشيدة أن السلام والتنمية وجهان لعملة واحدة، وأن لدولة الإمارات دور مسؤول في نشر السلام والازدهار على جميع الأصعدة بوصفها دولة سلام وتسامح وركيزة استقرار في منطقتها والعالم.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة الثابتة والراسخة، جاءت التحركات الإماراتية في الفترة الأخيرة والرامية إلى المساهمة في تهدئة الصراعات والأزمات المتفجرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولاسيما الأزمتين المشتعلتين في قطاع غزة وأوكرانيا. وهو ما تجسد في نجاح الوساطة الإماراتية، يوم 3 يناير 2024، في إنجاز أكبر وأهم صفقة تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا منذ بداية الحرب، وكذلك في الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة لوقف الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، والتي تُوجت بتمرير أول مشروع قرار يتبناه مجلس الأمن الدولي في 22 ديسمبر 2023 بشأن الحرب في غزة منذ اشتعالها في السابع من أكتوبر الماضي.

وفي هذا السياق، يمكن تسليط الضوء على الجهود والمساعي التي تقوم بها دولة الإمارات لتهدئة الصراعات المشتعلة في غزة وأوكرانيا، ومحاولة وقف إطلاق النار في الجبهتين، والعوامل الداعمة لنجاح جهود الدبلوماسية الإماراتية في هذا الشأن، ودلالاتها للسياسة الخارجية الإماراتية.

وساطة ناجحة بين روسيا وأوكرانيا:

شكلت الحرب الروسية الأوكرانية، المُستمرة منذ فبراير 2022، أحد أهم الصراعات الحديثة التي هددت، وما تزال تهدد، الأمن الأوروبي والعالمي؛ بالنظر إلى طبيعة المخاطر والتهديدات التي تنطوي عليها، وأبرزها احتمالية اتساع دائرة الصراع في أي لحظة إلى مستوى الحرب العالمية، في ظل إصرار القوتين المتنافستين، روسيا وبعض الدول الحليفة لها من جهة والكتلة الغربية بقيادة واشنطن من جهة أخرى، على تحقيق أهدافهما من خلال القوة العسكرية، والتداعيات الخطرة المترتبة على استمرار هذا الصراع على الاقتصاد العالمي وعلى الأمن الغذائي العالمي، إلى جانب تزايد نزعات التسلح العالمي على النحو الذي عكسته توجهات التسلح الأوروبية بعد اندلاع هذه الحرب.

وعلى الرغم من حالة الاستقطاب الدولي التي أفرزتها الحرب الأوكرانية، فقد نجحت الدبلوماسية الإماراتية في التعامل بحنكة وذكاء مع هذا الملف المُعقد من خلال الإبقاء على علاقات جيدة وقوية مع طرفي الصراع، وهو ما أتاح لدولة الإمارات أن تكون وسيطاً نزيهاً ومقبولاً بين الجانبين. وبالفعل نجحت دولة الإمارات، من خلال دبلوماسيتها الهادئة والمتزنة، في أن تنجز بعض الاختراقات المهمة في هذا الملف المُعقد، والتي جعلت التفكير في سيناريو التسوية السلمي للصراع أمراً ممكناً وقابلاً للتطبيق. 

وتمثل الاختراق الأهم في إعلان وزارة الخارجية الإماراتية، في 3 يناير الجاري، عن نجاح وساطة دولة الإمارات في تنفيذ إحدى أكبر عمليات تبادل الأسرى بين الجانبين الروسي والأوكراني منذ بداية الحرب. وأكدت الوزارة التزام دولة الإمارات بمواصلة الجهود الهادفة إلى إيجاد حل سلمي للنزاع في أوكرانيا، وسعيها لدعم جميع المبادرات التي من شأنها التخفيف من التداعيات الإنسانية الناجمة عن هذه الأزمة. وبموجب هذه الوساطة الإماراتية، أعلنت وزارة الدفاع الروسية استعادة 248 من الجنود الروس في تبادل للأسرى مع أوكرانيا. فيما أكد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إعادة أكثر من 200 أسير أوكراني من روسيا.

ويعكس نجاح جهود وساطة دولة الإمارات بين موسكو وكييف، في ظل الصراع المشتعل بينهما، كفاءة الدبلوماسية الإماراتية وقدرتها على التعامل الهادئ والمتزن مع أعقد الملفات الدولية، إلى جانب الثقة الدولية الواسعة في دولة الإمارات وقيادتها الرشيدة وحرصها على تحقيق السلام والأمن العالميين.

جهود لوقف الحرب في غزة:

يقع الموقف الإماراتي الداعم للقضية الفلسطينية في قلب المبادئ الثابتة للسياسة الإماراتية منذ نشأة الدولة في عام 1971، بل إن هذا الدعم سبق تأسيس الدولة نفسها، وذلك عندما تم افتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في أبوظبي عام 1968. وعلى مدى العقود الماضية، قدمت دولة الإمارات أشكالاً مختلفة من المساعدات للشعب الفلسطيني، وظلت ملتزمة بدعم حقوقه المشروعة بما فيها حقه الأصيل في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ولم تتوان يوماً عن الدفاع عن هذه الحقوق بمختلف الأشكال والوسائل.

ومنذ تفجر الأحداث في قطاع غزة إثر عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، تعددت الجهود التي بذلتها دولة الإمارات لاحتواء الصراع والتخفيف من تبعاته ولاسيما على المدنيين الفلسطينيين الذين تحملوا العبء الأكبر من تكلفة هذه الحرب اللاإنسانية، وتركزت هذه الجهود على المستويين السياسي والإنساني بشكل متوازٍ.

فعلى المستوى السياسي، كثفت دولة الإمارات - بصفتها العضو العربي في مجلس الأمن الدولي- من جهودها للدفع نحو وقف إطلاق النار، وزيادة تدفق المساعدات إلى الفلسطينيين، إذ عقد مجلس الأمن 13 جلسة حول القضية الفلسطينية والوضع في غزة، كانت 8 منها بطلب مباشر من دولة الإمارات التي قدمت خلالها مشروعي قرار لوقف الحرب في القطاع. وخلال هذه الجلسات، أعلنت دولة الإمارات بوضوح دعمها لجهود وقف الحرب والحفاظ على حياة المدنيين وضرورة السماح بتدفق المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في القطاع.

وتوجت دولة الإمارات جهودها وتحركاتها الفاعلة في مجلس الأمن الدولي، بنجاحها في تمرير أول قرار من المجلس، وهو رقم (2720)، يوم 22 ديسمبر الماضي، والذي يدعو إلى "اتخاذ خطوات عاجلة للسماح فوراً بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسَّع وآمن ودون عوائق ولتهيئة الظروف اللازمة لوقف مستدام للأعمال القتالية"؛ وذلك في خطوة أكدت مجدداً كفاءة الدبلوماسية الإماراتية، وقدرتها على التعامل مع أصعب الملفات، وأكثرها تعقيداً، بمهنية ومرونة كبيرة، إذ تم تأجيل إصدار القرار أربع مرات متتالية، والدخول في مفاوضات معقدة وصعبة مع مختلف الأطراف الفاعلة، ولاسيما الولايات المتحدة، لتجنب استخدام حق النقض "الفيتو"، حتى تم التوصل إلى أفضل صيغة ممكنة ومقبولة لتمرير القرار. 

كما تميز هذا القرار بأنه تضمن آلية محددة وواضحة لتنفيذ بنوده، من خلال النص على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة إلى تعيين كبير لمنسقي الشؤون الإنسانية وشؤون إعادة الإعمار، يكون مسؤولاً في غزة عن تيسير وتنسيق ورصد جميع شحنات الإغاثة الإنسانية المتجهة إلى القطاع. وسبق القرار، قيادة دولة الإمارات زيارة لأعضاء مجلس الأمن إلى معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، إذ اطلع أعضاء المجلس بشكل مباشر على الحاجة الماسة لإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية، مما كان له تأثيره الواضح في إقناع أعضاء المجلس بالتصويت لصالح القرار.

وعلى المستوى الإنساني، كانت دولة الإمارات من أكثر الدول التي أسهمت في تقديم المساعدات الإنسانية لإغاثة الشعب الفلسطيني في غزة. فعلى مدار الأشهر الماضية منذ اندلاع الحرب، قامت دولة الإمارات، وضمن عملية "الفارس الشهم 3" بنقل المساعدات الإنسانية لإغاثة المدنيين في غزة، إذ وصل عدد طائرات الشحن إلى 136 طائرة، بالإضافة إلى سفينتي شحن، و144 شاحنة نقل بري من مصر، تحمل إجمالي 13852 طن مساعدات إغاثية، حتى إحصائيات يوم 5 يناير الجاري. وضمن هذا السياق أيضاً، جاءت المبادرة الإنسانية الكريمة من قِبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، بعلاج 1000 طفل فلسطيني من المصابين في الحرب، وعلاج 1000 من المصابين بأمراض السرطان من قطاع غزة في مستشفيات الدولة، وكذلك المبادرة الإماراتية لإنشاء مستشفى ميداني داخل غزة بسعة أكثر من 150 سريراً، وهو المستشفى الذي لا يزال يستقبل المرضى والمصابين ويقدم لهم العلاج والرعاية في قلب الصراع الدائر.

وما زالت دولة الإمارات ماضية في القيام بدورها المسؤول في محاولة احتواء هذا الصراع، ووقف إراقة الدماء، واستعادة الاستقرار والسلام الشامل في المنطقة.

دلالات المكانة والتأثير:

لطالما أدت دولة الإمارات، منذ تأسيسها، أدواراً دبلوماسية فاعلة ونشطة لحفظ وتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي، وتوسطت من أجل حل الخلافات بين الدول، ودعمت قضايا الحق والعدل، لكن هذا الدور تعزز في السنوات الأخيرة مع تنامي الدور الإقليمي والعالمي للدولة. ويعكس هذا الدور مجموعة من الدلالات المهمة، أبرزها ما يلي:

1- الثقة الدولية الواسعة في حكمة القيادة الإماراتية، ورغبتها الجادة في تحقيق السلام والاستقرار، وهو ما يجعلها وسيطاً نزيهاً بين مختلف الأطراف.

2- العلاقات الإيجابية البناءة التي تربط الإمارات بمختلف دول العالم، والتي تجعلها شريكاً موثوقاً لكل الدول بما يدعم دورها العالمي. وقد أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان هذا الأمر بوضوح عندما أعلن في قمة جدة للأمن والتنمية في عام 2022 أن دولة الإمارات ستبقى شريكاً رئيسياً موثوقاً في نهج الاستقرار والازدهار، الذي يقوم على السلام والتنمية وتعميم ثمارهما في دول المنطقة والعالم.

3- كفاءة الدبلوماسية الإماراتية ومرونتها، وقدرتها على التعامل الفعال مع مختلف التحديات والملفات المعقدة والوصول إلى نتائج مبهرة على نحو ما حدث في قمة "كوب28"، على سبيل المثال، والتي كان كثيرون يتوقعون فشلها في ضوء تباعد المواقف الدولية بشأن القضايا المطروحة قبل أن تتمكن الدبلوماسية الإماراتية من تفكيك كل التعقيدات والوصول إلى إعلان الإمارات التاريخي للعمل المناخي. وكما حدث أيضاً في مجلس الأمن عندما تم العمل بصبر ومثابرة حتى تم التوصل إلى تمرير أول قرار يدعم إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.

ختاماً، كل هذه العوامل وغيرها جعلت دولة الإمارات عنصر استقرار في منطقتها والعالم، وأكسبتها مزيداً من النفوذ والتأثير في كثير من الملفات الإقليمية والعالمية، كما عززت قوتها الناعمة وصورتها الإيجابية في العالم.