"دبلوماسية اليورانيوم":

أبعاد التحركات الفرنسية الجديدة في منطقة آسيا الوسطى

27 November 2023


مع تصاعُد الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لدول منطقة آسيا الوسطى في الأعوام الأخيرة، برز مجدداً التنافس بين القوى العالمية والإقليمية لتعزيز حضورها بالمنطقة، ومن هذه القوى دول الاتحاد الأوروبي، خاصةً فرنسا وألمانيا.

في هذا الإطار، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى منطقة آسيا الوسطى، والتي شملت كازاخستان يوم 31 أكتوبر في أول زيارة رسمية لرئيس فرنسي منذ عام 2014، ثم أوزبكستان يوم 1 نوفمبر 2023، والتي جاءت بعد زيارتين للرئيس الأوزبكي إلى باريس في عامي 2018 و2022؛ وهو ما يعكس وجود مصالح جيواقتصادية محددة تعيد أوروبا إلى قلب معادلات التنافس الدولي في المنطقة، خاصةً منذ الحرب الروسية في أوكرانيا.

تحوُل موازين القوى في آسيا الوسطى:

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، واصلت روسيا الاتحادية العمل كضامن للأمن الإقليمي، بل والداخلي أيضاً، في دول آسيا الوسطى، وجزئياً في القوقاز؛ لكن خلال العشرين عاماً الماضية لم تكن روسيا شريكاً موثوقاً به لدول آسيا الوسطى، إذ كانت تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية، وتتجاهل التزاماتها المؤسسية تجاه أعضاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وربما هذا ما دفع الرئيس الطاجيكي، في نوفمبر 2022، إلى القول: "روسيا يجب عليها ألا تتجاهل مصالح دول آسيا الوسطى الصغيرة، كما كانت تفعل في زمن الاتحاد السوفيتي".

وصحيح أن روسيا تواصل تشغيل قواعد عسكرية في أرمينيا وبعض الدول في آسيا الوسطى حتى بعد نشوب الحرب في أوكرانيا، لكن هذه الحرب بدأت في تغيير توازن القوى الإقليمي نسبياً، إذ بدأ يتراجع النفوذ الروسي، بينما يتزايد نفوذ الصين والفاعلين الإقليميين، تركيا وإيران والهند، علاوة على المساعي الأمريكية والأوروبية لتعزيز العلاقات مع دول المنطقة بما يحول دون سيطرة قوة واحدة على منطقة أوراسيا.

وبالمقابل، فإن مصلحة دول آسيا الوسطى أن تُنوِّع شراكاتها؛ حتى لا تكون ضحية جانبية للعقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، إذ يعاني جيران روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى بالفعل من الآثار الجانبية للعقوبات الغربية على روسيا بعد الحرب الأوكرانية، التي أدت لانكماش الاقتصاد الروسي.

اللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى:

أضحت آسيا الوسطى منطقة استقطاب محورية في الصراع بين الشرق والغرب؛ إذ تمتد على مساحة جغرافية استراتيجية في قلب أوراسيا، وتحدها روسيا من الشمال، والصين من الشرق، وأفغانستان وإيران من الغرب والجنوب؛ بما يجعلها تتمتع بموقع فريد بالنسبة للقوى العالمية المتنافسة، الصين وروسيا من جانب، والغرب والولايات المتحدة من جانب آخر، خاصةً مع وصف الوثائق الاستراتيجية الأمريكية روسيا بالتهديد الحالي، والصين بالتهديد المستقبلي.

وبوجه عام، يُنظَر إلى المنطقة الآن من خلال "اللعبة الكبرى" الجديدة بين ثلاث قوى كبرى، روسيا، والصين، والولايات المتحدة؛ إذ تحاول هذه القوى الهيمنة على المنطقة سعياً وراء مصالحها المتباينة إلى حد كبير، إذ تحاول روسيا الحفاظ على نفوذها التقليدي القوي في المنطقة من خلال استمرار تحالفاتها الأمنية والاقتصادية، متمثلةً في "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" و"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي".

الصين من جانبها تسعى إلى تعزيز علاقاتها ونفوذها بالمنطقة الحيوية لمبادرة الحزام والطريق، إذ عُقِدَت أول قمة صينية مع دول آسيا الوسطى في شهر مايو الماضي، وأقرضت الصين مليارات الدولارات لهذه الدول لتأسيس مشروعات كبرى تُسهِّل عملية التبادل التجاري وإمدادات الطاقة. أما الولايات المتحدة فتسعى إلى العودة مجدداً للمنطقة من خلال تشجيع المؤسسات النيوليبرالية وضخ استثمارات في مشروعات الطاقة هناك، وعَقْد صفقات عسكرية.

استراتيجية الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى:

الأوروبيون من جانبهم يرغبون أيضاً أن يكون لهم حضور قوي في المنطقة، إلى جانب القوى السابقة، خاصةً فرنسا وألمانيا؛ ففي تناقض مذهل مع الدول الثلاث السابقة، لم يكن للاتحاد الأوروبي مصالح جيوسياسية كبيرة في آسيا الوسطى، وكان يَعتبِر دول المنطقة بمثابة "جوار الجوار"، لكن ذلك تغيَّر مؤخراً منذ اعتماد الاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة بشأن آسيا الوسطى في عام 2019، تؤكد تعميق الارتباط الأوروبي في كافة المجالات مع دول المنطقة، فيما يُعد تطويراً لاستراتيجية الاتحاد بشأن آسيا الوسطى لعام 2007، التي كانت أولويتها تقوم على إنشاء خطوط للطاقة وللنقل تربط بين المنطقتين.

وبناءً على ذلك، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في عام 2021، أن الاتحاد الأوروبي سيخصص نحو 300 مليار يورو من الاستثمارات في إطار "مبادرة البوابة العالمية" للفترة ما بين 2021 و2027، بما في ذلك دول آسيا الوسطى.

ومن النواحي الجيواستراتيجية، تسعى دول الاتحاد الأوروبي منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021، إلى تعزيز التعاون بشأن مواجهة القضايا والتحديات الأمنية المُشترَكَة في آسيا الوسطى وأفغانستان، مثل التطرف والإرهاب وتهريب المخدرات والتهديدات الهجينة والإلكترونية، والسلامة والأمن النوويين.

استراتيجياً أيضاً، وبالنظر لتداعيات الحرب الأوكرانية على العلاقات الروسية الأوروبية، ازداد الاهتمام الأوروبي بالمنطقة، فعلى سبيل المثال، ذكرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، قبل زيارتها إلى كازاخستان وأوزبكستان، في 30 أكتوبر 2022، أن "ألمانيا لا تريد أن ترى آسيا الوسطى مقيدة في الساحة الخلفية لروسيا أو معتمدة على الصين". وفي مايو 2023، وخلال انقعاد قمة أستانا بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، قال مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن "آسيا الوسطى اليوم في قَلْب الحدث إنْ بالمعنى الجيواستراتيجي أو بالمعنى الجيواقتصادي".

أبعاد زيارة ماكرون إلى كازاخستان وأوزبكستان:

وسط هذا التنافس الجيوسياسي والاقتصادي العالمي في آسيا الوسطى، يُمكِن تفسير الأسباب والدواعي وراء الجهود الطموحة التي تبذلها فرنسا لتعزيز التعاون مع دول المنطقة، خاصةً مع كازاخستان وأوزبكستان؛ فقد أبرزت الاضطرابات الأخيرة في أسواق الطاقة العالمية، إلى جانب التوترات السياسية، حاجة فرنسا إلى توسيع نطاق شركائها في واردات الطاقة، إذ تحتاج فرنسا إلى 7800 طن من اليورانيوم الطبيعي سنوياً، لتشغيل 65 مفاعلاً، في 18 محطة للطاقة النووية، لتوليد 70% من احتياجاتها من الكهرباء.

وكانت فرنسا تحصل على اليورانيوم منذ 50 عاماً من مستعمرتها السابقة، النيجر، التي تحتل المرتبة السابعة بين أكبر مُورِّدي اليورانيوم في العالم، وتُعد ثالث أكبر مُورِّد لليورانيوم لفرنسا في الفترة بين أعوام 2005 و2020، إذ وفرت 19% من الإمدادات العالمية بعد كازاخستان وأستراليا، وفقاً لوكالة "إوراتوم للإمداد". واعتمدت فرنسا والاتحاد الأوروبي على إمدادات اليورانيوم من النيجر في عام 2021 بنسبة 24%، ثم كازاخستان بنسبة 23%، تليها روسيا بنسبة 20%، وفقاً لإحصاءات وكالة التوريد الأوروبية.

لكن بعد الانقلاب العسكري في النيجر، في 26 يوليو الماضي، بدت هناك شكوك قوية في استمرار إمدادات اليورانيوم إلى فرنسا على خلفية توتُر العلاقات بين الدولتين، حيث أفادت تقارير بإصدار قادة الانقلاب قراراً بوقف صادرات الذهب واليورانيوم إلى فرنسا، وهو ما يُمثِّل ضربة قوية لفرنسا التي تعتمد على يورانيوم النيجر بنسبة كبيرة، ولاسيما بعد إعلان فرنسا مؤخراً عن قرار استراتيجي ينص على توسيع محطاتها النووية، مما يعني أن طلبها على اليورانيوم سيكون أعلى مما كان عليه في السنوات السابقة.

لهذا تسعى فرنسا إلى تنويع مصادر تزودها باليورانيوم من خلال تعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، خاصة مع أوزبكستان وكازاخستان (لدى الدولتين احتياطيات كبيرة من اليورانيوم، وتُعد كازاخستان أكبر مُنتِج في العالم، وأوزبكستان خامس أكبر مُنتِج) لتنويع مصادر الطاقة لديها، إذ يُمكِن أن يضمن ذلك إمدادات ثابتة من اليورانيوم للمفاعلات الفرنسية، هذا علاوة على امتلاك دول آسيا الوسطى احتياطيات هيدروكربونية غير مُستغلَّة حتى الآن.

توازياً مع ذلك، تهدف فرنسا كذلك من تعزيز التعاون مع دول آسيا الوسطى إلى الحد من المخاطر المرتبطة باستيراد المعادن الحيوية والنادرة، والتي تُعد المحور الأساسي في التحول إلى الطاقة الخضراء، نظراً لدور هذه المعادن في إنتاج مجموعة واسعة من التقنيات، بدءاً من الهواتف الذكية وتوربينات الرياح وحتى البطاريات القابلة لإعادة الشحن للسيارات الكهربائية.

وهنا تُقدِّم منطقة آسيا الوسطى، خاصةً أوزبكستان، أحد الحلول أمام فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، لتقليل اعتمادها الكبير على الصين للحصول على هذه المعادن النادرة، التي يجري استكشافها حالياً في المنطقة. وقد أعلنت فرنسا عن محفظة مشروعات واستثمار 10 مليارات يورو، لتعزيز مشاركتها في القطاعات المتنامية في أوزبكستان.

وقد أكد ماكرون أثناء زيارته كازاخستان ضرورة تعزيز "الشراكة الاستراتيجية"، وإعطاء أهمية كبرى لتطوير "ممر وسط بحر قزوين" لربط أوروبا بآسيا الوسطى كبديلٍ للطرق اللوجستية الصينية والروسية في المنطقة، وتعزيز حضور شركة "أورانو" الفرنسية المتخصصة في اليورانيوم في كازاخستان، التي توفر وحدها 43% من الإنتاج العالمي من هذه المادة. ووقَّعت الدولتان اتفاقيات للتعاون في قطاعات المعادن الاستراتيجية، واتفاقاً للتعاون الجيولوجي، والصناعة والصيدلة، والطاقة، بما في ذلك مشروع لبناء مزرعة لطاقة الرياح بشكل مشترك مع شركة توتال إنرجي الفرنسية، بالإضافة إلى اتفاق لتشجيع اللغة الفرنسية في كازاخستان.

تحديات وعقبات:

على الرغم من كل هذه الحوافز والاعتبارات الموضوعية، هناك تحدٍ جوهري يعوق تعزيز التعاون بين فرنسا كازاخستان وأوزبكستان، ومنطقة آسيا الوسطي إجمالاً، وهو القدرة المحدودة لطريق النقل عبر بحر قزوين، المعروف أيضاً باسم "الممر الأوسط"، الذي يربط الصين وآسيا الوسطى عبر بحر قزوين مروراً بالقوقاز وتركيا وصولاً لأوروبا، فعلى الرغم من ارتفاع معدل عبور السلع والبضائع في عام 2022 حوالي ثلاث مرات مقارنة بالعام السابق، فإن هناك تأخيراً واضحاً في عمليات النقل عبر الحدود.

ولمواجهة هذه التحديات، يتعين على فرنسا أن تتعاون بشكل وثيق ليس فقط مع دول آسيا الوسطى، بل أيضاً مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، لتنمية وتطوير "الممر الأوسط". وإذا تم تحقيق ذلك، فسيتم تقليل أوقات العبور من (38 – 53 يوماً) إلى (12 – 23 يوماً) فقط. وهذا لن يوفر لأوروبا طرقاً تجارية بديلة مثالية فحسب، بل سيشجع أيضاً المشاركة النشطة لدول آسيا الوسطى في التواصل والتعاون العالميين.

أيضاً، يتعيَّن على فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي إذا أرادوا التحول إلى فاعل مركزي بالمنطقة التنافس مع روسيا والصين، إلى جانب القوى الإقليمية الصاعدة الأخرى في المنطقة مثل تركيا والهند وإيران.

إجمالاً، يُمكِن القول إن تحركات وطموحات فرنسا الاستراتيجية في منطقة آسيا الوسطى، والتي تجسدت في زيارة ماكرون الأخيرة، مدفوعة بنهج متعدد الجوانب يهدف إلى تحقيق التوازن في ديناميكيات القوة الإقليمية، وتنويع مصادر الطاقة، وضمان إمدادات مستقرة من المعادن الحيوية للتنمية التكنولوجية المستدامة، وإن هذه الطموحات الجديدة لدول الاتحاد الأوروبي، منفردة أو مجتمعة، تتيح الفرصة لدول آسيا الوسطى لتكثيف الشراكات الشاملة مع الاتحاد الأوروبي، الذي يُمكِن أن يؤدي دوراً إيجابياً في المنطقة من خلال تقديم بديل لموسكو وبكين ومساعدة دول آسيا الوسطى على تنويع اقتصاداتها وعلاقاتها الخارجية.