شراكة خاصة:

هل تكون اليابان رأس حربة حلف الناتو في آسيا والمحيط الهادئ؟

22 November 2023


أثناء زيارته اليابان، يوم 13 نوفمبر الجاري، ذكر الأمين العام المساعد لحلف شمال الأطلسي الناتو، ديفيد فان ويل، أنه "ليس لدى الناتو أي طموحات في أن يصبح تحالفاً عسكرياً إقليمياً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، لكنه أكد أن "الشيء الأكثر أهمية هو أن تدرك الصين أنه لا ينبغي لها اتخاذ أي خطوات أحادية لتغيير الوضع الراهن في تايوان".

جاء حديث فان ويل، في ظل تواصُل جهود حلف الناتو لتطوير علاقاته مع الشركاء في آسيا، خاصة اليابان، التي وصفها الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، خلال انعقاد قمة الحلف، في يوليو الماضي، بقوله: "لا يُوجد شريك آخر قريب من حلف شمال الأطلسي مثل اليابان".

في هذا الإطار، يُلاحظ زيادة أوجُه وأنماط التعاون بين الناتو واليابان، إذ سلَّط المفهوم الاستراتيجي للحلف لعام 2022 الضوء على أهمية تعزيز الحوار والتعاون مع الشركاء في منطقة الإندوباسيفيك. وتوازياً مع ذلك، تهدف استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة -من بين أمور أخرى- إلى تعزيز التعاون الأمني مع حلف الناتو؛ ليزداد تقارُب الطرفين مؤخراً، في بيئة أمنية عالمية مضطربة نتيجةً لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وبيئة إقليمية متوترة في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، خاصةً في ظل الصعود والتحديث العسكري الصيني، وتحوُل كوريا الشمالية لدولة نووية.

أولاً: مُؤشرات وأنماط التعاون بين الناتو واليابان:

تتعدد المؤشرات على تقارُب حلف الناتو واليابان، والتي يُتوقَّع أن يكون لها تداعيات جيوستراتيجية مستقبلاً على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ويمكن الوقوف على أبرز هذه المؤشرات في الآتي:

1 - مشاركة اليابان في مؤتمرات الحلف: شارك رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في مؤتمر قمة الناتو -إلى جانب قادة كوريا الجنوبية وأُستراليا ونيوزيلندا– الذي عُقِدَ في ليتوانيا يوم 12 يوليو 2023، بهدف توثيق العلاقات بين الحلف واليابان. وسبق لكيشيدا أن مثَّل اليابان في قمة الحلف التي انعقدت بين 28 و30 يونيو 2022 في مدريد، بهدف تسليط الضوء على المخاوف الأمنية في أوروبا وآسيا، وذلك في أول سابقة لرئيس حكومة ياباني.

أيضاً شاركت اليابان بانتظام في الاجتماعات التي عُقِدَت في مقر حلف الناتو في بروكسل على مستوى السفراء، وشاركت في إبريل 2022 وفي إبريل 2023 في اجتماعات وزراء خارجية دول الحلف بعد أن شاركت لأول مرة على الإطلاق في الاجتماع الوزاري للحلف في ديسمبر 2020.

2 - إطلاق برنامج الشراكة الفردية: في العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، التي استضافت قمة الناتو الأخيرة، في يوليو 2023، رَفَعَ حلف الناتو واليابان مستوى التعاون بينهما، بالتوقيع على وثيقة برنامج شراكة فردية لتعزيز التعاون في 16 مجالاً رئيسياً، أبرزها الدفاع السيبراني، وعمليات الإجلاء في حالات الطوارئ، والاتصالات الاستراتيجية، والتقنيات الناشئة والتكنولوجيا الإحلالية، وتبادُل الأفكار المتعلقة بمكافحة المعلومات المُضلِّلة، والأمن البحري، وأمن الفضاء الخارجي، وتغيُر المناخ، وحَظْر انتشار الأسلحة النووية.

وقد قامت اليابان بتطوير الوثيقة مع جميع دول الحلف لتعزيز التعاون الأمني بين منطقة المحيطين الهندي والهادئ من ناحية، والقارة الأوروبية من ناحية أخرى. كما أعربت اليابان عن استعدادها لتوسيع دعمها لأوكرانيا من خلال المساعدة على إعادة بناء بنيتها التحتية التي دمرتهما الحرب مع روسيا. وقد حددت الوثيقة مجالات التعاون على مدار السنوات الأربع المقبلة، ودعت إلى تعزيز العمل الجماعي في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة.

ومما لا شك فيه، فإن برنامج الشراكة من شأنه أن يدفع التعاون في عدد من المجالات في ظل اعتراف اليابان والناتو بتعدد التهديدات الإقليمية والعالمية من ناحية، وأن يعزز إمكانية التشغيل البيني والتعاون العملي والحوار والمشاورات بين الجانبين من ناحية أخرى.

3 - طَرْح فكرة إنشاء مكتب اتصال للحلف في طوكيو: على الرغم من تأكيدات فوميو كيشيدا، عدم رغبة بلاده في الانضمام إلى حلف الناتو، فإن الأخير اقترح بالفعل فَتْح مكتب اتصال له في اليابان، ليكون أول مكتب من نوعه للحلف في القارة الآسيوية، وذلك بغرض تسهيل إجراء المشاورات الدورية مع اليابان وغيرها من الدول، خاصة كوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وتعزيز التعاون بين طوكيو ومجموعة السبع التي تشترك جميعها في عضوية الناتو.

ويعني ذلك أن المكتب ستنحصر وظيفته في الاتصال وتعزيز العلاقات، ليؤدي مهام سياسية فحسب دون أن يتجاوزها إلى تنسيق أي أنشطة عسكرية. وقد أوضح مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشؤون أوروبا والناتو، جيم تاونس، أنه من المعتاد أن يكون للناتو نقاط اتصال في العواصم الأخرى إن أراد تعميق الفهم وتحقيق تنسيق أفضل بين الدول، وهو ما تزداد أهميته مع تعدُد بؤر التوتر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولذا سيساعد هذا المكتب في تنسيق المواقف بشكل أفضل مع اليابان.

وقد قُوبلت مساعي الناتو تلك بمعارضة فرنسية، علماً بأن فَتْح مكتب للحلف في اليابان سيتطلب موافقة مجلس الحلف بالإجماع، بما في ذلك فرنسا، التي قد تَستخدِم حق النقض لرفضها هذا الاقتراح؛ إذ وَصَفَت باريس ذلك بأنه سيكون "خطأً فادحاً"، لجملة من الأسباب أهمها: رَفْض أي سلوك يرفع مستوى التوتر في المنطقة؛ واقتصار نطاق عمل الحلف على منطقة شمال الأطلسي وفقاً للمادتين 5 و6 من نظامه الأساسي؛ وعدم وجود مكاتب اتصال للحلف خارج مناطق عمله؛ وإمكانية استخدام السفارات المعنية كنقاط اتصال أو لمعرفة الأوضاع في المنطقة؛ والتخوف من تكثيف التعاون العسكري المتزايد بين بكين وموسكو في آسيا والمحيط الهادئ.

4 - تعدُد مجالات التعاون الرئيسية: شاركت اليابان في مناورات الدفاع السيبراني التي أجراها حلف الناتو، وأصبحت مشاركاً مساهماً في مركز التميز للدفاع السيبراني التعاوني التابع للحلف، وقدَّمت مساعداتٍ إنسانية أثناء بعض الكوارث، في إطار الجسر الجوي الذي ينسقه الناتو لتقديم الإغاثة (كما حدث في أعقاب زلزال تركيا الذي نقلت على خلفيته اليابان مئات الخيام والبضائع إلى تركيا في أول عملية إغاثة دولية طارئة تقوم بها قوات الدفاع الذاتي اليابانية بالتعاون مع الحلف).

وشاركت قوات الدفاع الذاتي البحرية اليابانية مع سفن حلف الناتو في تدريبات أُجرِيَت في البحر الأبيض المتوسط في عام 2022 وفي بحر البلطيق في عام 2018. كما قدمت اليابان مساهمات سخية لمشروعات الصندوق الائتماني للحلف في مختلف البلدان الشريكة.

كما يعمل الناتو واليابان على تعزيز تعاونهما في مجال التكنولوجيات الناشئة من خلال مشاركة اليابان في أنشطة منظمة العلوم والتكنولوجيا التابعة للحلف. وتشارك اليابان أيضاً في برنامج العلوم من أجل السلام والأمن، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب والكشف عن الألغام والذخائر غير المنفجرة وإزالتها.

5 - إشادة الحلف بزيادة الإنفاق الدفاعي الياباني: زار الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، اليابان وكوريا الجنوبية، في يناير 2023، بهدف تعزيز العلاقات العسكرية بين الجانبين وبَحْث سُبُل مواجهة تنامي النفوذ الصيني في منطقة الإندوباسيفيك ذات الأهمية للقارة الأوروبية. وأجرى كيشيدا وستولتنبرغ، في لقاءات مختلفة، محادثاتٍ مُشترَكَة عن التهديدات العسكرية الصينية، أبدى فيها كيشيدا رغبته في المشاركة بانتظام في مؤتمرات مجلس الناتو، بل ومشاركة اليابان في التعاون الدفاعي مع حلف الناتو في المنطقة.

وقد أشاد ستولتنبرغ بزيادة الإنفاق الدفاعي الياباني الذي يعكس تركيز طوكيو المتجدد على مُختلَف القضايا والتهديدات الأمنية، ولاسيما أن تلك الزيادة ترقى إلى ذات النسبة التي يقرها الحلف، فطيلة العقود السابقة خصَّصت اليابان 1% تقريباً من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي حتى أقرَّت استراتيجية أمنية جديدة تتضمن خططاً لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% بحلول عام 2027. وقد جاء ذلك على خلفية تزايُد تهديد الصين وكوريا الشمالية، إلى جانب الحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على المشهد الأمني في آسيا. وعلى خلفية تلك التهديدات مجتمعة، قال ستولتنبرغ: "في عالم أكثر خطورة، يُمكِن لليابان الاعتماد على الناتو للوقوف إلى جانبها".

ثانياً: أسباب وتداعيات تقارُب الناتو واليابان:

لطالما أتت زيارات ينس ستولتنبرغ، وأسلافه إلى طوكيو في إطار أنشطة الحلف التوعوية الدبلوماسية المنفصلة عن أعماله الأساسية، بيد أن المؤشرات السابقة حملت في طياتها الحديث صراحةً عن التهديد الذي تُمثله الصين في ظل تعاونها الاستراتيجي مع روسيا، إلى جانب التهديدات الكورية الشمالية واحتدام التنافس في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ وهو ما أدى إلى توافق استراتيجي بين الناتو واليابان، خاصةً وأن الأخيرة هي العضو الوحيد في مجموعة السبع، الذي ليس عضواً في الناتو. ويكمن فَهْم أسباب التقارب بين الناتو واليابان وبعض التداعيات المُحتمَلَة لذلك، في النقاط التالية:

1 - العامل الروسي: أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية في تقارُب الناتو واليابان؛ فقد رأت الأخيرة أن تلك الحرب انتهاك صارخ للقانون الدولي، خاصة مع عِظَم الخسائر المادية والبشرية الأوكرانية. وعلى الرغم من دستورها السلمي وعدم عضويتها بالناتو، وبصفتها الدولة الآسيوية الوحيدة العضو في مجموعة السبع، شاركت اليابان موقف الناتو من العقوبات الدولية المفروضة على موسكو، وقدَّمت لأوكرانيا كمية محدودة من المعدات غير الفتاكة (مثل مركبات النقل، والسترات الواقية من الرصاص، والخوذات، والمعدات الطبية) من مخزون قوات الدفاع الذاتي اليابانية، وتوجهت صَوْب الشركاء الآخرين في مجموعة السبع.

ويرى كيشيدا، أن الحرب الروسية في أوكرانيا تُمثِّل تحدياً مباشراً لليابان، ولاسيما أنه لم يكن ملتزماً مثل سلفه شينزو آبي، بفكرة تحسين العلاقات اليابانية الروسية أو بإبرام معاهدة سلام مع روسيا. وعليه، يُمكِن الدفع بأن تأثيرات الحرب الأوكرانية تمتد بأشكال وبدرجات مختلفة إلى القارة الآسيوية، بعد أن دَفَعَ كيشيدا، بأن "أوكرانيا اليوم قد تصبح شرق آسيا غداً"، خاصة في ظل الصعود الصيني المضطرد، وفي ظل تنامي التعاون الاستراتيجي الروسي الصيني، واضطراب البيئة الأمنية في بحر الصين الجنوبي.

2 - رَدْع وتطويق الصين: يهدف التعاون بين الناتو واليابان، في جانب كبير منه، إلى رَدْع الصين، ولاسيما أن غالبية دول الحلف تَعتبِر صعود قوة الصين، الاقتصادية والعسكرية، تحدياً أمنياً لها. ومن جانبها، تنتقد الصين التقارب الكبير بين حلف الناتو واليابان وكوريا الجنوبية، خاصة مع إعلان اليابان عن زيادة إنفاقها الدفاعي؛ إذ ترى بكين أن هذا التقارب لا يهدف فقط لبسط نفوذ الحلف في المنطقة، بل إنه يأتي ضِمْن إجراءات عديدة لمحاصرة وتطويق الصين سياسياً واقتصادياً.

ويُمكِن الاستدلال على ذلك من تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانج وينبين، الذي قال إن "الولايات المتحدة واليابان تدَّعِيان أنهما تدافعان عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة، لكن ما يحدث هو إقامة كتل إقصائية مختلفة لخلق الانقسام والمواجهة... يزعمان أنهما يدعمان النظام الدولي القائم على القواعد، لكن ما يفعلانه هو الدوس على القانون الدولي... منطقة آسيا والمحيط الهادئ هي مرساة للسلام والتنمية، وليست ساحة للمنافسة الجيوسياسية".

3 – رد الفعل الصيني المُحتَمَل لتوجُه حلف الناتو شرقاً: ترى بكين أن خُطط فَتْح مكتب اتصال للناتو في طوكيو تطرح أسئلة عن نية الحلف من وراء ذلك؛ فقد اعتبرت الخارجية الصينية أن "توجهات الناتو في المنطقة تُشكِّل تدخلاً في الشؤون الإقليمية، ما قد يتسبب في مواجهة بين التكتلات القائمة، وفقدان هوية الناتو ليتحول إلى مؤسسة عالمية ودولية، دون استبعاد انضمام اليابان له في المستقبل البعيد.

وقد ذكرت بعض التحليلات الصينية أن اليابان تستدعي "الذئاب" إلى آسيا والمحيط الهادئ لإثارة الفوضى فيها، ما يستلزم رد الصين بشكل حاسم وقوي على أية تحركات مُوسَّعة بين الناتو واليابان، ويدفع قدماً جهود التحديث العسكري الصيني لمجابهة التهديدات المُحتمَلَة، واتخاذ إجراءات سياسية "انتقامية" ضد أي تحركات معادية لها.

إذن، يواصل الحلف تمدده خارج منطقة دفاعه التقليدية، ويستمر في تعزيز علاقاته الأمنية مع دول آسيا والمحيط الهادئ. وقد تُسهم تلك التحركات في تعجيل الاجتياح الصيني المُحتمَل لتايوان، ما يخلق مزيداً من التوترات في المنطقة؛ إذ يُتوقَّع أن تزيد الصين من وجودها العسكري في المنطقة، وأن تجري مزيداً من المناورات باستخدام كتل عسكرية ضخمة.

ولا شك في أن التغير في الموازين العسكرية القائمة في المنطقة سيثير غضب الصين، وهو تغيُر يجد جذوره في توسعة العلاقات العسكرية اليابانية مع الدول الآسيوية الحليفة للولايات المتحدة المتحدة، وكذلك مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وذلك بعد أن أصدرت الحكومة اليابانية استراتيجية جديدة للأمن القومي، تضمنت عزمها على تحديث جيشها من خلال مضاعفة إنفاقها الدفاعي وتخفيف القيود المفروضة على صادرات الأسلحة، ونَشْر صواريخ بعيدة المدى لاستباق هجمات العدو، في قطيعة واضحة مع مبدأ الدفاع عن النفس الذي تبنته اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ختاماً، قد يكون من المستحيل في المديين القصير والمتوسط أن تنضم اليابان إلى حلف الناتو، لكنها تتقاسم مع غالبية دول الحلف عدداً من المخاوف الأمنية والمصالح الاستراتيجية والقيم الأساسية، وتشاركها الموقف من الحرب الروسية في أوكرانيا، ويأتي التقارب بين الجانبين في ظل تنامي القدرات العسكرية الصينية، واستغلال الغرب العداء القديم بين اليابان والصين، ومساعي الناتو إلى تعميق ارتباطه بالحلفاء الآسيويين للغرب؛ وهو ما يثير مخاوف عدد من الدول الآسيوية والأوروبية على حد سواء، وقد يؤجج التوترات الأمنية المُحتدِمَة بالفعل في المنطقة؛ ولاسيما من جانب الصين، التي أكدت أنها "تعارض تحرُك الناتو شرقاً نحو آسيا والمحيط الهادئ"، وحذَّرت من أن "أي عمل يُهدِّد حقوق بكين سيُقابَل برد حازم".