"مخاوف التقسيم":

تداعيات الصراع بين "داعش" وحكومة العراق

05 July 2014


لا يمكن الحديث عما جرى مؤخراً في العراق دون الحديث عن أوضاع العراق خلال العام الماضي، فاستيلاء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف إعلامياً باسم "داعش" على الموصل وغيرها، لا ينفصل عما حدث في الأنبار والفلوجة خلال الفترة الماضية، فقد عمل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق عام 2003 تحت اسم "التوحيد والجهاد"، وكان رئيسه أبو مصعب الزرقاوي الذي سبق أن ذهب إلى أفغانستان، والتقى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي قدم له إمكانيات مادية ومعسكرات رغم اختلافهما في بعض توجهات العمل.

البدايات الأولى

اعتمد تنظيم "التوحيد والجهاد" على فلسطينيين وسوريين في البداية، وبدأ العمل في العراق تحت مسمى "تنظيم شورى المجاهدين"، ثم انضم إلى تنظيم القاعدة الأم، وأصبح اسمه تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وبدأ المتطوعون من جهات أخرى ينضمون إليه من جنسيات مختلفة، من آسيا والشيشان وبنجلاديش والهند وباكستان، وعدد من الدول العربية، بالإضافة إلى جهاديين من أوروبا.

وكانت الحركة الأساسية للراغبين في الانضمام للتنظيم تتم عبر سوريا لأن دخول العرب لم يكن يحتاج لتأشيرة دخول، وتمركز التنظيم في غرب العراق، وبصورة أساسية في ضواحي بغداد وفي الأنبار والفلوجة وأجزاء من محافظة الموصل وصلاح الدين، وكان مرور المجاهدين عبر سوريا قد خلف حالة من التعاون مع العشائر، حيث تعيش بعض القبائل عبر الحدود، ويتم إيواء العناصر التي يتم تدريبها ودفعها للعراق تحت حمايتها، والدليل أن الولايات المتحدة ضربت معسكراً تدريبياً على الحدود مع سوريا دون استئذان سوريا، وبالتالي أصبحت المنطقة على جانبي الحدود ملاذاً آمناً يتوفر فيها بناء لوجستي تابع لتنظيم القاعدة.

وتؤكد مصادر استخباراتية متعددة أن أحمد فضيل الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) مؤسس التنظيم قد تسلل من أفغانستان إلى شمال العراق عبر إيران، واستثمر التنظيم مناخ المقاومة الرافضة للاحتلال الأمريكي، خاصة في المناطق السنية في غرب العراق، وتحالف مع مجموعات المقاومة العراقية، واستفاد من دعمها في تأسيس بنيته التحتية ونشر شبكة من الخلايا المتدربة من الجهاديين لمحاربة الاحتلال الأمريكي.

وقد سعى التنظيم في تلك الفترة إلى أن يكون الإطار الذي تظهر فيه كل تنظيمات المقاومة؛ فنجح في دعم التعاون والإسناد بينه وبين العديد من فصائل المقاومة، وبالتالي توفرت له بيئة حاضنة قوية ووفر هو بدوره للمقاومة العراقية آنذاك العناصر المتطوعة للعمليات الانتحارية التي نقلت المقاومة إلى مستوى آخر أكثر فاعلية، وظل عمل التنظيم منصهراً مع نشاط المقاومة العراقية، ونجح في امتلاك كثير من الهيمنة وقيادة المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، وتوسع في بغداد وصلاح الدين وديالى والموصل وكركوك بعد أن كان قاصراً على الأنبار فقط.

انحسار التنظيم

بدأ يحدث تمايز بين الدولة الإسلامية في العراق وبين نشاط المقاومة، وحدث اختلاف في أجندة الطرفين منذ سنوات، وذلك بسبب ما يلي:ـ

  • إقدام التنظيم على استهداف الشيعة على غير رغبة قوى المقاومة الأخرى، ففي نهاية عام 2005 أصدر الزرقاوي فتاوى ضد الشيعة، فبدأت الحرب الطائفية، وبدأ التجذر الطائفي في العراق، والذي بلغ ذروته في عام 2006.
  • قيام عناصر تابعة للتنظيم بعمليات في الأردن استهدفت سفناً أمريكية في العقبة، فيما كان يعد بداية تحرك التنظيم خارج حدود العراق حتى بدا كأنه الكيان الجديد المعبر عن تنظيم القاعدة في المنطقة.
  • حدوث مصادمات بين التنظيم والمقاومة العراقية، خاصة مع إعلان قيادة تنظيم القاعدة إقامة إمارة إسلامية في العراق، الأمر الذي أدى إلى تزايد الحدة بينه وبين تنظيمات المقاومة، خاصة بعد تعيينه أمراء شرعيين لكل محافظة، وهم مجموعة من الشباب محدودي الثقافة والفكر، تبنوا ثقافة العنف كما لم يراعوا هيبة ولا مكانة رؤساء العشائر، مما دفع العديد من قيادات العشائر لسحب الغطاء والدعم الذي كان يتم توفيره لخلايا التنظيم.

وقد استثمرت الولايات المتحدة هذا الواقع وبدأت تشكل ما يعرف باسم "الصحوات"، وقدمت لها الدعم لمواجهة تنظيم القاعدة، بل إنها في مرحلة ما أخلت قوات الاحتلال من غرب بغداد وبعض أحياء العاصمة لتسهيل حركة عناصر الجيش الإسلامي خلال مواجهته مع القاعدة، حيث شهد عام 2007 ممارسات حادة للتنظيم مع فصائل المعارضة والعشائر، وهو ما حد من نفوذ التنظيم بصورة كبيرة.

عودة الحياة للتنظيم

بالرغم من نجاح الصحوات في تقليل نفوذ القاعدة، فإنه عندما خرجت القوات الأمريكية من العراق، بدأ رئيس الوزراء العراقي "نوري المالكي" يعامل مجموعات الصحوات على أنهم إرهابيون، وسعى إلى اضطهادهم ولم يدفع لهم رواتبهم، لتصبح مجموعات كبيرة منهم على وفاق مع تنظيم القاعدة.

ومع بداية الحرب في سوريا في عام 2011، بدأ تنظيم القاعدة في العراق يستغل علاقاته الحدودية خصوصاً مع بعض العشائر للانتشار في دير الزور والرقة وحمص وريف حماة، كما لعب دوراً تأسيسياً في إنشاء جبهة النصرة في سوريا. كما استفاد التنظيم من الحرب السورية لتعزيز عملياته في العراق، فبدأ التنظيم يقوى وينفذ سلسلة من الهجمات الانتحارية المتزامنة في عدة محافظات عراقية، كانت تستهدف القوات الحكومية والمدنيين من الشيعة، في مسعى لإثارة الحرب الأهلية في العراق من جانب، ولإيجاد مناخٍ مواتٍ لعمله من جانب آخر.

ثم حدث خلاف بين جبهة النصرة وداعش، فبعدما أصدر "أبو بكر البغدادي" أمير تنظيم القاعدة في العراق بأن داعش والنصرة ينضويان ضمن لوائه تحت مسمى "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام)، رفضت "النصرة" الاندماج فيه، ثم أعلن أيمن الظواهري زعيم القاعدة أن تنظيم داعش ولايته العراق فقط، أما النصرة ففي سوريا، لتبدأ خلافات التنظيم مع قيادة التنظيم الأم، ولذلك لم يعد التنظيم الأساسي لتنظيم القاعدة قادراً على لم شمل التنظيمات الفرعية التي لم تعد تمتلك القدرة على التمويل والتدريب والتوجيه.

واستطاع التنظيم استغلال الأزمة السياسية في العراق، وبدأ في التمدد في محافظة الأنبار مستغلاً في ذلك سيطرته على مساحات واسعة من الحدود العراقية – السورية، واستطاع التنظيم التمدد في الفلوجة والرمادي، ودخل في مواجهات عدة مع القوات الأمنية العراقية، والميليشيات الشيعية الموالية لها، والتي عجزت عن طرد التنظيم، ثم تمكن التنظيم في خطوة تالية من دخول الموصل؛ لأنها أقرب للرقة ودير الزور، وذلك بالرغم من التحذيرات التي وجهها الأكراد للحكومة المركزية بأن هناك تجمعات إرهابية تقترب من الموصل، والتي تجاهلتها الحكومة العراقية، لتتمكن القوات التابعة لداعش من الدخول إلى الموصل بعد انسحاب القوات الحكومية منها، ووجدت القوات العسكرية والأمنية التي تعود لعهد الرئيس العراقي السابق صدام حسين وتم تسريحها ومجموعات المقاومة المطاردة من المالكي أن مصالحهم تتلاقى وتتماشى مع ما تقوم به داعش في مواجهة الحكومة.

دولة العراق .. الخاسر الأكبر

وبتوسع داعش في غرب وشمال العراق، وحتى في بعض المناطق الشرقية منه، بدأ الحديث عن حرب طائفية، وما يدلل على ذلك نداء المرجع الشيعي العراقي "السيستاني" لمواجهة الإرهابيين وأعداء آل البيت، وهو تطور طائفي صريح، وكذلك وصول عناصر تنظيم عصائب أهل الحق إلى بغداد، وكذلك عناصر حزب الله العراقي، وعناصر منظمة بدر المدربة من الحرس الثوري الإيراني، وبدأ الحديث يخفت عن إقالة المالكي وتصاعدت نغمة مواجهة التكفيريين كأولوية من جانب الأحزاب الشيعية التي كانت منافسة له، ولهذا تعد تصريحات السيستاني دعماً للطائفية والهدف أن يبقى التحالف الشيعي والأغلبية الشيعية في الحكومة.

ولم يعد تنظيم داعش مخيفاً في العراق لأن قواته لا تتعدى الألف مقاتل، ولكن المجموعات الغاضبة التي تتحدث عن ثورة هي التي تتفاعل وتساند داعش، والخطورة لما يحدث في العراق أن تنظيم داعش والمساندين له قد يجدون فرصاً لاختراق مناطق قريبة من بغداد، ولذلك بدأ التفتيش على السلاح في الأحياء السنية مثلما حدث في الأعظمية.

ويعتبر الأكراد المستفيد الأكبر مما يحدث، حيث قامت قوات البشمركة باستكمال السيطرة على كركوك ومنطقة الشلالات في الموصل، ثم دخلت محافظة ديالى في مدينة المقدادية والسعيدية ولن تخرج منها، وهذه فرصة سانحة لها في ظل عدم وجود قوة مركزية حتى الآن، فهي تسيطر حالياً على المناطق التي كان متنازعاً عليها. ومن ناحية أخرى فإن هناك توجهات لتفاهمات أمريكية إيرانية، وإن كان من المستبعد التدخل الأمريكي في الوقت الحالي، ومن المتصور إجراء حديث أمريكي – إيراني لإقالة المالكي، ولكن ليس في هذا التوقيت، وسوف يؤثر ذلك بلا شك على الأوضاع في سوريا.

ومن الواضح ارتباك الموقف الأمريكي، وإن كانت الرؤية الأمريكية للعراق التي أعلنها نائب الرئيس الأمريكي "جو بايدن" ما تزال قائمة، وهي وجود الإقليم السني والإقليم الشيعي والإقليم الكردي وبقاء بغداد مستقلة، حيث الإقليم الشيعي شبه مكون بالفعل، وكردستان مستقلة بشؤونها، أما بغداد، فهي محاطة بدوائر وهوامش سنية، وبالتالي فإن إحكام السيطرة عليها يعد في منتهى الصعوبة، ولدى الولايات المتحدة قلق من عودة التنظيمات الجهادية لأن ذلك سوف يؤثر على الموقف الأمريكي والاتفاقية الأمنية.

أما الرئيس الإيراني حسن روحاني فقد صرح من قبل بأنه مستعد للتعاون مع الولايات المتحدة بخصوص العراق، وهو الأمر الذي جاء عرضاً في أحاديث بعض المسؤولين الأمريكيين الذين وإن لم يصرحوا بهذا التعاون بشكل قاطع، إلا أنهم قد بدأوا التعاون مع طهران بشأن ما يحدث بالعراق الآن، وهو ما يمثل التمهيد الضمني لتفتيت العراق على عكس تصريحات الولايات المتحدة التي تذهب إلى القول بأنها لن تسمح بتفتيت العراق، بينما يشير سلوكها إلى التوجه نحو هذا الاقتراب الخطير.