ارتدادات التوظيف:

كيف تواجه حكومة أردوغان الاعتداءات على العرب في تركيا؟

25 October 2023


عانت تركيا خلال الأشهر الماضية من تكرار حوادث الاعتداء ضد الأجانب من المقيمين والسياح العرب، ما أدى إلى تدشين بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية حملات لمقاطعة السياحة التركية؛ وهو ما يثير التساؤل حول الدوافع الكامنة وراء مثل هذه الحوادث، وكذلك الإجراءات والسياسات التركية للتعامل معها والحد منها، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في البلاد.

ظاهرة متكررة:

برزت المضايقات ضد السياح العرب في تركيا خلال الأشهر الماضية، بالتزامن مع انتخابات الرئاسة التركية في مايو 2023، وما أعقبها من إجراءات ضد اللاجئين السوريين وبعض الجنسيات الأخرى. وتجلى ذلك في وقوع حوادث اعتداء متكررة ضد السياح العرب من جنسيات مختلفة، فعلى سبيل المثال تم الاعتداء على سائح كويتي بالضرب من جانب مواطن تركي في مدينة طرابزون، يوم 16 سبتمبر الماضي، وعلى إثر ذلك أصدرت وزارة الخارجية الكويتية بياناً أكدت خلاله رفضها التام المساس بمواطنيها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكويتيين يعدون من أبرز الجنسيات العربية التي تزور تركيا، فوفقاً لوزارة السياحة التركية، بلغ عدد السياح الكويتيين الذين زاروا تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2023 نحو 163 ألفاً و496 سائحاً. 

كما تعرض مواطن مغربي مقيم في إسطنبول لواقعة اعتداء، يوم 20 أغسطس الماضي، من جانب أحد السائقين الأتراك، وأدى الاعتداء إلى وفاته، وهو ما تسبب في حدوث تفاعل عربي واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ضد هذه الاعتداءات المتكررة. وسبق ذلك حادثة اعتداء جماعي أخرى من جانب أتراك ضد اثنين من المواطنين اليمنيين، أحدهما طفل عمره 15 عاماً، في 2 أغسطس الماضي، على نحو تسبب في تصدر فيديو الاعتداء منصات التواصل الاجتماعي، والذي تفاعل معه العرب وعبرّوا عن غضبهم في صورة تعليقات سلبية.  

وتأتي كل هذه الوقائع بالتزامن مع حوادث اعتداء أخرى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، ومنها تعرض ثلاث سوريات، في شهر سبتمبر الماضي، لاعتداء لفظي وجسدي داخل إحدى الحافلات العامة في إزمير، ثالث أكبر المدن في تركيا، والتي تُعد أحد أهم معاقل حزب الشعب الجمهوري المعارض. 

وقد يكون لهذه الحوادث تداعياتها السلبية على مؤشرات حركة تدفق السياحة العربية الوافدة إلى تركيا. فوفقاً لعدد من التقارير، أُلغي نحو 60% من حجوزات العرب في تركيا خلال الموسم السياحي للعام الجاري. وربما لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يمتد تأثيره السلبي ليشمل الاستثمارات الأجنبية في تركيا. وفي هذا الإطار، ذكر ياسين أقطاي، المستشار السابق للرئيس رجب طيب أردوغان، في مقال نشرته صحيفة "يني شفق" التركية في 17 سبتمبر الماضي، أنه "مع انتشار الشائعات حول المشاعر المُعادية للعرب في تركيا، بدأ الشعور بعدد متزايد من عمليات إلغاء الحجوزات هذا الصيف. ولا يتعلق الإلغاء بالرحلات السياحية فقط، لكن غيرت العديد من الاستثمارات الرأسمالية مسارها.. وبلغت التكلفة الاقتصادية لهذه التصريحات والإجراءات العنصرية ما لا يقل عن 5 مليارات دولار".

دوافع كامنة:

يكمن وراء حوادث الاعتداءات والمضايقات التي يتعرض لها العرب في تركيا، مجموعة من العوامل التي أدت دوراً في تصاعد وتيرة تلك الحوادث خلال الفترة الماضية، ومن أبرزها ما يلي: 

1- إذكاء الخطاب القومي تجاه اللاجئين خلال الحملات الانتخابية: شهدت الانتخابات الرئاسية السابقة في تركيا، وخاصة جولة الإعادة فيها، تصاعد الخطاب القومي المناهض للاجئين سواءً من معسكر المعارضة الذي يقوده حزب الشعب الجمهوري، أو معسكر الرئيس أردوغان، الذي حاول قطع الطريق أمام المعارضة لاستقطاب أصوات القوميين من خلال ملف اللاجئين. وتمكن أردوغان من حشد أصوات القوميين، عبر رسائله الانتخابية المتعلقة بملف عودة اللاجئين السوريين، حيث أعلن الرئيس التركي عن مشروع لإعادة مليون سوري إلى بلادهم. كما تحدث وزير الخارجية التركي آنذاك، مولود جاويش أوغلو، قبيل جولة انتخابات الإعادة، عن سعي أنقرة لإعادة اللاجئين السوريين بشكل آمن، وإعادتها نحو 553 ألفاً إلى مناطق الشمال السوري. 

وفي أعقاب فوز أردوغان، تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتنفيذ ما أسماه الرئيس التركي أثناء حملته الانتخابية "العودة الطوعية للاجئين"، حيث أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا، عن خطة لضبط المهاجرين غير الشرعيين. ونتيجة لذلك، تم إطلاق حملات للتضييق على اللاجئين السوريين في عدد من المدن، وخاصة إسطنبول التي خسر فيها مرشح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية السابقة، بحيث تقوم هذه الحملات، وفقاً للمُعلن، بضبط اللاجئين مرتكبي المخالفات، ويتم بعد ذلك ترحيل بعضهم. وحسب تقارير غير رسمية، فقد رحّلت السلطات التركية في يونيو الماضي نحو 1538 لاجئاً، وفي شهر يوليو تجاوز العدد 700 لاجئ. كما أصدر أردوغان قراراً، في يوليو الماضي، بإعادة هيكلة إدارة الهجرة التركية، حيث تم تعيين أتيلا توروس رئيساً للإدارة، والذي يُعرف بوضعه الكثير من العراقيل أمام اللاجئين، ولاسيما منع التنقل بين الولايات خلال ترؤسه للإدارة بين عامي 2014 و2017. وربما أسهمت هذه الإجراءات بدورها في تكرار المضايقات ضد السياح العرب في عدد من المدن التركية، حيث يبدو أنهم أصبحوا هدفاً لبعض جوانب التوتر والاستقطاب في تركيا.

2- تراجع الأوضاع الاقتصادية: ربما كان لتراجع الأوضاع الاقتصادية في تركيا خلال السنوات الماضية، من ناحية ارتفاع معدل التضخم الذي بلغ 61.53% في شهر سبتمبر الماضي، وكذلك تدهور سعر صرف العملة المحلية "الليرة التركية"؛ أثره في تغذية خطاب الكراهية من قِبل البعض ضد الأجانب في تركيا وخاصة اللاجئين المقيمين؛ نظراً لتعزز نظرة هؤلاء إلى اللاجئين باعتبارهم عبئاً على الخدمات المقدمة للمواطنين الأتراك، وكذلك التأثير في معدلات البطالة في أوساط الشباب التركي، والتي بلغت -بحسب "المعهد التركي للإحصاء"- في يوليو الماضي نحو 9.4%.

ويساعد على تعزيز هذه النظرة السلبية، الخطاب الشعبوي الذي تتبناه المعارضة التركية لحشد أصوات القوميين، حيث أطلقت أحزاب المعارضة خلال السنوات الماضية، حملات إعلامية، وكذلك حملات عبر عشرات الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، للتحريض ضد اللاجئين السوريين بشكل خاص. وينسحب هذا الخطاب بدوره على المواطنين الأتراك الذين يعبرون عن شعورهم بكراهية الأجانب بشكل واضح عبر منصات التواصل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، تداول ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لشاب تركي يهاجم اللاجئين خلال مقابلة له مع إحدى القنوات التركية في شهر مايو الماضي، قائلاً: "هناك 10 ملايين مخلوق في بلادنا ليسوا بشراً، من عرب وأفغان وباكستانيين".

3- التوظيف السياسي والاقتصادي لملف اللاجئين: استهدفت الحكومة التركية طيلة السنوات الماضية، عبر استضافتها لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين جراء الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، استغلال هذا الملف وتوظيفه خارجياً من أجل تعظيم المكاسب السياسية والاقتصادية. وفي سبيل ذلك، ربما بالغت البيانات التي تصدر عن المسؤولين الأتراك بشأن معدلات الإنفاق الحكومي على اللاجئين، والتي ذهبت إلى تقدير إجمالي المبلغ بنحو 40 مليار دولار، وذلك من أجل تعزيز الحصيلة النقدية من المؤسسات الأوروبية المانحة، وهو ما كان له تأثيره السلبي في تغذية شعور الرفض للاجئين من جانب بعض الأتراك الذين يعانون من تداعيات الأزمة الاقتصادية في بلادهم، حيث دفعت هذه الأرقام هؤلاء الأتراك إلى الاعتقاد بأن حكومتهم كانت تنفق على اللاجئين من الضرائب الخاصة بهم.

وعلى مستوى السياسة الداخلية، تستهدف أطياف المعارضة استغلال ملف اللاجئين لحشد كتلة أصوات القوميين، التي مكنتهم خلال الانتخابات البلدية المحلية السابقة من الفوز بالمدن الرئيسة على غرار إسطنبول وأنقرة وإزمير. لذا تسعى المعارضة في الوقت الراهن، خاصة بعد خسارتها الانتخابات الرئاسية في مايو الماضي، إلى الحفاظ على مكتسباتها وحضورها في المدن الرئيسية، وذلك من خلال استمرار توظيف قضية اللاجئين السوريين والأجانب في تركيا كورقة للضغط على أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وإبقاء هذه الضغوط حتى إجراء الانتخابات المحلية المقبلة والمُقررة في 31 مارس 2024. وينعكس ذلك عبر التصريحات الأخيرة لقادة المعارضة، حيث ذهبت زعيمة حزب "الجيد" القومي، ميرال أكشنار، في أغسطس الماضي، إلى أن هناك محاولات من جانب الرئيس أردوغان وحكومته لإنشاء "سوريا صغيرة" في تركيا، وذلك بالتزامن مع تحريضات علنية من قِبل رئيس حزب "الظفر" المُعادي للاجئين، أوميت أوزداغ.

ولعل هذا ما تنبه له حزب العدالة والتنمية، الذي يحاول تكريس جهده لنزع هذه الورقة من يد المعارضة، عبر سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة أردوغان عقب الانتخابات الماضية، تمثّلت في حملات لترحيل المهاجرين غير الشرعيين ومخالفي شروط الإقامة.

4- عدم فاعلية الأطر القانونية ضد خطاب الكراهية: يعاني القانون التركي، بالرغم من تضمنه بعض المواد التي تجرم خطاب "الكراهية والتمييز" على غرار المواد 122 و216 من قانون العقوبات التركي، من عدم الفاعلية في مواجهة هذه الممارسات والمضايقات ضد الأجانب، وربما يعود ذلك إلى أسباب سياسية تتعلق بحسابات عملية الانتخابات والتوظيف السياسي لملف المهاجرين واللاجئين.

إجراءات حكومية:

بالتأكيد تعمل حكومة أردوغان على الحد من حوادث الاعتداء على سائحين ومقيمين عرب في تركيا، خاصة مع تحسن علاقاتها مع العديد من الدول العربية، ولاسيما الخليجية خلال الأشهر الماضية. وفي هذا الإطار، يبدو أن التعامل الحكومي التركي مع هذه الحوادث لا يزال قاصراً على نطاق الخطاب الرسمي الرافض لتلك الممارسات. وبرز ذلك في خطاب الرئيس أردوغان الذي ألقاه يوم 23 أغسطس الماضي، خلال حفل تخرج ضباط أكاديمية الدرك وخفر السواحل في أنقرة، والذي أكد خلاله رفض هذه الممارسات تجاه السياح الأجانب، موضحاً أن "تركيا ترحب بضيوفها الأجانب الذين يسهمون في الاقتصاد التركي"، وتابع: "لا يمكننا أن نسمح للعنصرية وكراهية الأجانب التي ليس لها مكان في تاريخنا وثقافتنا ومعتقداتنا بالانتشار في مجتمعنا". 

وتعكس مفردات هذا الخطاب الرئاسي الحرص على التعامل مع الأزمة من المنظور الاقتصادي بشكل خاص؛ نظراً للتدفقات المالية التي تحققها السياحة التركية في مداخيل الناتج القومي وباعتبارها أحد المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية. وتجدر الإشارة إلى أن العرب يمثلون رقماً لا يمكن الاستغناء عنه في السياحة المتدفقة إلى تركيا، حيث زارها بين شهري يوليو وديسمبر 2022 نحو 660 ألفاً من العراق، و500 ألف من السعودية، و279 ألفاً من الكويت، و272 ألفاً من الأردن، وفقاً للسفير التركي في الرياض، فاتح أولوصوي.

وهنا يبرز أيضاً دور متغيرات السياق الراهن المرتبطة بالحسابات السياسية ومحاولة حزب العدالة والتنمية الحاكم قطع الطريق أمام المعارضة لاستغلال أية إجراءات قد تقدم عليها الحكومة التركية لمواجهة هذه الممارسات ضدها في الانتخابات المحلية في مارس 2024. وبالتالي ليس متوقعاً أن يتم اتخاذ إجراءات جذرية للتصدي لهذه المضايقات خلال الفترة المقبلة، وربما ستتم الاستعاضة عن ذلك بالمواجهة الخطابية وبعض إجراءات إنفاذ القانون ضد منفذي تلك الاعتداءات. وهذا ما ظهر في التعامل مع أزمة السائح الكويتي في سبتمبر الماضي، حيث تفاعل عدد من مؤسسات الدولة التركية معها، ويأتي في مقدمتها وزارة الداخلية التي أعلنت القبض على المعتدي فور وقوع الحادثة. كما أعلن وزير العدل التركي، يلماز تونج، أن بلاده لن تتسامح مع المحرضين على كراهية الأجانب، مؤكداً أنهم سيتعاملون بحزم مع من يقومون بنشر الأخبار الكاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك العمل مع المدعين العامين لفتح تحقيقات بشأن تلك الأفعال.

من جانب آخر، اتجهت الحكومة التركية لتعزيز خطابات التوعية في أوساط الأتراك، من خلال تخصيص رئاسة الشؤون الدينية خطبة الجمعة الأولى من شهر سبتمبر الماضي لمكافحة التمييز على أساس عنصري.

إجمالاً، تمثل حوادث الاعتداء والمضايقات التي يتعرض لها العرب في تركيا، أحد العوارض الكاشفة عن حالة الاستقطاب السياسي التي يعانيها الداخل التركي، وهو ما يؤكد الحاجة لسياسات تدخل عاجلة من جانب الحكومة التركية من أجل الحد من تصاعد خطاب الكراهية ضد السياح العرب، وكذلك تفعيل العقوبات القانونية وتغليظها ضد الاعتداءات المدفوعة بخطاب تمييزي، فضلاً عن أهمية وجود تحركات موازنة من جانب حزب العدالة والتنمية وقواعده تجاه الخطاب التحريضي الذي تقوم به بعض المعارضة في الشارع التركي، بالإضافة إلى محاولة ترشيد توظيف ملف اللاجئين والمهاجرين في الخطاب السياسي العام، وربط ذلك بتداعيات هذا الخطاب على الوضع الاقتصادي المتراجع، على نحو سيُوجد لهذا التحرك حاضنة شعبية وقبولاً مجتمعياً لنبذ خطاب الكراهية من قِبل بعض الأتراك ضد العرب.