أبعد من الكرة:

الدلالات الحقوقية والاجتماعية لـمونديال السيدات 2023

26 August 2023


أقيمت يوم الأحد الموافق 20 أغسطس المباراة الختامية لمونديال السيدات، وجمعت بين منتخبي إسبانيا وإنجلترا للسيدات، وانتهت بفوز إسبانيا باللقب في النسخة التاسعة من البطولة التي جرت فعالياتها في الفترة 20 يوليو - 20 أغسطس 2023 بين دولتي أستراليا ونيوزلندا. وعلى الرغم من أن البطولات النسائية لكرة القدم تأتي في مرتبة متأخرة على سلم الشعبية مقارنة ببطولات الرجال في الرياضة ذاتها التي يعتبرها كثيرون لعبة خاصة بالرجال، فإنه من اللافت للانتباه أن هذه النسخة من مونديال السيدات حظيت بقدر عالٍ من الزخم على مستوى العالم بأسره، وذلك على نحو يفوق سابقاتها من البطولات النسائية، وهو ما يمكن ربطه بعدد من المتغيرات لا تتعلق فقط بفنيات لعبة كرة القدم كرياضة وإنما تجد تفسيراتها في عدد من الاعتبارات الأخرى.  

تحولات كرة القدم النسائية: 

فنياً شهدت هذه النسخة من مونديال السيدات عدداً من المتغيرات المثيرة للجدل، فمن ناحية أولى شارك في البطولة 32 منتخباً لأول مرة بزيادة ثمانية فرق عن كأس العالم السابق (فرنسا 2019)، ورغم أن البعض رأى أن زيادة المنتخبات المشاركة سوف تؤثر سلباً في التنافسية وجودة البطولة، فإن هذه الخطوة عززت مكانة كرة القدم النسائية.  ومن ناحية أخرى، أعلن الفيفا زيادة إجمالي قيمة جوائز البطولة بنسبة 300٪ أي إلى 150 مليون دولار ما يعني ارتفاعاً بمعدل ثلاثة أضعاف عن مونديال 2019 و10 أضعاف عن بطولة 2015.

 ومن ناحية ثالثة، شهدت هذه النسخة من البطولة متغيراً تحكيمياً تمثل بإقرار نظام قرارات حكم الفيديو المساعد (VAR) في الوقت الفعلي، للجمهور والمتابعين خلف شاشات التلفزيون، وهو ما يُعد أول تفعيل لهذا المفهوم في بطولة كبرى بعدما اختُبِرَ في كأس العالم للأندية للرجال في المغرب وكأس العالم تحت 20 عاماً للرجال في الأرجنتين هذا العام.  

ويثير ذلك القرار جدلاً بين من يعتبرونه فرصة لمزيد من الشفافية والتفهم للقرارات التي يتخذها الحكام خلال المباريات، وآخرين قلقين من مسألة شرح ما حصل باللغة الإنكليزية لأنها ليست اللغة الأم لكثيرين من الحكام، مما يزيد الضغط عليهم. 

نسب مبيعات غير مسبوقة: 

تجاوزت مبيعات تذاكر هذه البطولة قبل بدايتها مليوناً و32 ألفاً و884 تذكرة، وهو رقم كبير بالنسبة للبطولات النسائية، يتجاوز إجمالي تذاكر كأس العالم للسيدات 2019 في فرنسا، الأمر الذي يعني أن هذه النسخة من مونديال السيدات تمثل الحدث الرياضي النسائي الأكثر حضوراً في التاريخ. وهذا ما تأكد مع حضور اليوم الافتتاحي للبطولة حيث بلغ عدد الجماهير أكثر من 117 ألف مشجع، ازدحمت بهم مدرجات إيدين بارك وملعب أستراليا، وتابع 42137 متفرجاً فوز منتخب نيوزيلندا على نظيره النرويجي. وهو رقم قياسي على مستوى الحضور الجماهيري لمباراة في كرة القدم بهذا البلد على صعيد مسابقات الرجال والسيدات. 

بينما تابع اللقاء الثاني بين أستراليا وجمهورية أيرلندا ما لا يقل عن 75784 مشجعاً من المدرجات في سيدني، وهي أعلى نسبة حضور في مباراة ضمن كأس العالم للسيدات منذ 24 عاماً، وبعد اختتام الجولة الأولى من المباريات بلغ إجمالي الحضور 459547 متفرجاً في أول 16 مباراة، أي بمتوسط 28721 متفرجاً للمباراة الواحدة - بزيادة تبلغ 54% مقارنة بأول 16 مباراة في النسخة السابقة التي استضافتها فرنسا عام 2019.  كذلك حظيت فعاليات مهرجان المشجعين بشعبية كبيرة أيضاً، علماً بأنها تُنظم لأول مرة في تاريخ بطولة كأس العالم للسيدات.

على صعيد متصل، سبق البطولة جدل ملحوظ حول حقوق بث المباريات بين الفيفا والدول الأوروبية، حيث دعا وزراء فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا في بيان مشترك لضرورة الموازنة بين المصالح المشروعة وقيود الميزانية التي تثقل كاهل أصحاب الحقوق والقنوات المستقلة والقيود التنظيمية المؤثرة في القيمة السوقية للحقوق من ناحية، ودور الإعلام في تسليط الضوء على الرياضة النسائية وما له من تأثير كبير في تطوير مشاركة الفتيات والمرأة في الرياضة من ناحية أخرى. فيما انتقد جاني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم القنوات الناقلة للبطولة قائلاً إنها قدمت عروضاً "أقل بـ 100 مرة" مقارنة ببطولة الرجال، مؤكداً أنه "من واجبنا الأخلاقي والقانوني عدم بيع كأس العالم للسيدات بمبلغ أقل من المستحق". كما أكد الفيفا أنه لن يكون هناك "تعتيم" على بطولة كأس العالم 2023 لكرة القدم للسيدات في ظل الخلاف القائم حول حقوق البث، وأن هناك خطة بديلة تتمثل في بث المباريات عبر الإنترنت. 

إطلاق مبادرات اجتماعية موازية

شكلت هذه النسخة من مونديال السيدات مجالاً واسعاً لاختبار توازنات السياسة الدولية بين السعي لتكريس العمل الاجتماعي الجماعي من جانب وبين ما تفرضه اعتبارات الصوابية السياسية من جانب آخر، وهذا ما اتضح مع إطلاق 8 مبادرات توعوية خلال البطولة في إطار الدور الاجتماعي للفيفا وكرة القدم، ضمن إطار حملة “كرة القدم توحد العالم”، هي: 

1. معاً من أجل الإدماج - بالشراكة مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.

2. معاً من أجل الشعوب الأصلية - بالشراكة مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.

3. معاً من أجل المساواة بين الجنسين - بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

4. معاً من أجل السلام - بالشراكة مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.

5. معاً من أجل التعليم للجميع - بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

6. معاً من أجل القضاء على الجوع - بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي لمنظمة الأمم المتحدة.

7. معاً من أجل إنهاء العنف ضد المرأة - بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

8. كرة القدم تُذكي البهجة والسلام والحب والأمل والشغف - بالشراكة مع منظمة الصحة العالمية.

وعلى الرغم من الاهتمام بالمبادرات الاجتماعية إلا أن منظمي البطولة سعوا لتجنب اللغط الذي أثير خلال مونديال الرجال في العام الماضي بسبب دعم قضية المثلية الجنسية من قبل بعض المنتخبات المشاركة في البطولة، ومن ثم أعلن (فيفا) بأنه لن يسمح للاعبات بارتداء شارة "وان لاف" في مباريات كأس العالم للسيدات لكرة القدم، مؤكداً أن ارتداء أي شارة غير متوافق عليها في المباريات سيتسبب في عقوبات، وهو ما اعتبره المراقبون محاولة لتفادي تكرار أزمة شارة "وان لاف" التي سيطرت على الأسبوع الأول من بطولة كأس العالم للرجال في قطر العام الماضي. 

دعم المساواة بين الجنسين 

تأتي هذه النسخة من مونديال السيدات في إطار ما يمكن اعتباره تحركاً منظماً من قبل اللاعبات للمطالبة بالمزيد من الاهتمام والمساواة مع اللاعبين الرجال في اللعبة ذاتها، وقامت لاعبات من عدة بلدان باتخاذ إجراءات فعلية، أو مخاطبة الاتحادات الوطنية في بلدانهن بشأن قضايا مثل الأجور والموارد المخصصة لهن.  كما كانت هناك دعوات بجميع أنحاء العالم لمزيد من التمويل والبحث في مجال صحة المرأة وانخراطها في الرياضة بصفة عامة. وقد أسفرت هذه التحركات عن زيادة مخصصات مكافآت بطولة كأس العام للسيدات 2023 بنسبة 300% كما سبقت الإشارة، وعلى الرغم من أنها ما زالت أقل بكثير من إجمالي جوائز مونديال قطر للرجال والتي بلغت 440 مليون دولار فلا يمكن التقليل من أهمية قرار الزيادة نفسه، الذي لم يأت من فراغ؛ حيث كتبت مجموعة مكونة من 150 لاعبة من 25 منتخباً، منها إنجلترا واسكتلندا وويلز وأيرلندا إلى الفيفا في أكتوبر الماضي يطالبن بالمساواة مع اللاعبين الرجال وأن توزع 30% من الجوائز المالية للبطولة على اللاعبات. ولم يكن هناك سابقاً أي شرط على الاتحادات الوطنية لتوزيع حد أدنى من أموال جوائز كأس العالم على اللاعبات المشاركات في المونديال. كذلك، وللمرة الأولى، سيقدم الفيفا مكافآت مباشرة للاعبات نظير مشاركتهن في البطولة، ويتزايد حجم المكافأة طبقاً للمرحلة التي سيصل إليها كل منتخب في الأدوار المختلفة بالبطولة. وتتراوح هذه المكافآت بين 30 ألف دولار للاعبة، التي سيخرج فريقها من دور المجموعات إلى 270 ألف دولار للاعبة التي سيتوج فريقها بلقب البطولة. 

حضور  خاص للمرأة العربية

كان للمرأة العربية حضور إيجابي ملموس في هذه النسخة من مونديال السيدات وهو ما تجلى أساساً في مشاركة منتخب المغرب والملقب بـ "لبؤات الأطلس" في فعاليات البطولة كأول منتخب عربي يشارك في مونديال السيدات، كما نجحت اللاعبات في تجاوز دور المجموعات والوصول إلى ثمن النهائي. وعلى الرغم من هزيمة الفريق المغربي أمام نظيره الفرنسي، كانت المشاركة المغربية لافتة للانتباه لاعتبارات عدة لعل منها الأجواء التي خلقتها الجماهير المغربية في ملاعب المباريات الأربع التي خاضتها اللاعبات المغربيات، لتعيد إلى الأذهان مساهمة الجماهير المغربية بشكل كبير في دعم المنتخب الوطني في مونديال قطر 2022 للرجال عندما وصل المغرب إلى نصف النهائي. 

بيد أن الأهم من ذلك هو دلالات الدعم الجماهيري المغربي للاعبات منتخبهن حيث اعتبر كثيرون أنهن نجحن في تغيير الأفكار المسبقة حول كرة القدم النسائية وتحطيم بعض الأفكار النمطية إزاء مكانة المرأة في الفضاء العام.

فيما يمكن القول إن الحضور المشرف للبؤات الأطلس في مونديال السيدات يعكس تطوراً على الساحة الداخلية المغربية فيما يخص مكانة المرأة خاصة في المجال الرياضي عبر استراتيجية طموحة لدعم الأندية وتوفير الاستثمار للبنية التحتية ولدفع رواتب مدربين أجانب ناجحين. ففي أغسطس 2020، وقع الاتحاد المغربي لكرة القدم اتفاقاً مع دوري السيدات الوطني لجعل المنافسة احترافية.  والإعلان عن خطط زيادة عدد النساء اللاتي يمارسن رياضة كرة القدم ليصل إلى 90 ألف سيدة بحلول عام 2024، وتمرين 10 آلاف مسؤولة تنفيذية لإدارة العديد من النوادي والمسابقات الجديدة، ولتحقيق تلك الأهداف، ارتفعت ميزانية كرة القدم النسائية إلى 65 مليون دولار – أي بمعدل 10 أمثالها في السابق.

على صعيد متصل، شهدت هذه النسخة من مونديال السيدات أول تطبيع لظهور الحجاب في كأس العالم للسيدات لكرة القدم على مستوى الكبار، وذلك من خلال ممثلتين، الأولى هي المغربية نهيلة بنزينة التي تُعد أول لاعبة ترتدي الحجاب في هذا السياق، وكان دور نهيلة بارزاً في البطولة حيث ساعدت منتخب المغرب في الفوز على كوريا الجنوبية ثم كولومبيا بعد الخسارة في أول مباراة أمام منتخب ألمانيا 6-0، ليصعد الفريق المغربي إلى مرحلة خروج المغلوب وسط إشادة بالجدار الحديدي لدفاع منتخب المغرب والذي قادته نهيلة. والأهم من ذلك، أن بنزينة منحت وعياً بمسار الاندماج الديني في عالم الرياضة وقبول تقاليد اللاعبات على اختلافها. أما الممثلة الأخرى للحجاب في البطولة فهي الفلسطينية هبة سعدية، التي دخلت تاريخ كرة القدم للسيدات، بعدما صارت أول سيدة محجبة تشارك في تحكيم مباراة في تاريخ كأس العالم لكرة القدم للسيدات بمشاركتها في تحكيم مباراة إنجلترا والصين في ختام منافسات المجموعة الرابعة للمونديال.