استعراض للقوة!

هل تُنهي اشتباكات طرابلس الأخيرة حالة الهدوء النسبي في الداخل الليبي؟

14 August 2023


شهدت العاصمة الليبية طرابلس، في 14 أغسطس 2023، اشتباكات عنيفة بين اللواء 444، التابع لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وقوات جهاز الردع الخاصة، التابعة للمجلس الرئاسي الليبي. وقد أشار مركز طب الطوارئ والدعم في ليبيا، إلى أن حصيلة ضحايا تلك الاشتباكات ارتفعت إلى 55 قتيلاً و146 جريحاً.

اشتباكات عنيفة:

يمكن الإشارة إلى أبرز أبعاد الاشتباكات العنيفة التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس، خلال الأيام الأخيرة، على النحو التالي:

1- اعتقال آمر اللواء 444: قامت قوات جهاز الردع الخاصة، برئاسة عبدالرؤوف كارة، باعتقال آمر اللواء 444، محمود حمزة، في مطار معيتيقة، وذلك في 14 أغسطس 2023، وهو ما أدى إلى حشد عسكري مكثف من قبل المجموعتين العسكريتين في محيط المطار، وانتشار لافت للآليات العسكرية الثقيلة على طريق الشط المؤدي للمطار، فضلاً عن وقوع اشتباكات بين الطرفين في منطقة "عين زارة"، جنوب العاصمة طرابلس.

ويُعد جهاز الردع واللواء 444 أكبر قوتيْن مسلحتيْن وأكثرهما نفوذاً وتنظيماً في العاصمة الليبية، ويتبع الأول المجلس الرئاسي الليبي، برئاسة محمد المنفي، ويسيطر على غالبية المناطق بشرق ووسط طرابلس، ناهيك عن سيطرته المطلقة على قاعدة معيتيقة العسكرية ومطارها، والذي يُعد المطار المدني الوحيد بغرب ليبيا. في المقابل، يتبع اللواء 444 وزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، ويسيطر على جنوب طرابلس، بالإضافة لعدد من المدن الرئيسة بغرب ليبيا، أبرزها ترهونة وبني وليد، فضلاً عن سيطرته على الطريق الرئيس بين طرابلس وجنوب ليبيا.

2- إدانات دولية وإقليمية: أثارت الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها العاصمة الليبية قلقاً دولياً وإقليمياً واسعاً، فقد دعت البعثة الأممية لدى ليبيا إلى ضرورة الوقف الفوري للتصعيد ووضع حد للاشتباكات العنيفة بين طرفي النزاع، كما أعربت السفارة الأمريكية في طرابلس عن قلقها إزاء هذه الاشتباكات، داعية إلى وقف التصعيد والحفاظ على مكتسبات الفترة الماضية وحالة الاستقرار القائمة. وعلى المنوال ذاته، طالبت السفارة البريطانية والفرنسية في ليبيا بضرورة الوقف الفوري للتصعيد العسكري في طرابلس.

كما أعربت عدة قوى إقليمية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر، عن قلقها من الاشتباكات المسلحة في طرابلس، داعيةً إلى ضرورة ضبط النفس والحفاظ على الاستقرار والأمن في البلاد. كما، أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها من الاشتباكات المسلحة في طرابلس، وطالبت بالوقف الفوري لهذه الأعمال العنيفة، وضرورة الإسراع في جهود توحيد مؤسسات الدولة الليبية.

3- انفراجة حذرة للأزمة: بينما التزمت حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي الليبي الصمت حيال هذه الاشتباكات في بداية الأزمة، عمد الدبيبة إلى إجراء مشاورات مع بعض أعيان منطقة سوق الجمعة، جنوب شرق العاصمة الليبية، والتي تُعد أحد معاقل جهاز الردع، أفضت إلى التوصل لتوافقات جديدة، ووضع حد للاشتباكات العنيفة في طرابلس. 

وقد كشفت بعض التقارير عن توصل الدبيبة، بصفته وزيراً للدفاع في حكومته، إلى اتفاق مع آمر جهاز الردع، عبدالرؤوف كارة، يفضي إلى تسليم آمر اللواء 444، محمود حمزة، إلى جهة محايدة، هي جهاز دعم الاستقرار، حيث قام الأخير بالإفراج عن حمزة لاحقاً، وإنهاء المواجهات المسلحة في طرابلس، وقد لفتت هذه التقارير إلى أن هذا الاتفاق جرى بوساطة من قبل وزير الداخلية المكلف بحكومة الدبيبة، عماد الطرابلسي، والذي قرر تشكيل غرفة أمنية داخل العاصمة، تتولى فض الاشتباكات ونشر عناصر أمنية من هيئة الشرطة، لتحقيق استتباب الأمن بأسرع وقت ممكن.

دلالات مهمة:

أعادت الاشتباكات الأخيرة حالة عدم الاستقرار للعاصمة الليبية طرابلس، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاشتباكات ليست الأولى بين الطرفين، فقد اندلعت مواجهات سابقة بينهما، كان آخرها في مايو 2023، عندما اعتقل جهاز الردع أحد قيادات اللواء 444، بيد أن التصعيد الأخير بين الطرفين عكس جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:

1- الاشتباكات الأعنف خلال الأشهر الأخيرة: تُعد الاشتباكات التي شهدتها طرابلس أخيراً هي الأعنف منذ بداية العام الجاري، حيث شهدت هذه المواجهات استخداماً للأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وقد اعتبرت بعض التقارير الغربية أن هذه الاشتباكات تدحض مزاعم الدبيبة المتكررة ببسط سيطرته المطلقة على المشهد في غرب ليبيا، كما كشفت هذه المواجهات عن مدى هشاشة حالة الاستقرار التي يشهدها الداخل الليبي خلال الأشهر الأخيرة، وأن سيناريو العودة للاقتتال لا يزال قائماً بقوة. 

2- تصدع التحالفات القائمة: عكست حدّة المواجهات الأخيرة بين قوات جهاز الردع واللواء 444، تصدّعات ملحوظة في التحالفات السابقة بين الطرفين، فقد تحالفت المجموعتان سابقاً لدعم حكومة الدبيبة، في مواجهة المحاولات المتكررة للرئيس السابق لحكومة الاستقرار المُكلفة من قبل البرلمان، فتحي باشاغا، لدخول العاصمة طرابلس. 

وفي هذا السياق، أشار تقرير نشرته شبكة "دويتشه فيله" الألمانية إلى أن الاشتباكات الأخيرة التي وقعت بين جهاز الردع واللواء 444 تعكس أحد ملامح التنافس الحاد على السلطة والنفوذ بين المليشيات المسلحة في العاصمة طرابلس، لافتاً إلى أن هذا التنافس يخلق حالة مستمرة من الفك والتركيب للتحالفات القائمة وولاءات هذه المجموعات.

3- استعراض للقوة بين حفتر والدبيبة: أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى أن عملية اعتقال آمر اللواء 444، محمود حمزة، لا يستبعد أن تكون أحد ملامح عملية استعراض للقوة بين قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، والدبيبة، خاصةً في ظل المزاعم الراهنة بشأن تقارب جهاز الردع مع حفتر، مقابل موقف حمزة المعارض تماماً لأي تفاهمات مع قائد الجيش الليبي.

وفي هذا الإطار اعتبرت تلك التقارير أن التحركات التي شهدتها الأشهر الأخيرة بين حفتر والدبيبة بغية التوصل لتفاهمات تفضي إلى توازنات سياسية جديدة في المشهد الليبي ربما تكون قد أثارت تخوفات قادة بعض المجموعات المسلحة في طرابلس من الانعكاسات المحتملة لهذه التفاهمات على التوازنات القائمة للمجموعات المسلحة المختلفة، ومن ثم خسارة بعض هؤلاء القادة لمكتسباتهم الراهنة.

وعلى المنوال ذاته، ربطت بعض التقديرات بين التصعيد الذي شهدته طرابلس واللقاء الأخير الذي جمع حفتر ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، في بنغازي، في 13 أغسطس 2023، خاصةً وأن جهاز الردع الذي قام باعتقال قائد اللواء 444 يخضع فعلياً للمجلس الرئاسي، وبالتالي لم تستبعد هذه التقديرات وجود تفاهمات جرت بين المنفي وحفتر للضغط على حكومة الدبيبة، والتي تزايد نفوذها أخيراً بعد انتخاب الرئيس الجديد للمجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، والذي يُنظر إليه على أنه قريب من الدبيبة، وربما يعزز هذا الطرح التقارير التي تُشير إلى اتجاه المجلس الرئاسي لتنظيم مؤتمر للمصالحة الوطنية بنهاية أغسطس 2023، برعاية الاتحاد الإفريقي، ويستهدف جمع كافة الاطراف الفاعلة في المشهد الليبي.

4- رؤى متباينة بشأن مستقبل حكومة الدبيبة: تباينت التقديرات الغربية بشأن الانعكاسات المحتملة للاشتباكات الأخيرة في طرابلس على حكومة الدبيبة، فبينما اعتبرتها بعض التقديرات بمثابة انتكاسة جديدة للدبيبة، كشفت عن ضعف سيطرته على المليشيات المسلحة المنتشرة في غرب ليبيا، وبالتالي احتمالية أن تؤثر هذه الاشتباكات في مدى تمسك الغرب باستمرار حكومة الدبيبة ورفض سيناريو تشكيل حكومة جديدة، طرحت تقديرات أخرى رؤية مغايرة مفادها أن نجاح الدبيبة في احتواء هذا التصعيد بشكل سريع ربما يعزز صورته الخارجية، بل إن هذه التقديرات لم تستبعد احتمالية أن يعمد الدبيبة خلال الفترة المقبلة إلى اتخاذ جملة من الاجراءات التي تستهدف تعزيز سيطرته على المجموعات المسلحة في طرابلس، وزيادة نفوذ المجموعات الموالية له.

ارتدادات مُحتملة:

هناك جملة من التداعيات المحتملة التي ربما تتمخض عن التصعيد العسكري الأخير في العاصمة الليبية، يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:

1- عدم استبعاد تجدد الاشتباكات: على الرغم من حالة الهدوء الحذر التي تسيطر على المشهد في طرابلس حالياً، في أعقاب الاتفاق الأخير الذي أفضى إلى وقف إطلاق النار، فإن ثمة تقديرات غربية حذرت من احتمالية تجدد الاشتباكات بين الطرفين خلال الفترة المقبلة.

وفي هذا الإطار، رصدت بعض التقارير الغربية استمرار عملية التحشيد العسكري من قبل بعض المجموعات المسلحة في العاصمة طرابلس، على الرغم من توقف الاشتباكات التي اندلعت أخيراً بين جهاز الردع واللواء 444، وهو ما يعكس حالة من الترقب والاستنفار من قبل المليشيات المسلحة في غرب ليبيا، واحتمالية استئناف المواجهات العنيفة مرة أخرى.

2- إعادة الزخم للمسار السياسي: ألمحت بعض التقديرات إلى أن التصعيد العسكري الأخير الذي شهدته العاصمة الليبية ربما يعيد الزخم الدولي للمسار السياسي كمخرج لحالة التشظي الراهنة، وبالتالي ربما يعمد المبعوث الأممي في ليبيا، عبدالله باتيلي، إلى توظيف التوترات الأخيرة من أجل إعادة طرح مبادرته السابقة، والتي تستهدف تشكيل لجنة توجيهية عليا، منوط بها إنجاز القوانين الانتخابية والتحضير للانتخابات المقبلة، خاصةً وأن الأيام الأخيرة كانت قد شهدت مؤشرات عدة تتعلق بهذا الشأن، كان أبرزها الانتقادات الحادة التي وجهها رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، للمبعوث الأممي، بسبب مساعيه لطرح مسار موازٍ لمسار مجلسي النواب والدولة.

3- ترتيبات جديدة مُحتملة: رجّحت العديد من التقديرات الغربية أن الملف الليبي ربما يكون مقبلاً على ترتيبات جديدة يجري التحضير لها حالياً، ربما تتمخض عنها توازنات سياسية وعسكرية جديدة في المشهد الداخلي، وقد استندت هذه التقديرات إلى المتغيرات التي طرأت على الملف الليبي خلال الآونة الأخيرة، خاصةً فيما يتعلق بانتخاب رئيس جديد للمجلس الأعلى للدولة في ليبيا، بدلاً من المشري، وحالة الغموض التي تهيمن حالياً على موقف المجلس ورئيسه الجديد من التوافقات السابقة مع مجلس النواب بشأن خريطة الطريق الجديدة التي تستهدف الإطاحة بحكومة الدبيبة، فضلاً عن التحركات الجارية التي تستهدف ضمان التوزيع العادل لعائدات النفط، لتجنب أي تصعيد عسكري غير محسوب.

وفي التقدير، يمكن القول إنه رغم احتواء الاشتباكات التي جرت أخيراً في طرابلس بشكل سريع، إلا أنها تبقى كاشفة لعمق الأزمة في غرب ليبيا، ومدى تحكم الكيانات المسلحة، المختلفة الرؤى والمصالح، في المشهد الليبي، بشكل يتجاوز قدرات وقرارات المؤسسات الرئيسية في ليبيا. وعليه، فقد يبقى المشهد الليبي تطغى عليه حالة من عدم اليقين، بيد أن المواجهات العنيفة الأخيرة ربما تعيد حالة الزخم الدولي والإقليمي للملف الليبي، والدفع نحو بلورة ترتيبات جديدة تحول دون انزلاق البلاد نحو حرب أهلية جديدة.