فجوات الإغاثة:

عوامل تفاقم الأزمات الإنسانية في صراعات الشرق الأوسط

02 August 2023


تتسم العديد من الصراعات الدائرة حالياً في منطقة الشرق الأوسط بأنها حروب داخلية تنخرط فيها الحكومات المركزية ضد مليشيات وفواعل مسلحة من غير الدول، وقد أدى طول أمد هذه الصراعات وطابعها العنيف إلى وجود أزمات إنسانية فادحة. وتُسلط العديد من التحليلات الضوء على حالات القتل والإصابات في صفوف المدنيين، وانتشار الجوع والأمراض بفعل انهيار نُظم الرعاية الصحية وتفشي سوء التغذية، وموجات النزوح الداخلي. والنتيجة المفزعة أن عدد الأشخاص الذين يعانون ويموتون بسبب التأثيرات غير المباشرة للحروب في بعض دول الإقليم ربما يتفوق على نظرائهم ممن يموتون جراء سير العمليات الحربية والعنف المباشر المرتبط بها. ومع ذلك، لا تزال جهود الإغاثة الإنسانية الدولية والإقليمية في تلك الصراعات والحروب تواجه عقبات، وعلى نحو يهدد بتفاقم الظروف المعيشية والإنسانية بها.

أزمات إنسانية:

ثمة العديد من الصراعات في الإقليم، التي تشهد تدهور الأوضاع الإنسانية بها؛ في ظل استمرار هذه الصراعات وعدم إيجاد حلول تنهيها أو تحد من تداعياتها السلبية، ومنها الآتي:

1- أزمة اليمن: يواجه اليمن واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم منذ نحو 9 سنوات من الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية، وما تبعه من تصعيد المليشيا الحوثية هجماتها العسكرية وعرقلتها أي حل سياسي لإنهاء هذا الصراع. وتُقدر الإحصائيات الأممية أن ما يربو على 3 ملايين يمني قد تركوا وطنهم بسبب الصراع، بينما يعاني مليونان آخران من التهجير الداخلي، ويزيد من تدهور تلك الأوضاع الكارثية أن 8 ملايين شخص قد فقدوا وظائفهم، وأن مليون منزل تم تدميره أثناء الحرب. وبحسب أحد التقارير الصادرة عن البنك الدولي، قد يتجه اليمن إلى حافة المجاعة نتيجة تناقص الإنتاج الزراعي، والتدهور الحاد في قيمة العملة المحلية؛ بسبب إصرار الحوثيين على التصعيد واستهداف الموارد الاقتصادية.

2- الحرب السورية: منذ اندلاعه عام 2011، يُعد الصراع السوري موطن أحد أعقد الأزمات السياسية والإنسانية في العالم، وتُقدر الأمم المتحدة عدد الأشخاص المشردين داخلياً في سوريا بنحو 7 ملايين شخص، ويعاني قرابة 13 مليون شخص من عدم الأمن الغذائي. وبفعل النزوح وظروف الحرب السورية، انخفضت نسبة الطاقم الطبي لتصل إلى 11 طبيباً وممرضاً لكل 100 ألف شخص. 

3- الصراع السوداني: أدى الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى بلد يعاني بالفعل من وطأة التضخم وارتفاع الديون الأجنبية، وضخامة عدد المواطنين الذين يُعدون في أمس الحاجة إلى المساعدة العاجلة (واحد من كل ثلاثة سودانيين قبل اندلاع الأزمة الحالية).

إن ما يجمع الحالات الثلاث السابقة (اليمن، وسوريا، والسودان) هو تعقد الوضع الإنساني بدرجة مفزعة، على نحو يؤثر بشكل هائل، ليس فقط في الصحة الجسدية والعقلية لمواطني تلك الدول، وينال من أبسط حقوقهم في الحياة؛ بل أيضاً أحياناً في بعض دول الجوار التي عانت من موجات هجرة كبيرة بفعل تدفقات اللاجئين إليها، وما يعنيه ذلك من ضغط على اقتصاديات قد تعاني بالفعل مثل غيرها من دول أخرى عديدة في العالم، في ظل تأثرها بتداعيات جائحة "كورونا" والحرب الروسية الأوكرانية. 

صراعات مُعقدة:

إن فهم الوضع الإنساني الكارثي في بعض دول الإقليم وتعقيدات إدارته، لا يمكن أن يتم بمعزل عن فهم طبيعة الصراعات العسكرية الدائرة. فمن جهة، تتسم هذه الصراعات بأنها ذات طابع أهلي، حيث أدى انهيار سلطة الحكومة المركزية إلى غياب شبه تام للدولة في كثير من المناطق، الأمر الذي يزيد من مأساوية الأوضاع الإنسانية، ويعني ضخامة تكلفة جهود الإغاثة العاجلة وجهود التنمية بعيدة الأجل. 

ومن جهة أخرى، تتسم تلك الصراعات بأنها ذات بُعد خارجي واضح، وأن بعض القوى الإقليمية والدولية التي تمد يدها بالمساعدات الإنسانية قد تكون متهمة من قِبل أطراف الصراع بالسعي لتحقيق أجندة سياسية؛ بفعل انحيازها لأحد هؤلاء الأطراف، وهو ما يقوض مبادئ التجرد والحياد التي يُفترض أن تميز العاملين في جهود الإغاثة الإنسانية. 

وفضلاً عن هذا وذاك، يبدو أن تعارض أجندات المليشيات الداخلية وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، يُصعب التوصل إلى تسوية سلمية عاجلة لتلك الصراعات، في وقتٍ ينصب فيه حالياً اهتمام القوى المانحة الرئيسية والداعمة لنظام الإغاثة الإنسانية على تدارك تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها في فبراير 2022.

معضلات قائمة:

بالتطبيق على الصراعات في سوريا واليمن والسودان، نجد أن ثمة معضلات عديدة تواجه مساعي تحسين الأوضاع الإنسانية فيها، كالتالي:

1- سوريا: تواجه الوكالات التابعة للأمم المتحدة العاملة هناك، مثل "اليونيسف" ومنظمة الصحة العالمية، تُهماً متكررة بخرق مبادئ العمل الإغاثي المتمثلة في الحياد والتجرد. وعلى الرغم من وجاهة هذا النقد، فإن تطبيق المبادئ الإنسانية على الأرض، ولاسيما فيما يتعلق بالحياد والتجرد، ليس أمراً سهلاً، كما أن تفاقم الأزمة الإنسانية على هذا النحو غير المسبوق في التاريخ المعاصر للبلاد يُوجب على الأمم المتحدة وهيئاتها المتخصصة الاستمرار في العمليات الإنسانية للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتأثرين بالحرب الدائرة بغض النظر عن مكان إقامتهم.

وتتصل المعضلة الثانية بالعلاقة بين الإغاثة الإنسانية والأجندة السياسية لكبار المساهمين أو المتبرعين، حيث يميل المتبرعون إلى رؤية الصراعات الأهلية من منظور اهتماماتهم الأمنية، وإعطاء الأولوية لعملية بناء الدولة في البلد المعني، كما تُظهر الحالة السورية بجلاء، حيث تربط بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية توفير المساعدات الإنسانية بأهدافها السياسية والأمنية طويلة المدى، ولاسيما تحقيق تحول سياسي في بنية النظام الحاكم، ومكافحة التطرف الذي وجد في الصراع السوري تربة خصبة للنمو. وتغفل هذه المقاربة الغربية للإغاثة الإنسانية أن بناء الدولة عملية تستغرق وقتاً طويلاً، وموارد ضخمة، في بيئة عنيفة تموج بشتى ألوان الاضطراب وعدم الاستقرار، ولا يبدو أن الحقائق السياسية على أرض الواقع تؤيد تلك المقاربة الغربية.

وتتعلق المعضلة الثالثة بقدرة الأمم المتحدة وهيئاتها العاملة في المجال الإنساني على توصيل المساعدات إلى المدنيين داخل سوريا، ولاسيما أن أكثر المناطق المحاصرة بفعل القتال لا يمكن الوصول إليها إلا عبر المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة. وبسبب المصالح السياسية، تميل الحكومة في أي نزاع إلى محاولة بسط سيطرتها ونفوذها على مناطق توزيع المعونات لأسباب تتصل بكسب ولاء السكان المحليين أو عقاب المتمردين، ويعني ذلك أن تلك المعضلة مستمرة ما لم ينجح المجتمع الدولي، عبر مجلس الأمن، في تمرير قرار مُلزم يسمح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتأثرة بالحرب كافة.

2- اليمن: تشير التقديرات الأممية إلى أن نحو ثُلثي عدد سكان اليمن (21.6 مليون شخص) بحاجة إلى المساعدات الإنسانية وخدمات الحماية خلال عام 2023. ومع ذلك، تواجه جهود الإغاثة الإنسانية في هذا البلد مجموعة من العقبات، تتصل إحداها بسلامة طواقم الإغاثة الإنسانية في سياق يتسم بتفشي العنف المسلح من جانب الحوثيين وغيرهم من التنظيمات الإرهابية، وما ينتج عنه من استهداف الموظفين الدوليين، ومن ثم إجلاء العديد منهم. 

وكان أحدث مثال على ذلك، اغتيال مسلحين مسؤول برنامج الغذاء العالمي في محافظة تعز، مؤيد حميدي (أردني الجنسية)، في مدينة تعز، يوم 21 يوليو 2023. وفي اليوم التالي، أعلن الأمن اليمني توقيف المتهمين المباشرين في الحادث، إلى جانب 10 آخرين قال إنهم ضمن عصابة مسؤولة عن الاغتيال. وقد أعاد هذا الحادث التذكير بالمخاطر التي يواجهها عمال الإغاثة في اليمن، مع العلم أنه لا يزال هناك خمسة من موظفي الأمم المتحدة مختطفين لدى عناصر من تنظيم القاعدة في اليمن منذ ما يزيد على عام، كما لا يزال اثنان من الموظفين الأمميين معتقلين في صنعاء لدى الحوثيين. وعلى الرغم من تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن اغتيال الأردني حميدي لن يؤثر في البرامج الإغاثية في اليمن، فإن ثمة مخاوف من أن يؤدي الحادث إلى إغلاق مكتب برنامج الأغذية العالمي في تعز وغيرها من المناطق المُهددة، وهو ما سيؤثر سلباً في المساعدات الإنسانية المُقدمة لليمنيين.

ويُضاف إلى ذلك التحدي، نقص التمويل من قِبل المانحين الدوليين. وفي هذا الإطار، حذرت الأمم المتحدة، في تقرير لها صادر يوم 25 مايو الماضي، من أن نقص التمويل سيعرض الاستجابة الإنسانية المُنقذة لملايين الأرواح في اليمن للخطر، مضيفة أن خطة الاستجابة الإنسانية لم يتم تمويلها في الربع الأول من هذا العام سوى بنسبة 10.4% فقط من إجمالي 4.3 مليار دولار مطلوبة لتلبية الاحتياجات المُلحة للفئات الأشد ضعفاً، مما أجبر منظمات الإغاثة على تقليص أو إغلاق برامج إنسانية ضرورية. كما أعلن برنامج الغذاء العالمي، في مطلع يوليو 2023، تقليص الحصص الغذائية في اليمن بنسبة 35% بسبب نقص التمويل، مؤكداً أن 17 مليون يمني يعانون انعدام الأمن الغذائي.

وبسبب معاداة كثير من الشرائح المحافظة في المجتمع اليمني لفكرة وجود منظمات غربية تعمل على الأرض، اضطرت تلك الهيئات إلى الاعتماد على وكلاء محليين لتوصيل المعونات المطلوبة، لكن ارتباط تلك الهيئات الإغاثية المحلية بمنظمات غربية يُعرض سلامة طواقمها -هي الأخرى- للخطر.

والمُلاحظ هنا أن قدرة المانحين الإقليميين على الوصول إلى المناطق المنكوبة في اليمن كانت أعلى من قدرة نظرائهم الدوليين، حيث قادت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة جهود توصيل المساعدات الاقتصادية والإغاثية لليمن. 

3- السودان: أدى اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في منتصف إبريل الماضي، إلى تقويض جهود الانتقال السياسي السلمي في البلاد بعد رحيل عمر البشير عن السلطة، وإلى تفاقم أزمة إنسانية كانت البلاد ترزح تحت وطأتها بالفعل. وتُقدر الأمم المتحدة أن أكثر من مليون شخص قد تركوا منازلهم بفعل الحرب، وأن هناك حاجة ماسة لتوفير 2.6 مليار دولار لتمويل جهود الإغاثة الإنسانية.

ولتأمين جهود توصيل المساعدات الإنسانية، قامت الأطراف السودانية المتحاربة بتوقيع هدنة في جدة في 20 مايو الماضي، برعاية سعودية. وعلى الرغم من انهيار اتفاق وقف إطلاق النار وتكرار خروق الهدنة، فقد سهلت، بحسب العديد من التقارير، وصول المساعدات الإنسانية إلى ما يربو على 2 مليون شخص. وفي ظل استئناف القتال، تتصعب مهمة الحصول على الرعاية الصحية اللازمة والسلع الأساسية للمدنيين ممن بقوا في السودان، وتسجل نقابة الأطباء السودانية أن ما يزيد على 70% من المستشفيات في المناطق التي طالها القتال صارت غير قادرة على القيام بوظائفها الرئيسية.

وتُمثل حالة السودان مثالاً صارخاً على الفجوة بين احتياجات الإغاثة الإنسانية والقدرة على الفعل من جانب المجتمع الدولي، ليس فقط بفعل استمرار الصراع وسخونته، ما يجعل توصيل المساعدات الإنسانية أمراً محفوفاً بالعديد من الصعوبات الأمنية واللوجستية؛ لكن أيضاً بفعل عجز النظام الإنساني الدولي عن مواكبة الخطى المتسارعة للأزمة السودانية، في وقت تتجه فيه أنظار الدول الكبرى صوب الحرب الأوكرانية؛ الأمر الذي يعني أن نصيب السودان من الاهتمام الدولي يتضاءل بمرور الوقت. 

وأعلن الاتحاد الأوروبي، في شهر مايو الماضي، عن إقامة جسر جوي لتوفير المساعدات الضرورية للسودان، لكن تبقى المعضلة الأكبر هي كيفية توزيع هذه المساعدات داخل السودان بين مناطق تخضع لسيطرة قوى عسكرية متناحرة؛ وهو سؤال شائك بالنظر إلى حدوث إجلاء ضخم لطواقم الأمم المتحدة العاملة في الخرطوم عند بدء القتال. ولا تقتصر المصاعب التي تواجه طواقم الإغاثة الإنسانية على نقص المساعدات الإنسانية أو استمرار القتال، بل تشمل أيضاً عمليات النهب والتهديد التي تواجهها من الأطراف المتحاربة، حيث أعلن برنامج الغذاء العالمي أن قرابة 17 طناً من المواد الغذائية قد سُرقت من مناطق التخزين منذ بدء القتال حتى مستهل مايو الماضي، كما أَلغى برنامج الغذاء العالمي عملياته الإغاثية لفترة من الوقت؛ بسبب مقتل ثلاثة من عمال الإغاثة في منتصف إبريل الماضي.

ختاماً، يمكن القول إن نظام الإغاثة الدولية، بالرغم من نجاحاته المحدودة، غير قادر على حل الأزمات الإنسانية في إقليم يعاني من استمرار الصراعات المسلحة في بعض دوله. ويعود هذا الإخفاق إلى عوامل عدة؛ منها أن هذا النظام يحتاج إلى تمويل كي يعمل، وفي عالم تحكمه حسابات القوة والمصالح القومية يصعب تصور مانح دولي لا يميل إلى توظيف المساعدات الإنسانية التي يقدمها لتحقيق أهدافه السياسية؛ ما يعني التحيز لأحد أطراف الصراع الدائر، وبما يؤثر بالسلب في قبول المجتمعات المحلية لتلك المساعدات. كما أن القوى الغربية ربما لا تستطيع أن تُقدم حالياً فعلياً سوى القليل من الأموال لتمويل جهود الإغاثة الإنسانية في الشرق الأوسط؛ لعوامل يرتبط بعضها بانشغالها بالحرب الأوكرانية، فضلاً عن معاناة بعضها من أزمات اقتصادية.