الشروق:

هل يُقلص تمرد فاجنر نفوذ روسيا فى الشرق الأوسط وإفريقيا؟

27 June 2023


نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن، تناول فيه التداعيات المحتملة لتمرد قوات فاجنر على نفوذ روسيا فى الشرق الأوسط وإفريقيا. كما أشار كاتب المقال إلى ضرورة زيادة التنظيم والرقابة على الشركات الأمنية الخاصة العاملة فى الشرق الأوسط وإفريقيا لضمان التزام أنشطتها بالقانون الدولى الإنسانى ومعايير حقوق الإنسان... نعرض من المقال ما يلى.

يطرح التمرد العسكرى لقوات فاجنر فى روسيا، وهى جيش من المرتزقة أسسه يفجينى بريجوجين، العديد من التساؤلات حول مآلات الحرب الأوكرانية، وانعكاسات ذلك على مناطق نفوذ فاجنر التقليدية فى كل من منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا. كما أنه يعكس شعورا متزايدا بخيبة الأمل والاستياء بين القادة العسكريين فى موسكو إزاء إدارة الحرب فى أوكرانيا. وتسعى هذه المقالة إلى تحليل الآثار المُحتملة لتمرد فاجنر على مناطق وجودها فى الشرق أوسط وإفريقيا.

ردا على هذا «التمرد المسلح» من قِبل حليفه السابق، تعهد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين باتخاذ إجراءات ضد جميع المتورطين من فاجنر، ووصف أفعالهم بأنها «خيانة». وتأتى تصريحات بوتين بعد أن اتهم بريجوجين الكرملين بقصف متعمد لقوات فاجنر، مما أدى إلى تصعيد التوترات بين الطرفين.

وفى نهاية المطاف، تمكنت وساطة الرئيس البيلاروسى، ألكسندر لوكاشينكو، من احتواء تمرد فاجنر مقابل تقديم بوتين ضمانات لسلامتهم. ومن المُرجح أن يستخدم الكرملين إجراءات حاسمة لقمع أولئك الذين يشككون فى الروايات الرسمية عن الحرب الأوكرانية، فضلا عن إخضاع الوحدات الروسية لهيكل قيادة أكثر توحيدا. وعلى أية حال، تشكل محاولة تمرد فاجنر تحديا كبيرا لسلطة الرئيس بوتين، وربما يكون تغير الولاءات قد قوض مصداقية بوتين بالفعل. ومع ذلك، فإن الخلفية الدينية والمصالح التجارية لزعيم فاجنر، بالإضافة إلى افتقاره إلى الكاريزما وقدرات التحدث أمام الجمهور التى ميزت موسولينى أثناء مسيرته إلى روما، تُقلل من قدرته فى الحصول على دعم شعبى واسع النطاق. بيد أن التحدى الحقيقى أمام القيادة الروسية يظل مُتمثلا فى ضرورة أن يُعرض هذا التمرد المجهود الحربى فى أوكرانيا للخطر، وهو ما يشكل اختبارا حقيقيا لبوتين وأجهزته الأمنية. لكن يبقى التساؤل المهم يرتبط بدلالة هذا الحدث وتأثيراته فى مناطق النفوذ الروسى فى كل من الشرق الأوسط وإفريقيا.

برزت مجموعة فاجنر، وبدعم غير خافٍ من الكرملين، كفاعل غير حكومى مهم فى الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تُوظف العديد من المشاريع التجارية السرية لتسهيل النفوذ الروسى. وتمتد أنشطة فاجنر، التى تعمل فى العديد من بلدان المنطقتين، إلى ما وراء عمليات الأمن التقليدية. ومن خلال نشر الآلاف من المرتزقة، تدعم المجموعة بنشاط القوات الحكومية فى مناطق الصراع المختلفة. فقد ساعدت المشاركة فى الحرب السورية، مجموعة فاجنر على تحقيق تجربة قيمة وتحديث هيكلها التنظيمى (على غرار الجيش) . وأثناء مشاركتها فى سوريا، أظهرت فاجنر أربع صفات أساسية؛ أولا، أنه يمكن توظيفها بنجاح فى المهام المتعلقة بالجيش، ولاسيما حينما يكون الخصم ضعيفا نسبيا. ثانيا، يمكن استخدامها بشكل مشترك مع التشكيلات النظامية (مثل قوات العمليات الخاصة) لجمع المعلومات الاستخبارية والاستطلاع. ثالثا، يمكن استخدام هذه القوات لحماية المنشآت العامة والبنية التحتية الحيوية. رابعا، القيام بتدريب القوات العسكرية والأمنية المحلية. وعليه فقد أصبحت سوريا ساحة تدريب مهمة لفاجنر، ما ساعد موسكو على تكرار هذا النموذج فى مسارح عمليات أخرى فى العالم، ولاسيما فى ليبيا وإفريقيا جنوب الصحراء.

وفى قارة إفريقيا، نجد أنه فى جمهورية إفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، يُقدم ما يقرب من 1890 «مدربا روسيا» المساعدة للقوات الحكومية فى خضم الحرب الأهلية المستمرة. وفى ليبيا، يُعتقد أن ما يقدر بنحو 1200 من عناصر فاجنر يعملون داخل الأراضى الليبية. وتشير التقارير أيضا إلى تورط مقاتلين من فاجنر فى كل من مالى وبوركينا فاسو، حيث يواجهون مزاعم بارتكاب انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان. كما يعود تاريخ مجموعة فاجنر فى السودان إلى حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير. وكان لبريجوجين علاقة وثيقة مع البشير، الذى سمح للشركات التابعة لفاجنر بالوصول إلى تعدين الذهب. وبعد أن أطاح الجيش السودانى بالبشير فى عام 2019 وسط انتفاضة شعبية، واصلت فاجنر علاقتها الوثيقة بالجيش السودانى، ولاسيما قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال حميدتى. وهذا يكرر نموذج المشاركة فى بلدان إفريقية أخرى.

ومن المُلاحظ أن مجموعة فاجنر قامت بتوسيع نفوذها فى إفريقيا من خلال شبكة من الشركات والتحالفات التى تعمل فى منطقة قانونية رمادية. وما من شك أن العمل ضمن هذا الفضاء الغامض يسمح لفاجنر بطمس الخطوط الفاصلة بين الأنشطة المشروعة وغير المشروعة، مما يتيح التأثير الفعّال لرواية الإنكار التى تجيدها روسيا وبشكل معقول. وبحسبانها أداة للنفوذ الروسى، يُنظر إلى فاجنر على أنها الممثل الروسى الأكثر نفوذا فى الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تعمل على تعزيز المصالح الروسية فى المنطقتين. وعادة ما تمتد عمليات المجموعة إلى ما وراء الجهود الأمنية، لتشمل قطاعات مثل قطع الأشجار والتعدين. وبالنسبة للحكومات الإفريقية، التى تواجه قيودا مالية، فإنها تجد خدمات فاجنر جذابة، حيث يتم سداد المدفوعات غالبا من خلال حقوق التعدين أو امتيازات الوصول إلى السوق. وعلى الرغم من انخراطها فى الصراع الأوكرانى، فقد استمرت أنشطة فاجنر الاقتصادية فى إفريقيا، مما أثار المخاوف من قِبل الولايات المتحدة والدول الغربية من التأثير المُحتمل لتوسيع وجود المجموعة فى المنطقة.

إن تمرد مجموعة فاجنر بإمكانه التأثير بشكل كبير فى عملياتها فى الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد يكون للاضطراب داخل هذه المجموعة تداعيات كبرى تتراوح بين تغير الديناميات الجيوسياسية وصيغ الحسابات الأمنية الوطنية والإقليمية، وذلك على النحو التالى:

1ــ الآثار الجيوسياسية: من المُبكر الحديث عن الآثار طويلة المدى لتمرد فاجنر على العمليات الجارية فى سوريا وإفريقيا، فضلا عن تأثيرها المُحتمل فى الاستقرار الداخلى لروسيا والمشهد الأمنى فى إفريقيا بشكل عام. وبينما قدمت فاجنر الدعم العسكرى لحكومات معينة وساعدت فى احتواء الجماعات المتمردة المسلحة، فإن تمردها يثير تساؤلات حول التداعيات طويلة المدى على أمن إفريقيا. وأحد الشواغل الرئيسية هو عدم الاستقرار المُحتمل الناتج عن رحيل جنود فاجنر عن المهام الجارية.

2ــ خلق فراغات أمنية: يشير فراغ السلطة المُحتمل بعد تمرد فاجنر إلى إمكانية زعزعة الاستقرار وظهور جهات فاعلة جديدة فى المناطق التى يتم فيها تقليص تأثير مجموعة فاجنر أو القضاء عليه. ونظرا لأن الحرب فى أوكرانيا دفعت روسيا إلى تقليص وجودها العسكرى فى سوريا، فقد واجهت فاجنر أيضا تحديات كبيرة، بما فى ذلك تزايد الضغوط من الولايات المتحدة لسحب قواتها من السودان وليبيا. ولعل ذلك يثير المخاوف بشأن ما إذا كان غياب فاجنر سيخلق فراغا، مما يسمح للفاعلين الآخرين بالدخول وقد يؤدى إلى زعزعة استقرار سريعة فى مناطق مثل سوريا وليبيا.

3ــ إمكانية عودة عصر المرتزقة: يثير تمرد مجموعة فاجنر فى روسيا ضد الرئيس بوتين بغض النظر عن نتيجته، مخاوف بشأن التطرف المُحتمل وتصدير أيديولوجية الفعل السياسى لدى المرتزقة. فهؤلاء الجنود، الذين تعرضوا للنزاعات المسلحة وشاركوا فى أنشطة شبه عسكرية، قد يعيدون إنتاج خبراتهم وأيديولوجياتهم فى الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد يكون لهذا آثار سلبية على الأمن الإقليمى، حيث قد يسعى هؤلاء الجنود، ولاسيما فى حالة انفصالهم عن النفوذ الروسى، إلى التخلى عن واجباتهم لمتابعة أجنداتهم السياسية الخاصة، مما يزيد من تفاقم الصراعات القائمة.

فى الختام، وفى ضوء هذه التداعيات، يكون من الأهمية بمكان أن تتخذ الدول المعنية والمنظمات الإقليمية والمجتمع الدولى إجراءات حاسمة. إذ يتعين على الدول المُتعاقدة مع مجموعة فاجنر إعطاء الأولوية لتقوية أجهزتها الأمنية، والاستثمار فى قدرات دفاعية قوية، وبناء قوات مسلحة كفؤة وخاضعة للمساءلة. ويشمل ذلك تطوير آليات جمع معلومات استخبارية فعالة، وتعزيز قدرات مكافحة الإرهاب، وتحسين أمن الحدود لمنع تسلل العناصر المتطرفة.

وفى هذه الحالة، يمكن أن تقوم المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية والاتحاد الإفريقى بدور حاسم فى تعزيز السلام والأمن والاستقرار الإقليمى. كما ينبغى العمل لتطوير استراتيجيات شاملة تعالج الأسباب الجذرية للنزاعات، وتسهيل الحوار بين الأطراف المتصارعة، وتعزيز التنمية المستدامة لمعالجة المظالم ومنع ظهور الأيديولوجيات المتطرفة. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حاجة إلى زيادة التنظيم والرقابة على الشركات الأمنية الخاصة العاملة فى الشرق الأوسط وإفريقيا، ووضع مبادئ توجيهية وآليات واضحة لضمان التزام أنشطتها بالقانون الدولى الإنسانى ومعايير حقوق الإنسان. كما يجب تعزيز الشفافية والمساءلة لمنع الانتهاكات والأعمال غير المصرح بها واستغلال الموارد الوطنية.

*لينك المقال في الشروق*