الغاز مقابل البقاء:

أسباب اتجاه رئيسة الوزراء الإيطالية لتعزيز علاقاتها مع حكومة الدبيبة

06 February 2023


قامت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بزيارة رسمية إلى العاصمة الليبية طرابلس، في 28 يناير 2023، عقدت خلالها محادثات مطولة مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تمخض عنها توقيع صفقة غاز جديدة ومثيرة للجدل بين البلدين.
زيارة ميلوني لطرابلس
تتمثل أبعاد زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية إلى طرابلس في التالي:
1- لقاءات مكثفة في طرابلس: أجرت جورجيا ميلوني مباحثات مكثفة مع مسؤولي غرب ليبيا، حيث عقدت اجتماعات منفصلة مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، فضلاً عن رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي. ورافق ميلوني في زيارتها وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاجاني، ووزير الداخلية، ماتيو بنتيدوسي.
2- إبرام صفقة غاز جديدة: شهدت زيارة ميلوني توقيع صفقة غاز بين شركة إيني الإيطالية والمؤسسة الوطنية لللنفط الليبية، بقيمة بلغت نحو 8 مليارات دولار، وهي الصفقة التي تشكل أكبر استثمار منفرد في ليبيا خلال العقدين الأخيرين. 
وتهدف الصفقة لتعزيز إمدادات الغاز نحو القارة الأوروبية، وتشمل تطوير حقلين بحريين للغاز في شمال ليبيا، يقعان في بلوك "أن سي – 41" (NC-41)، إذ يفترض أن يتم ربطهما بمنشآت المعالجة الموجودة في مجمع "مليته" غرب طرابلس، ويتوقع أن تنتهي عملية التطوير وبدء ضخ الغاز من الحقلين في عام 2026، بقدرة تصل إلى حوالي 850 مليون قدم مكعب يومياً لمدة 25 عاماً، بينما تبلغ احتياطيات الحقلين نحو 6 تريليونات قدم مكعب.
3- رفض واسع في الداخل الليبي: أثارت اتفاقية الغاز التي أبرمتها حكومة الدبيبة مع إيطاليا حالة من الاعتراض في الداخل الليبي، وسط اتهامات للأولى بمحاولة توظيف مشروعات الطاقة لضمان بقائها في السلطة، فقد وجه رئيس حكومة الاستقرار الليبية المكلف من قبل البرلمان، فتحي باشاغا، انتقادات للتحركات الإيطالية الأخيرة في طرابلس، معتبراً أن اتفاقية الغاز التي أبرمتها روما مرفوضة، وأنها تعبر عن سلوك إيطالي انتهازي، فيما عبر بعض أعضاء مجلس النواب الليبي عن رفضهم لهذا الاتفاق، باعتبار أن حكومة الدبيبة غير شرعية وغير مخولة بإبرام أي اتفاقيات جديدة.
ولم يقتصر الرفض على شرق ليبيا فقط، بل أن ثمة انقسامات داخل حكومة الدبيبة ذاتها، وهو ما تجسد في انتقاد وزير النفط بحكومة الدبيبة، محمد عون، لصفقة الغاز، معتبراً أنها غير قانونية، على أساس أن الدبيبة لم يتشاور مع وزارته قبل إبرام الاتفاق. كذلك، أعلن بعض مشايخ القبائل رفضهم لهذا الاتفاق الجديد، بسبب تعديل الصفقة الجديدة للاتفاقية القديمة بين البلدين، التي كانت شركة إيني الإيطالية قد وقعتها مع نظام معمر القذافي، حيث عمدت هذه الصفقة إلى تعديل حصة الشريك الأجنبي من 30% إلى 37%، مما أدى إلى إثارة سخط بعض الأطراف في غرب ليبيا.
ملفات حيوية لروما
تشكل إيطاليا الشريك التجاري الأول بالنسبة لليبيا، إذ بلغ إجمالي حجم المعاملات التجارية بين البلدين نحو 10.17 مليار يورو خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2022، كما باتت روما تمثل ثاني أكبر مورد لطرابلس بعد تركيا. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبرز دوافع زيارة ميلوني إلى ليبيا على النحو التالي:
1- تأمين إمدادت الطاقة: يشكل ملف الطاقة أبرز الملفات الحيوية لإيطاليا، والاتحاد الأوروبي بشكل عام، حيث تسعى روما إلى تأمين إمداداتها من الطاقة بعيداً عن روسيا التي لطالما شكلت المصدر الرئيس للنفط والغاز في القارة الأوروبية، وهو ما انعكس في صفقة الغاز التي تم توقيعها بين إيطاليا وليبيا خلال زيارة ميلوني لطرابلس.
2- ضبط تدفقات الهجرة: يشكل ملف الهجرة أحد أبرز أولويات ميلوني، حيث ركزت عليه خلال حملتها الانتخابية، وهو ما يفسر مرافقة وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو بنتيدوسي، لميلوني في جولتها لشمال إفريقيا، حيث يشرف الأول على ملف الهجرة، وأعلنت ميلوني خلال زيارتها إلى طرابلس أن بلادها ستوفر خمسة قوارب مجهزة بالكامل لدعم جهود خفر السواحل الليبية، في إطار مساعي روما الحيلولة دون استمرارية تدفق المهاجرين نحو القارة الأوروبية، حيث باتت ليبيا تشكل معبراً رئيسياً لهم.
وبلغ عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا في 2022 أكثر من 100 ألف مهاجر، لذا لم تستبعد بعض التقديرات أن تكون زيارة ميلوني إلى ليبيا تضمنت التشاور بشأن إعادة إحياء عملية "صوفيا" التي تم إطلاقها من قبل الاتحاد الأوروبي، في عام 2015، لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى الدول الأوروبية، قبل أن تتوقف في 2019.
3- تنسيق مسارات الملف الليبي: قامت ميلوني بزيارة إلى طرابلس، وكانت أول زعيم أوروبي يقوم بزيارتها منذ تعثر إجراء الانتخابات الليبية في ديسمبر 2021. كما زار وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاجاني، الأسبوع الماضي، مصر وتركيا وتونس، وهو ما يعكس اتجاه روما للتنسيق مع القوى الإقليمية الفاعلة في الأزمة الليبية. وفي هذا الإطار لوح تاجاني إلى محورية التوافق بين الفواعل الخارجيين المنخرطين في ليبيا.
تنسيق أمريكي إيطالي
عكست زيارة رئيس الوزراء الإيطالية إلى ليبيا جملة من الانعكاسات المحتملة التي ربما تطرأ على الملف الليبي خلال الفترة المقبلة، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- تعزيز نفوذ الدبيبة: تعزز اتفاقية الغاز الأخيرة التي أبرمتها روما مع الدبيبة نفوذه وتدعم استمراريته في السلطة، من خلال تبني سياسة "الغاز مقابل البقاء"، لاسيما في ظل الحديث حالياً عن وجود مساعي لتشكيل حكومة جديدة تتولى إدارة المشهد الليبي لحين إجراء الانتخابات، حتى إن مجلسي النواب والدولة قدما مقترحاً للبعثة الأممية بشأن تشكيل لجنة حوار، على غرار ملتقى الحوار السياسي السابق، بغية اختيار سلطة تنفيذية جديدة.
ويقابل هذه التحركات موقف رافض لفكرة تغيير حكومة الدبيبة، تتبناه بعض القوى الدولية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، بالإضافة إلى تركيا، وبالتالي يعول الدبيبة على الاتفاق الذي أبرمه مؤخراً مع روما لضمان دعم الأخيرة لفكرة استمرارية حكومته في السلطة، في مواجهة التحركات الموازية التي تستهدف الإطاحة به.
2- تنافس الشركات الأجنبية على ليبيا: لوح رئيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، فرحات بن قدارة، إلى أنه يجري حالياً التفاوض مع عدد من الشركات الأجنبية الأخرى بشأن الاستثمار في البنية التحتية للطاقة في ليبيا، وهو ما قد يعكس احتمالية أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التنافس الدولي والأقليمي بشأن ملف الطاقة في ليبيا.
3- دعم غربي للانتخابات الليبية: عكست التحركات الدولية وجود محاولة للدفع نحو إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل نهاية 2023، وهو ما انعكس في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، خلال زيارته إلى القاهرة أواخر يناير 2023، وتأكيداته على ضرورة إنجاز الانتخابات الليبية خلال هذا العام.
وفي هذا الإطار، تسعى بعض القوى الإقليمية، لاسيما مصر، إلى محاولة دعم جهود إنجاز القاعدة الدستورية التي يفترض أن تحكم الانتخابات المقبلة، من خلال التوافق بين مجلسي النواب والدولة، وتسوية الخلافات بينهما. وتدفع القوى الغربية نحو إنجاز هذا الملف، حتى إن هناك بعض التقديرات ألمحت إلى احتمالية أن يدفع الغرب نحو تشكيل لجنة حوار تتولى صياغة ترتيبات المرحلة المقبلة في ليبيا، بما في ذلك إنجاز القاعدة الدستورية حال استمرار الخلافات بين مجلسي النواب والدولة، وربما تشهد الفترة المقبلة، دعوة إيطاليا لمؤتمر دولي جديد، على غرار مؤتمري "برلين 1" و"برلين 2"، لطرح خريطة طريق جديدة للملف الليبي.
4- تنسيق إيطالي أمريكي: تعكس المعطيات الراهنة في الملف الليبي وجود درجة من التنسيق بين الولايات المتحدة وإيطاليا حول ليبيا، وهو ما وضح في زيارة مدير جهاز الاستخبارات الأمريكي، ويليام بيرنز، إلى ليبيا، ناهيك عن استقبال السفارة الأمريكية في طرابلس لبعض قادة المجموعات العسكرية في غرب ليبيا، وهي التحركات، التي تستهدف تقويض نفوذ مرتزقة فاغنر الروسية في ليبيا، فضلاً عن تأمين إمدادات النفط والغاز. 
وتزامنت التحركات الأمريكية مع وصول وفد عسكري إيطالي رفيع إلى طرابلس، ضم كل من رئيس أركان القوات المشتركة ورئيس دعم العمليات، حيث التقى الوفد الإيطالي بالمسؤولين العسكريين في غرب ليبيا، وهو ما أعقبه الإعلان عن زيارة مرتقبة لرئيس أركان القوات التابعة لحكومة الدبيبة، محمد الحداد، إلى بنغازي للقاء رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، عبدالرزاق الناظوري، لبحث ملف توحيد المؤسسة العسكرية.
ويمكن الربط بين التحركات الإيطالية ومساعي واشنطن لإنهاء وجود عناصر فاغنر الروسية في ليبيا، من خلال الدفع نحو توحيد المؤسسة العسكرية، والعمل على استيعاب بعض المجموعات المسلحة في غرب ليبيا، في محاولة لحلحلة معضلة المليشيات المسلحة التي تشكل أحد أبرز معوقات إنجاز الانتخابات، حيث تسعى واشنطن إلى الدفع نحو تشكيل حكومة ليبية منتخبة في أسرع وقت، والتي يمكنها طلب خروج عناصر فاغنر من البلاد.
وفي الختام، يبدو أن ثمة تطلعات إيطالية راهنة تستهدف استعادة حضورها في ليبيا، وربما تستهدف روما توظيف انشغال القوى الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، بأزماتها الداخلية، من أجل تعزيز نفوذها في ليبيا، فمنذ وصولها إلى السلطة في روما، قبل نحو ثلاثة أشهر، تسعى ميلوني لاستعادة الدور الإيطالي في الملف الليبي، ويرجح أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التحركات الإيطالية في هذا الشأن.