انقسامات تل أبيب:

تأييد "لابيد" لحل الدولتين.. هل يغير المشهد الانتخابي الخامس؟

10 October 2022


خلال خطابه الافتراضي في الاجتماع الثاني عشر لمجلس الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والذي عُقد في الثالث من أكتوبر 2022، بعد انقطاع دام أكثر من عقد، كرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، التزامه بحل الدولتين للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

ويأتي هذا بعد أيام قليلة من كلمة لابيد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر الماضي، والتي أعاد من خلالها "حل الدولتين" إلى الواجهة مرة أخرى، حيث قال: "إن الاتفاق مع الفلسطينيين، على أساس دولتين لشعبين، هو الشيء الصحيح لأمن إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي. الغالبية العظمى من الإسرائيليين تؤيد حل الدولتين".

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها رئيس وزراء إسرائيلي عن حل الدولتين أمام الأمم المتحدة منذ عام 2016، حينما قال حينها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق: "حل الدولتين، الذي لا يزال الحل المفضل لنضالاتنا هنا، بعيد المنال ومن المستحيل تنفيذه".

والمقارنة بين لغة خطابي نتنياهو (عام 2016) ولابيد (عام 2022)، ربما تُفسِّر تلك الضجة التي أحدثتها كلمة الأخير، خاصةً على المستوى الإسرائيلي؛ فنتنياهو تحدّث عن حل الدولتين وكأنه صار شيئاً من الماضي، ولكن لابيد أبدى حماساً لحل الدولتين، لم يكن معهوداً من المسؤولين الإسرائيليين الرسميين على مدار آخر 13 عاماً (منذ تولي نتنياهو رئاسة الوزراء في عام 2009).

الحل المرجعي:

يعتبر حل الدولتين هو الحل المرجعي الذي اعتمده المجتمع الدولي لحل الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، ويستمد شرعيته من قرار مجلس الأمن رقم (242)، الذي صدر في 22 نوفمبر1967، والذي طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967.

ويتأسس هذا الحل على وجود دولتين؛ إسرائيلية وفلسطينية، تتعايشان جنباً إلى جنب بسلام، على أن تتأسس الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، لتشمل مناطق الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، بنسبة 22% من أراضي فلسطين التاريخية، بينما تتأسس الدولة الإسرائيلية على باقي الأراضي التي تُشكِّل نسبتها 78%.

وقد استندت مبادرة السلام العربية لعام 2002 على هذا الحل، وكذلك خريطة الطريق التي قدّمتها اللجنة الرباعية للشرق الأوسط، في أبريل 2003، وكانت تلك اللجنة تشمل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ونصّت تلك الخريطة – حينئذ- على إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005 مقابل إنهاء الانتفاضة وتجميد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية.

ويبدو حالياً أن حل الدولتين يواجه صعوبات في تطبيقه على الأرض، في ظل ضخامة الملفات التي يجب حسمها قبل موافقة الأطراف المعنية عليه، بدءاً من ملف عودة اللاجئين الفلسطينيين، بجانب ما تمثله الديموغرافيا من عامل حسم، حيث تخشى إسرائيل من تضخم أعداد فلسطيني الداخل (الذين يعيشون داخل أراضي 1948)، وهو الأمر الذي ربما يُقوِّض يهودية الدولة المستقبلية، إذا توقفت حدودها عن التمدد. وصولاً إلى وضع القدس، أكبر المحاور المثيرة للخلاف بحل الدولتين، لأهمية المدينة المقدسة.

وحسب تقديرات البعض، فإنه لتطبيق حل الدولتين، تحتاج إسرائيل إلى إجراء تغييرات جذرية على سياسات الاستيطان والعودة إلى حدود ما قبل 1967، وهو أمر لا يبدو واقعياً حالياً بالنسبة لها، في ظل استمرار التوسع الاستيطاني بكثافة في الضفة الغربية لنهر الأردن.

لذلك نجد الباحثين الإسرائيليين يتحدثون عمّا يُسمى بـ "حل الدولة الواحدة"، والقائم على تأسيس دولة تجمع الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، على أرض واحدة وبهوية مشتركة. أمّا عن التصور الإسرائيلي لتطبيق هذه الفكرة، فقد لخّصه وزير الدفاع، بيني غانتس، في كلمته أمام مؤتمر ميونيخ، في فبراير 2022، حينما أكّد على رفضه لدولة إسرائيلية على خطوط ما قبل عام 1967، ورأى أن الفلسطينيين سيكون لديهم "كيان" في المستقبل، وليس دولة كاملة، وهذا الكيان سيمنح الفلسطينيين السيادة والحكم.

ردود فعل متباينة:

ظهرت ردود فعل متباينة على تأكيد لابيد التزامه بحل الدولتين للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وذلك وفقاً لموقع كل طرف من عملية السلام، وموقفه الشخصي من لابيد، كالتالي:

1- انتقادات شديدة من اليمين الإسرائيلي: ردود الفعل هذه لم تتأسس بناءً على محتوى خطاب لابيد، بقدر تركيزها على انتقاده، للظهور في ثوبٍ صارم أمام قواعدها الانتخابية. إذ هاجم نتنياهو، زعيم المعارضة، ما ذكره لابيد، مُشيراً إلى أن خطابه "يعيد الفلسطينيين إلى واجهة المسرح العالمي ويضع إسرائيل في الحفرة الفلسطينية"، وذلك بعد أن أزالت حكومته – في السابق- فكرة الدولة الفلسطينية من الأجندة العالمية.

وامتدت الانتقادات إلى داخل حكومة لابيد نفسها، حيث أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى وجود تحفظ داخل مجلس الوزراء على مبادرة لابيد، وأنه فاجأهم بالخطاب من دون استشارتهم. فنجد أن وزيرة الداخلية، أيليت شاكيد، التي تتوقع استطلاعات الرأي سقوط حزبها "البيت اليهودي" في الانتخابات القادمة، تقول إن لابيد "لا يملك شرعية جماهيرية ليُورِّط إسرائيل بتصريحات من شأنها إلحاق الضرر بالبلاد". وسلك وزير العدل، جدعون ساعر، طريق الهجوم ذاته في انتقاد لابيد، قائلاً: "إن إقامة دولة إرهابية في الضفة الغربية سيُعرِّض أمن إسرائيل للخطر. غالبية الشعب في إسرائيل وممثلوهم لن يسمحوا بحدوث ذلك"، على حد تعبيره نصاً.

2- دعم اليسار الإسرائيلي: رأت زعيمة حزب ميرتس، زهافا غالون، أن خطاب لابيد كان "تاريخياً"، ووضع عملية السلام أخيراً على جدول الأعمال، ووعدت بأن يقف حزب ميرتس مع لابيد لتحويل رؤيته إلى واقع، لإنهاء معاناة الفلسطينيين والإسرائيليين. وكذلك رحّب وزير شؤون الشتات، نحمان شاي، بخطاب لابيد، واصفاً إياه بالممتاز، ومؤكداً أنه "لا مستقبل لإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية من دون الانفصال عن الفلسطينيين". بينما وصفت رئيسة حزب العمل، ميراف ميخائيلي، خطاب لابيد بأنه "صهيوني مهم واستراتيجي للدولة".

3- ردود فعل حذرة فلسطينياً وعربياً: يبدو أن تصريحات لابيد فاجأت الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وهو ما اتضح من خلال موقفه المُرتبك تجاهها؛ ففي البداية وصفها بأنه "خطوة إيجابية"، قبل أن يتراجع ويهاجم إسرائيل ويُحمّلها مسؤولية إفشال عملية السلام في مراحلها المختلفة، بدءاً من أوسلو وصولاً إلى الوقت الراهن.

بينما اعتبر وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أن حديث لابيد عن حول الدولتين "أمر إيجابي" إذا تُرجم إلى أفعال، مؤكداً أن السلام يتطلب حواراً مباشراً بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي الإطار نفسه، جاء رد فعل وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الذي صرّح في حواره مع موقع "المونيتور" الأمريكي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، بأن الحديث والنوايا وحدها "لا تكفي" لتحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، آملاً أن تُصادِق الحكومة الإسرائيلية القادمة على حل الدولتين، وأن تعيد بدء المفاوضات بشكل فعّال مع السلطة الفلسطينية.

4- ترحيب دولي: رحب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، بتصريح لابيد، حيث أعرب بايدن عن ترحيبه بـ "التصريح الشجاع للابيد في الجمعية العامة للأمم المتحدة". وغرّد ترودو بأن "حل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون في سلام وأمن وكرامة، هو في مصلحة الجميع". 

بينما أشارت اللجنة اليهودية – الأمريكية (AJC) إلى أن "حل الدولتين الدائم هو الحل الواقعي الوحيد للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني". كما أصدر "منتدى السياسة الإسرائيلية" بنيويورك بياناً قال فيه إن المنظمة "تشيد بالتزام لابيد الواضح تجاه حل الدولتين".

دلالات متنوعة:

في إطار تحليل إعادة طرح لابيد حل الدولتين، بلغة بدت أكثر جدية، من دون أن تستند إلى جهود دبلوماسية قائمة بالفعل، يمكن القول إن ثمة دلالات لهذا الطرح وفقاً للداخل الإسرائيلي، ودارت حول ثلاثة محاور وهي كالتالي:

1- دلالات دبلوماسية: خلال خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، خاطب لابيد قادة العالم قائلاً: "إن غالبية عظمى في إسرائيل يؤيدون حل الدولتين". وفي هذا الإطار، أظهرت نتائج استطلاع رأي أجرته القناة الـ 12 الإسرائيلية، أن 49% من الإسرائيليين يرفضون حل الدولتين، و23% قالوا إنهم لا يعرفون، وفقط 28% يؤيدون هذا الطرح. بينما أظهر استطلاع القناة الـ 13 الإسرائيلية، أن 43% فقط من الإسرائيليين يرفضون حل الدولتين، و18% منهم قالوا إنهم لا يعلمون، في مقابل 39% مؤيدين.

وبغض النظر عن حسابات لابيد بشأن اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي، يبدو أنه صمّم خطابه لأغراض دبلوماسية، "توحي بأنه المُروِّج الرصين للسياسة الإسرائيلية، التي يمكن لأصدقاء إسرائيل في الأمم المتحدة التعايش معها"، وذلك وفق تعبير صحيفة "جيروزاليم بوست". وهذا أمر يمنحه سمعة دبلوماسية بين قادة العالم، ويُوحي للمهتمين بعملية السلام أنه قد يمتلك "مشروع سلام حقيقي".

ويرى البعض أن لابيد قصد بخطابه أيضاً منح بصيص من الأمل للرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يهتم جداً بعملية السلام، وذلك في ظل تصاعد الأوضاع الأمنية بالضفة الغربية، والتخوّف الإسرائيلي من تأجيج الأوضاع أكثر في موسم الأعياد اليهودية.

2- دلالات أيديولوجية: رأت صحيفة "إسرائيل هيوم"، أنه "بـ 29 كلمة فقط، من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ربما غيّر لابيد المشهد الخامس للانتخابات في إسرائيل". فقد كانت الانتخابات الأربعة السابقة -غير الحاسمة- تدور حول سؤال واحد، وكأنها استفتاء: هل نتنياهو مناسب للمواصلة في منصبه كرئيس للوزراء؟

فمنذ عودة نتنياهو إلى الحكم في عام 2009، وخلال الحملات الانتخابية التي دارت في هذه الفترة، لم تظهر أي اختلافات جوهرية بين اليمين واليسار الإسرائيلي، فيما يتعلق بالقضايا الدبلوماسية والأمنية الرئيسية.

ولكن بعد تصريحات لابيد مؤخراً، ظهر اختلاف واضح بين معسكري اليمين واليسار في إسرائيل، حتى على مستوى ردود الأفعال، ويُرجِّح البعض أن تلك القضية (أي حل الدولتين) ربما تكون القضية الحاسمة للدورة الانتخابية القادمة في إسرائيل.

فاليمين يرى أن الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية لن يؤدي أبداً إلى السلام، ولكنه سيؤسِّس - بدلاً من ذلك- لدولة مُعادية لإسرائيل في "قلب الأمة اليهودية التوراتية"، وفق تعبيراتهم. بينما يرغب اليسار الإسرائيلي في الانفصال عن الفلسطينيين بأي ثمن، على أمل أن التنازل عن الأرض وإنشاء دولة فلسطينية سيحمي بطريقة ما "الديمقراطية الإسرائيلية" وينهي الحديث عن "العنصرية الإسرائيلية".

وبالرغم من أن لابيد كان يُروِّج لنفسه -بمساعدة بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية- على أنه "وسطي"، فإن موقفه الأخير تبنّى وجهة نظر يسارية، وأعاد إلى الساحة الإسرائيلية القضية التي حددت الفرق بين اليسار واليمين منذ أن وقّع رئيس الوزراء الأسبق، إسحق رابين، على اتفاقيات أوسلو في عام 1993.

وبالتالي ربما تكون تصريحات لابيد قد غيّرت دفة الانتخابات الإسرائيلية القادمة، من مجرد الاستفتاء على شخص نتنياهو، ومدى صلاحيته للعودة إلى منصبه، إلى قضية جوهرية، وهي مستقبل إسرائيل وعملية السلام.

3- دلالات انتخابية: ربطت الكثير من التحليلات بين خطاب لابيد، وبين موقفه الانتخابي، حيث إن استطلاعات الرأي كافة التي أُجريت إلى الآن لم ترجح نجاح لابيد في تشكيل الحكومة القادمة من خلال معسكره السياسي الذي شكّل منه حكومته الحالية. والخيارات هنا تدور بين فرص متواضعة لعودة لنتنياهو إلى الحكم، في مقابل فرص أكبر للوصول إلى "طريق مسدود"، لا يمنح أياً من الكتلتين أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة.

وفي حين أن لابيد ليس المرشح الوحيد المحتمل لرئاسة الوزراء من بين الأحزاب المعارضة لنتنياهو، فهو يُنظر إليه على أنه زعيم تلك الكتلة بلا منازع، خاصةً أنه منْ استطاع إسقاط نتنياهو من كرسي رئاسة الوزراء بعد هيمنة استمرت نحو 12 عاماً. والكتلة المناهضة لنتنياهو متنوعة أيديولوجياً للغاية، وتمتد من حزب ميرتس على اليسار، إلى حزب الوحدة الوطنية (برئاسة جدعون ساعر) في يمين الوسط. وعلى مدى الدورات الأربع الماضية، كانت تلك الكتلة تحصل في المتوسط على 50 مقعداً في الكنيست، ولا يبدو من خلال استطلاعات الرأي الأخيرة أنها قد تحصل على أكثر من ذلك، مما يعني أنه إذا أراد حزب لابيد (يش عتيد) أن يُزيد حصته، فمن المحتمل أن يأتي ذلك على حساب الأحزاب الأخرى داخل الكتلة.

كل هذا أدى إلى استنتاج واحد، وهو أن لابيد يحتاج إلى تغيير استراتيجيته، بحيث يتجه إلى الحشد وليس الإقناع، أملاً في إحداث انقلاب أخير قبل الانتخابات. ويبدو أن تصريحاته كانت مُصممة لهذا الغرض، فهو يرغب في حشد القطاع المؤيد له أيديولوجياً، والذي لم يكن في السابق مبالياً أو متحمساً للتصويت. ولكن حديث لابيد عن حل الدولتين، ربنا يستثير هذا القطاع، ويدفعه إلى صناديق الانتخابات، لإحداث الفارق لصالحه. باختصار، فإن خطاب لابيد يمكن أن يمثل محاولة لإعطاء الوسطيين المترددين أو غير المُصوتين سبباً للذهاب إلى صناديق الاقتراع، وذلك في رهانٍ ربما يعتبره لابيد أفضل فرصة له.

إجمالاً، وبالنظر إلى الصعوبات التي تحول دون تطبيق "حل الدولتين" أو حتى استئناف المفاوضات حوله، في ظل التركيبة السياسية الإسرائيلية الحالية، قد يكون الترجيح الأكثر منطقية هو رغبة لابيد في إحداث نقلة نوعية في انتخابات الكنيست المقبلة لصالحه، وحتى إذا نجح لابيد في الظفر بمنصب رئيس الوزراء، ورَغِب في إعادة تبني "حل الدولتين"، فإن نجاحه سيعتمد على تركيبة حكومته الجديدة، ومدى قبولها وانسجامها مع ذلك المخطط.