كوابح غربية:

سيناريوهات التصعيد التركي – اليوناني.. تهدئة أم حرب جديدة؟

21 September 2022


بعد فترة الهدوء النسبي التي خيمت على علاقة عضوي حلف شمال الأطلسي "الناتو"، تركيا واليونان، شهدت الأسابيع الماضية تصعيداً في حدة التصريحات والتهديدات المُتبادلة بين البلدين، وذلك على خلفية الأزمة التاريخية حول ملكية جزر بحر إيجة على طول سواحل البحر المتوسط. وعلى الرغم من كون هذه الأزمة واحدة من بين عدة ملفات خلافية شائكة بينهما، وعلى رأسها التنقيب عن غاز شرق المتوسط، وتقسيم جزيرة قبرص، والحدود البحرية والجوية؛ فإن التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وغيره، في أكثر من مناسبة مؤخراً، تدق ناقوس الخطر، وتُنذر بدخول العلاقات مع اليونان مرحلة جديدة يخشى البعض أن يكون أحد سيناريوهاتها التصعيد العسكري.

مؤشرات التصعيد:

انتقل الرئيس أردوغان، في خطاب له يوم 3 سبتمبر 2022، من مجرد "التشكيك في سيادة" اليونان على جزر بحر إيجة، إلى اتهامها "باحتلال" تلك الجزر، مُهدداً بإمكانية شن عمل عسكري ضد اليونان في أي لحظة، ومُستشهداً في ذلك بمعركة إزمير عام 1922، عندما طرد كمال أتاتورك اليونانيين في حربه لتحرير تركيا الحديثة. واُعتبر هذا الخطاب التركي تهديداً صريحاً لأثينا؛ نظراً لحمله أكثر من دلالة ومعنى تاريخي سيئاً بالنسبة للجانب اليوناني، كان أبرزها استخدام عبارة "قد نأتي فجأة ذات ليلة، على حين غرة"، وهي عبارة طالما استخدمها أردوغان قبل إطلاق العمليات العسكرية في سوريا والعراق.

وجاءت تهديدات أردوغان، عقب اتهام تركيا لليونان بمضايقة مقاتلاتها فوق بحر إيجة وشرق المتوسط. ففي يوم 23 أغسطس الماضي، اتهمت وزارة الدفاع التركية اليونان باستهداف مقاتلاتها من طراز "إف – 16" أمريكية الصُنع أثناء قيامها بعملية عسكرية ضمن مهام حلف "الناتو" فوق البحر المتوسط، بتتبع طائراتها والتشويش عليها من قِبل رادارات نظام الدفاع الروسي "إس - 300" الذي تمتلكه اليونان في جزيرة كريت، الأمر الذي اعتبرته تركيا عملاً عدائياً ضدها، وفقاً لقواعد الاشتباك في حلف "الناتو". وبينما أنكرت اليونان تفعيل هذه المنظومة، أكدت أنقرة وجود تسجيلات تؤكد وقوع الحادثة ستقوم بإرسالها إلي الأمين العام للناتو، وإلى وزارات دفاع جميع الدول الأعضاء في الحلف. وفي 25 أغسطس الماضي، اتهمت وزارة الدفاع التركية، مقاتلات "إف-16" يونانية باعتراض مقاتلتين تركيتين، كانتا تنفذان مهاماً لحلف الناتو فوق بحر إيجة، مضيفة أن الطائرتين ردتا بـ "قوة".

وفي المقابل، وجه وزير خارجية اليونان، نيكوس ديندياس، يومي 5 و6 سبتمبر الجاري، 3 خطابات لكل من حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة، بشأن ما وصفه بـ "عدوان تركيا المُتنامي"، حيث استعرض ما ورد في خطابات أردوغان، وما تضمنته من اتهامات وتهديدات مباشرة للأمن القومي اليوناني، مُطالباً بإدانة هذه "الخطابات العدوانية"، على حد وصفه، ووضع حد لها قبل أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة بين البلدين.

عوامل مُفسرة:

لعل التساؤل الأكثر إلحاحاً هو كيف وصلت العلاقات التركية – اليونانية إلى هذه المرحلة من التصعيد والتلويح بالحرب، وذلك على الرغم من وجود مؤشرات حول مساعي الطرفين للخطى بعلاقتهما نحو مسار جديد من التنسيق والتعاون، عبرت عنه زيارة رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، لاسطنبول للقاء الرئيس أردوغان، يوم 13 مارس 2022، والتي أسفرت عن اتفاق البلدين على ضرورة إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، على أن لا يتم إشراك أي دول ثالثة بينهما، لتحسين العلاقات الثنائية وفتح صفحة جديدة، لاسيما في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي فرضتها الحرب الروسية – الأوكرانية على الساحة الإقليمية والدولية.

وهذا التساؤل يمكن الإجابة عنه من خلال تحليل خلفية بعض المسائل الخلافية التاريخية بين تركيا واليونان، والتي تجددت في ضوء عدة مُستجدات حدثت مؤخراً، يمكن تناولها على النحو التالي:


1- اتهام اليونان بتسليح جزر بحر إيجة: دعا الرئيس أردوغان، في كلمة ألقاها خلال مراسم ختام المناورات الأكبر للقوات المسلحة التركية "أفس 2022"، في ولاية إزمير، يوم 9 يونيو 2022، اليونان للالتزام بالاتفاقيات الدولية، والتوقف عن تسليح جزر بحر إيجة، مُشدداً على أن ذلك تعتبره تركيا تهديداً لأمنها القومي. فوفقاً لاتفاقيتي لوزان عام 1923، وباريس عام 1947، تعتبر جزر بحر إيجة الواقعة تحت السلطة اليونانية على طول سواحل تركيا، منطقة منزوعة السلاح. 

وكان وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، قد هدد، في مايو 2022، ببحث مسألة سيادة اليونان على جزر بحر إيجة حال عدم نزع الأسلحة، متهماً أثينا بانتهاك الوضع القائم في جزر شرق بحر إيجة. وقال أوغلو "إنه تم وضع عدد من الجزر في بحر إيجة تحت سيطرة اليونان بموجب اتفاقيتي لوزان وباريس بشرط عدم تسليحها، وعليها نزع الأسلحة، وإلا فسيبدأ بحث مسألة السيادة".

وبالرغم من تعهد اليونان بموجب تلك الاتفاقيات بعدم عسكرة الجزر، فإنها شرعت في تسليح الجزر المُقابلة للسواحل التركية، بنشر آلاف الجنود، وإنشاء المطارات العسكرية، ومخازن الأسلحة، وإقامة المناورات العسكرية بها، مُستندة في ذلك إلى المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على "حق الدفاع عن النفس"؛ في إشارة من اليونان إلى أن تسليحها لتلك الجزر جاء تأميناً لأمنها القومي من وجود وحدات عسكرية وطائرات وسفن إنزال تركية على السواحل القريبة منها.

2- ضغوط أثينا على واشنطن لوقف صفقة مقاتلات "إف-16" لأنقرة: بدأت إرهاصات عودة العلاقات التركية – اليونانية إلى نقطة التوتر، والمُشاحنات عقب إلقاء رئيس الوزراء اليوناني خطاباً أمام الكونجرس الأمريكي في منتصف مايو 2022، خلال زيارته إلى واشنطن، حث فيه أعضاء الكونجرس على تبني إجراءات ضد أنقرة، وطالب الإدارة الأمريكية بالامتناع عن المُصادقة على بيع مقاتلات "إف – 16" لتركيا، مُتهماً إياها بانتهاك المجال الجوي اليوناني. وقد دفع ذلك الرئيس أردوغان للتصريح بأنه لن يشارك في أي حوار مستقبلي مع اليونان، قائلاً: "لم يعد موجوداً شخصاً اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة إليّ". 

3- تزايد التعاون العسكري اليوناني – الأمريكي: شهدت العلاقات اليونانية – الأمريكية مؤخراً تنامياً ملحوظاً، لاسيما من حيث التعاون العسكري والدفاعي بين البلدين، حيث يتم تعزيز النفوذ العسكري الأمريكي في البلدات اليونانية الحدودية مع تركيا، وذلك على خلفية اتفاقية التعاون الدفاعي والعسكري بين اليونان والولايات المتحدة المُبرمة منذ عام 1990. فبموجب التعديل الأخير للاتفاقية في 13 مايو 2022، من المُقرر أن يتم تجديد الوجود الأمريكي العسكري في اليونان كل 5 سنوات بدلاً من سنة واحدة، إضافة إلى الاتفاق على توسيع وتطوير البنية التحتية لقاعدة "سودا" البحرية الأمريكية في جزيرة كريت، فضلاً عن وجود قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة "ألكسندروبولي" على بحر إيجة قرب تركيا، وهي تضم نحو 1800 مدرعة أمريكية و20 ألف جندي أمريكي؛ الأمر الذي تعتبره تركيا تهديداً لأمنها القومي. 

4- تطوير اليونان لسلاحها الجوي في مواجهة تركيا: تسعى اليونان مؤخراً إلى تطوير أسطول دفاعها الجوي، ضمن مساعيها لتصبح واحدة من أقوى القوات الجوية في المنطقة، حيث تعاقدت مع الولايات المتحدة لشراء حوالي 20 طائرة من مقاتلات "إف - 35" الشبح، مع إمكانية إضافة 20 طائرة أخرى في المستقبل، ووجود أنباء حول اتفاق بشأن مشاركة اليونان في برنامج تصنيعها، إلى جانب تعاقدها على ترقية 84 طائرة من طراز "إف - 16" إلى أحدث نسخة من طراز "بلوك 72". علاوة على شراء المُسيرات الأمريكية "إم كيو- 9"، ووضع مشروع تصنيع طائرات مُسيرة يونانية الصُنع على أجندة المرحلة القادمة في إطار مواجهة المُسيرات التركية. 

الجدير بالذكر أيضاً أن اليونان تعمل على تعزيز دفاعها الجوي بالتعاون مع إسرائيل من خلال استيراد نظام مُتطور مُضاد للطائرات المُسيرة التركية يُحاكي نظام "القبة الحديدية" المُضاد للصواريخ، بهدف التشويش على اتصالاتها، فضلاً عن وجود إمكانية إسقاطها على مسافة تصل إلى 2 ميل باستخدام الليزر غير المرئي.

5- أهمية جزر بحر إيجة في ظل أزمة الطاقة العالمية: تعتبر خرائط ترسيم الطاقة في بحري إيجة والمتوسط، من بين أبرز أسباب توتر العلاقات التركية – اليونانية، لاسيما بعد أن أدت الحرب الروسية – الأوكرانية إلى أزمة طاقة في العالم. إذ تسعى تركيا إلى أن تكون شريكاً استراتيجياً مؤثراً وحيوياً للغرب، من خلال المشاركة في مشاريع إيصال غاز شرق المتوسط إلى أوروبا. وتعود أهمية فتح ملف ملكية جزر بحر إيجة بالنسبة لأردوغان في هذا التوقيت، من منطلق كونها مُصنفة كأكثر الأماكن الغنية بالنفط والغاز الطبيعي، فضلاً عن ميزاتها الاقتصادية كنقطة اتصال مباشر مع عدد من البحار المفتوحة، وسيطرتها على عدد من المضائق والخلجان التي تجعلها تتحكم في الوضع الإجمالي للملاحة الحرة في المنطقة. 

6- توظيف الخطاب القومي مع اقتراب موعد الانتخابات التركية: في ضوء استعداد تركيا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المُقبلة والمُقررة في يونيو 2023، يسعى أردوغان، من خلال اتهام الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بدعمهما لليونان لأسباب مرتبطة بالهوية الدينية، إلى تصعيد الخطاب القومي لكسب التيارات الإسلامية القومية في حملته الانتخابية، لاسيما بعد تراجع شعبية حزبه الحاكم "العدالة والتنمية"، على خلفية ما تمر به البلاد من تدهور في الأوضاع الاقتصادية، وانخفاض في قيمة "الليرة" مقابل الدولار الأمريكي. وعلى صعيد آخر، تستغل المعارضة التركية أزمة الملف اليوناني بشأن جزر بحر إيجة، في مهاجمة حكومة أردوغان، واتهامها بإهمال هذه القضية، وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتها.

مواقف الغرب:

لقراءة سيناريوهات الأزمة التركية – اليونانية الحالية، لاسيما في ضوء الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعيتها على المنطقة، من المهم الأخذ في الاعتبار مواقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من هذه الأزمة وأطرافها. فبالنسبة للموقف الأوروبي، أكدت المفوضية الأوروبية، يوم 5 سبتمبر 2022، أن الخطاب "العدواني" التركي ضد اليونان غير مقبول، على حد وصفها، ويتعارض مع جهود خفض التصعيد في منطقة شرق المتوسط، التي دعت إليها مُخرجات المجلس الأوروبي في يونيو 2022. كما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم 12 سبتمبر الجاري، لرئيس وزراء اليونان، كيرياكوس ميتسوتاكيس، دعم باريس الواضح والحازم له في مواجهة تهديدات تركيا. وقال "نرفض الملاحظات التركية التي تشكك في سيادة اليونان".

وفيما يخص الموقف الأمريكي، فإنه يتسم بحساسية شديدة، خاصةً أن دعم واشنطن لأثينا يُعبر عن ازدواجية سياستها تجاه مسألة تسلح اليونان كعضو في حلف "الناتو" بمنظومة الدفاع الروسية "إس -300"، في مقابل فرض عقوبات على تركيا لشراء منظومة الدفاع الروسية "إس - 400"، وإخراجها من مشروع مقاتلات "إف - 35"، تحت مبرر أن شراء منظومة الدفاع الروسية يتعارض مع البنية العسكرية لدول "الناتو"، وأن اليونان لم تُفعل تلك المنظومة. علاوة على وقف الولايات المتحدة لمشروع تزويد تركيا بمقاتلات "إف-16"، وربط استكمال هذا المشروع بشرط تعهد أنقرة بعدم انتهاك الحدود الجوية التي تعتبرها اليونان تحت سيادتها.

سيناريوهان للأزمة: 

في ضوء ما سبق، يمكن الإشارة إلى سيناريوهين مُحتملين بالنسبة للتوتر الراهن بين تركيا واليونان، وهما كالتالي:

1- سيناريو عدم التصعيد العسكري، واللجوء إلى الحوار، وهو الأقرب للواقع لعدة اعتبارات، ومنها:

أ- أن هذا النوع من التصعيد لن يكون في مصلحة أي طرف في الأزمة، خاصةً في ظل ما تشهده المنطقة من تحديات أمنية واقتصادية بسبب تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو الأمر الذي يُرجح معه أن تعمل كل من الولايات المتحدة وأوروبا على خفض حدة التوترات بين تركيا واليونان، وحل أزمتهما دبلوماسياً عبر الحوار، في ظل الحرص على تماسك حلف "الناتو" والتحالف الغربي في مواجهة روسيا.

ب- سيكون من الصعب على الحكومة التركية أن تُجازف بدخولها في ساحة حرب جديدة، تُكبدها المزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية، خاصةً في ظل استمرار تعزيز اليونان لسلاحها الجوي بأحدث الأنظمة الغربية والإسرائيلية. 

ج- على الرغم من الدعم الأمريكي والأوروبي لليونان، فإن أثينا تُدرك أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لن يقدموا على اتخاذ موقف مُضاد لتركيا، كما حدث من قبل، عندما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أنقرة في نوفمبر 2019 وفبراير 2020 على خلفية النزاع في شرق المتوسط؛ وذلك في ظل تداعيات حرب أوكرانيا، حيث تُمثل تركيا ورقة مُتاحة للغرب في ملف الغاز، وكوسيط في الأزمة الأوكرانية، وأيضاً حتى لا تقترب أنقرة من موسكو.

2- سيناريو الحرب، وهو احتمال غير مُرجح حدوثه، ولكن يظل يخشاه البعض، لاسيما في حال استمرار تصعيد الاتهامات والتهديدات المُتبادلة بين الجانبين التركي واليوناني، خاصةً فيما يتعلق بمسألة تسليح جزر بحر إيجة، الأمر الذي تعتبره تركيا تهديداً لأمنها القومي، فضلاً عن رغبة أردوغان في استثمار التوتر مع اليونان لتعزيز فرصه وحزبه الحاكم في الانتخابات القادمة. 

أخيراً، يمكن القول إن تصريحات رئيس الوزراء اليوناني، يوم 11 سبتمبر 2022، التي أكد خلالها على أن قنوات الحوار مفتوحة مع الجانب التركي، وأن قمة الاتحاد الأوروبي غير الرسمية المُزمع انعقادها في مطلع شهر أكتوبر المقبل ستكون فرصة لحل الأزمة من دون الدخول في تصعيد عسكري؛ هي في واقع الأمر لا تُعبر فقط عن وجهة النظر اليونانية، إنما تُمثل كذلك التوجه الغربي نحو تجنب حدوث أي تصعيد عسكري جديد في هذه المنطقة.