فرص مُقيدة:

هل تُسهم اجتماعات (5+5) في توحيد الجيش الليبي؟

15 August 2022


أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية وصول وفد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا من مدينة طرابلس إلى مدينة سرت للمشاركة في اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) بالمدينة يوم 10 أغسطس 2022. وجاء ذلك بالتزامن مع الذكرى الـ 82 لتأسيس الجيش الليبي، وبعد اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة بالعاصمة طرابلس للمرة الأولى في 18 و19 يوليو الماضي. وكان من المُقرر أن يعقد الاجتماع التالي للجنة في مدينة بنغازي بعد أسبوع من اجتماع طرابلس، وفق ما أعلنته رئاسة الأركان بالقيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية (الجيش الوطني الليبي)، لكن ذلك لم يحدث وتأجل الاجتماع من دون توضيح أسباب التأجيل.

وتطرح تلك التطورات، جُملة من التساؤلات حول مجريات المسار الأمني للتسوية في ليبيا، وطبيعة الفرص والقيود المؤثرة على هذا المسار بالغ الأهمية كآلية رامية لإعادة توحيد الجيش الليبي.

تطورات لافتة:

شهدت ليبيا في الفترة الأخيرة عدداً من التطورات والمتغيرات المتصلة تأثيراتها، بشكل أو آخر، بمجريات المسار الأمني، وهو المرتبط بأنشطة اللجنة العسكرية (5+5) وجهود توحيد الجيش الليبي، ومن أبرزها الآتي:

1- تجدد الاحتجاجات الشعبية: شكلت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في مطلع يوليو الماضي بأغلب المدن الليبية، تطوراً مُهماً يُنذر بخطورة انزلاق البلاد في حالة بالغة التعقيد والتأزم؛ وهي ثاني احتجاجات واسعة تشهدها ليبيا بعد احتجاجات أغسطس 2020. وفرضت تلك الاحتجاجات، ومحاولات توظيفها لخدمة الأجندات السياسية المُتنافسة، ضرورة كسر جمود المسار الأمني، والحيلولة دون إجهاض مكتسبات اللجنة العسكرية في خضم هذا المشهد المأزوم. وقد بدا واضحاً دعم الأطراف العسكرية (شرقاً وغرباً) لمطالب المتظاهرين، والتأكيد على عدم نيتهم الدفع بقواتهم للتصدي للاحتجاجات أو استخدام العنف ضدها. 

2- اشتعال المواجهات المسلحة: تصاعدت المواجهات بين المجموعات المسلحة والميليشيات المُتناحرة على فرض السيطرة بالمنطقة الغربية، وكانت أبرزها الاشتباكات التي وقعت بمحيط مبنى المخابرات الليبية بالعاصمة طرابلس بين قوة الحرس الرئاسي وقوة الردع في 22 يوليو الماضي. كما اندلعت اشتباكات عنيفة، مساء يوم 5 أغسطس الجاري، بين مجموعات مسلحة موالية للحكومتين المُتنازعتين (حكومة الوحدة الوطنية، وحكومة الاستقرار الوطني)، في منطقة الجبس جنوب العاصمة طرابلس. وتعد تلك الاشتباكات إحدى الفصول المُتكررة من المواجهات بين الميليشيات التي تتقاسم النفوذ في بعض المدن الليبية، وصارت مُقوضاً لجهود تثبيت الأمن والاستقرار. وهذا ما يفرض أيضاً ضرورة المعالجة السريعة لتلك الإشكالية البارزة على أجندة اللجنة العسكرية، والتعاطي برؤية سريعة ومُتزنة مع تلك المجموعات. 

3- تصاعد الإشكاليات التنفيذية: تعايش ليبيا سلسلة من الأزمات العاصفة بهياكلها التنفيذية؛ فمع وجود حكومتين تتنافسان على السلطة، بدأت الإشكاليات التنفيذية في التفاقم والتسارع، فنجد أزمة تغيير مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، وما أعقبها من مساعٍ للتصعيد والشحن السياسي، بالإضافة إلى العمليات المُتكررة لإغلاق حقول النفط بسبب غياب العدالة في توزيع العوائد وقصور الأجهزة والمؤسسة التنفيذية عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. وانعكست هذه التطورات على مسار اللجنة العسكرية في العديد من المناسبات، والتي كان أبرزها إعلان أعضاء اللجنة عن الشرق تعليق مشاركتهم فيها خلال شهر أبريل الماضي. كما فرضت تلك المُستجدات أهمية إيجاد صيغة لتسريع وتيرة أنشطة لجنة (5+5)؛ لاستباق أية تداعيات تُقوض ما أنجزته خلال جولات عملها السابقة.

فرص داعمة:

تُظهر العديد من العوامل وجود مساحات تسمح بتعزيز التقدم المُحرز بجولات وفعاليات المسار الأمني، كصمود الترتيبات الأمنية - العسكرية، والدعم الليبي المُتصل بإنهاء المظاهر المسلحة وتوحيد المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى التوافق الدولي والإقليمي على دعم استقرار ليبيا، وهو ما نستعرضه فيما يلي:

1- صمود التفاهمات الأمنية - العسكرية: تجاوزت الترتيبات والتوافقات التي صاغتها لجنة (5+5)، العديد من التحديات الهيكلية المُتعاقبة. ولم تشهد الساحة الليبية مواجهات مسلحة بين القوات والكتائب التابعة للمعسكرين (الشرق والغرب) منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 وحتى الآن. ويُمهد نجاح تلك الترتيبات لتخفيض فرص تجدد الاقتتال واسع النطاق في ليبيا، وتعزيز الثقة في المُخرجات التي قد تؤسس اللجنة العسكرية لها في الفترات القادمة، لاسيما تلك المُتعلقة بصياغة إطار مُنظم لعملية توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد. كما يُعد المسار الأمني أكثر المسارات دينامية في عملية التسوية؛ كون تلك الترتيبات وصمودها يطرح فرصاً أكبر للتوافق وحشد الدعم الاقليمي والدولي لجهود لجنة (5+5)، في ظل تعثر المسارات الأخرى.

2- الرغبة في إنهاء المظاهر المسلحة: يتمسك الليبيون بضرورة إنهاء حالة الفوضى والمظاهر المُسلحة التي أنتجتها سيطرة الميليشيات والمجموعات المسلحة على مفاصل الدولة، وتناحرهم واقتتالهم على توسيع النفوذ وإثبات الوجود. فقد كشفت تلك الأنشطة خطورة استمرار المشهد الليبي بالنمط ذاته، وأهمية إيجاد مؤسسة عسكرية نظامية موحدة؛ لتتصدى لتلك المظاهر وتُحقق القدر المُلائم من الانضباط الأمني، وضمانة احتكار الدولة للسلاح. وتُمثل الإرادة الليبية في إنهاء المظاهر المسلحة فرصة واعدة يمكن البناء عليها لدعم جهود لجنة (5+5)، وتعزيز قدرتها على الوصول لترتيبات جديدة تقود لتوحيد الجيش الليبي؛ كونها النواة العسكرية النظامية القادرة على تحقيق قدر ملائم من الانضباط الأمني، والبديل الأمثل لإنهاء الفوضى والمظاهر المسلحة في المدن الليبية.

3- السياق الدولي الداعم: ضاعفت المُتغيرات العالمية الجارية من حظوظ اللجنة العسكرية الليبية بإتمام الأدوار المُسندة إليها؛ إذ عززت تداعيات الأزمة الروسية - الأوكرانية من أهمية صادرات النفط والغاز الليبية إلى أوروبا. كما حفزت التحديات الناشئة بوجه الاقتصادات الدولية في أعقاب جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، اتجاهاً عالمياً وإقليمياً داعماً لتسوية الأزمات والاضطرابات في الدول الأخرى، وفي صدارتها الأزمة الليبية. وقادت تلك التحولات إلى حشد الدعم الإقليمي والدولي للجهود الرامية لخفض خطر الارتداد للمواجهات الميدانية، وتوفير المُتطلبات والضمانات اللازمة لإنجاح تلك الجهود. وهو ما حظيت جهود اللجنة العسكرية بنصيب وافر منه؛ كونها أثبت قدرتها على تثبيت الاستقرار الميداني، والذي يعد الضمانة الأساسية لحلحلة باقي المسارات، وبشكل أساسي عودة إنتاج وتصدير النفط الليبي مجدداً إلى الأسواق العالمية المُتضررة بفعل الحرب الأوكرانية. 

قيود مُعطلة:

يواجه مسار توحيد الجيش الليبي حزمة مُعقدة من القيود والعقبات المُعطلة لتحقيق التقدم المنظور في هذا السياق؛ وذلك في ظل الانقسام المُتصاعدة تأثيراته بهيكل السلطة التنفيذية، والقيود المالية والمؤسسية على أنشطة اللجنة العسكرية، بالإضافة إلى التحالفات الراسخة بين بعض القوى السياسية والمجموعات المسلحة والميليشيات، وصولاً إلى تفاقم الإشكاليات والتهديدات الأمنية بوجه الدولة الليبية. ويُمكن توضيحها فيما يلي:

1- انقسام السلطة التنفيذية: يُعد تنافس حكومتين على مقاليد السلطة التنفيذية ضمن أبرز التحديات المُعرقلة لأنشطة لجنة (5+5) وتوحيد الجيش الليبي، حيث انعكس ذلك سلباً على تأزم وانسداد المشهد السياسي، وبالتبعية تفاقمت المخاوف من تغول أحد المعسكرات على الآخر حال الشروع في إجراءات مُتقدمة في سياق عملية توحيد المؤسسة العسكرية، وهو ما عطّل اتخاذ إجراءات جوهرية في هذا المسار طيلة الفترات الماضية، ويهدد بتجدد القيود ذاتها حال بلغ الانسداد السياسي مستويات مُرتفعة مرة أخرى.

2- القيود المالية والمؤسسية: تواجه اللجنة العسكرية حزمة أخرى من العراقيل المُتصلة بإدارة تدفقات الموازنة والمخصصات المالية، بالإضافة إلى التبعية المؤسسية لأعضاء اللجنة شرقاً وغرباً؛ حيث دفع تكرار حجب المخصصات المالية للقيادة العامة، وعدم عدالة وشفافية توزيع عوائد بيع النفط وغيرها من العوامل؛ إلى إعلان أعضاء اللجنة عن الشرق تعليق مشاركتهم في اجتماعات المسار الأمني، بالإضافة إلى دعوتهم لوقف أنشطة إنتاج وتصدير النفط. كما يتبع أعضاء اللجنة عن الغرب رئاسة الأركان التابعة لوزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية، وهي الحقيبة التي يديرها رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، ما يثير إشكاليات هيكلية في حال تصاعد الخلافات السياسية، وبدء محاولات لتسييس عمل اللجنة.

3- ترسخ التحالفات الهجينة: تشكلت على مدار السنوات الماضية شبكات من التحالفات الهجينة بين بعض القوى والتيارات السياسية والمجموعات المسلحة والميليشيات وعصابات التهريب، وعادت تلك التحالفات إلى الواجهة عقب إلغاء الاستحقاق الانتخابي في 24 ديسمبر الماضي. وتُمثل تلك الشبكة مُتداخلة المصالح ومُتعددة المستويات، عاملاً مُعرقلاً لجهود توحيد المؤسسة العسكرية. إذ يُدرك الفاعلون في الأزمة أن توحيد الجيش الليبي يعني حل تلك الكيانات غير النظامية، وحصر السلاح بيد المؤسسة المُوحدة، وبالتبعية إنهاء وجود تلك المجموعات، وافتقاد القوى السياسية للظهير المسلح الذي لطالما وفّر لها الدعم والإسناد في فترات عديدة؛ لذلك تسعى لتقويض تلك الجهود أو تفريغها من التفاهمات التي يمكن أن تشكل خطراً على وجودها.

4- تفاقم التحديات الأمنية: تفرض حزمة التهديدات الأمنية المُتصاعدة في وجه الدولة الليبية قيوداً إضافية على عملية توحيد المؤسسة العسكرية؛ حيث تعاني ليبيا تحديات بالغة التعقيد مثل تجدد المواجهات المسلحة، ونشاط التنظيمات الإرهابية وعصابات التهريب والجريمة المُنظمة. وتستدعي تلك التحديات إدارة أنشطة توحيد المؤسسة العسكرية بتوازن وحسابات دقيقة، لاسيما عمليات نزع السلاح والتسريح والدمج. 

إجمالاً، يمكن القول إن عملية توحيد الجيش الليبي صارت تحظى بأهمية واهتمام كبيرين، وبالرغم من أنها تشهد العديد من المُؤشرات الإيجابية الدالة على إمكانية استغلال الفرص المُتاحة أمام لجنة (5+5) لتحقيق اختراق فارق في الأزمة الراسخة منذ 11 عاماً؛ فإن تلك الجهود مازالت تُواجه جُملة من التحديات التي تتطلب حشد الدعم للإرادة الليبية الساعية لتجاوز الصعوبات القائمة والانتقال إلى مستوى متقدم من عملية صياغة أُطر بناء مؤسسة عسكرية وطنية ضامنة لوحدة واستقرار ليبيا.