ملامح نظرية الصين حول مراجعة وتغيير شكل النظام الدولي

27 April 2022


صارت الحرب الروسية الأوكرانية أزمة دولية بامتياز تمسُ المصالح العليا لكثير من دول العالم، بعد أن مسَّت العمليات العسكرية شغاف الأمن الأوروبي، وأدت نتائجها الاقتصادية إلى تضخم عالمي يُوجِعُ قضايا الطاقة والغذاء والبناء في العالم. وعلى الرغم من أن الاتصالات لم تتوقف بين روسيا وأوكرانيا، وبين روسيا والعديد من العواصم الأوروبية، ولم تتوقف كليةً الإشارات والرسائل بين موسكو وواشنطن، إلا أنها كلها لم تتوصل لا لوقف لإطلاق النار، أو لتسوية سياسية للأزمة التي تخندَقَ فيها الروس عند تفوقهم العسكري النسبي، بينما التحف الأمريكيون والأوروبيون بإحكام العقوبات الاقتصادية؛ ليبقى كل طرف بعد أكثر من شهرين على بداية الحرب على مطالبه الأوليَّة.

أوكرانيا من جانبها، وهي الطرف الأضعف في كل المعادلات، حاولت تعزيز مقاومتها، وتنمية التعاطف الدولي حولها، بينما سقط لها الكثير من الضحايا، بعضهم من المدنيين، ونزف لها الألوف من الجرحى، وخرج منها ثلاثة ملايين من اللاجئين. استمرار الأزمة على هذا النحو لم يشكل فقط ضغطاً كبيراً على النظام الدولي وعلاقات القوى العظمى فيه، وإنما أيضاً على النظام العالمي وتفاعلاته. والمحصلة هي ما يكفي من آلام المخاض الذي قد تموت فيه البشرية إذا ما استمر التصعيد في الأزمة والعمليات العسكرية، أو يُولَد من رحم الأوضاع الراهنة تفاهماتٍ واتفاقياتٍ دولية جديدة ربما تؤسس لنظام دولي وعالمي جديديْن يحققان نوعاً من الأمن والسلم الدولييْن.

عودة إلى بيان 4 فبراير 2022

يبدو البعد الصيني في هذه العملية بالغ الأهمية، وربما بفعل توالي الأحداث والتركيز على ساحات الحرب والصدام الاقتصادي، فإن بكين بدت شاحبة الدور في الأزمة كلها. ولكن الواقع يشهد على دور مختلف للصين كانت البداية فيه في 4 فبراير 2022، عندما صدر البيان الصيني الروسي المشترك بعد لقاء الرئيسيْن، فلاديمير بوتين وشي جين بينج، في الدورة الأولمبية الشتوية في بكين. البيان كان صيحة مطالبة بمراجعة النظام الدولي الذي استقر منذ نهاية الحرب الباردة والقائم على الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي يستند إليها الأمن والسلام والتعاون في كوكب الأرض. وتضمنت الوثيقة أن "الديمقراطية" تمثل قيمة إنسانية عامة وليست امتيازاً لبعض الدول، ويمثل إحلالها والدفاع عنها مهمة مشتركة للمجتمع الدولي بأكمله. ولكن "لدى كل شعب الحق في اختيار سُبُل إحلال الديمقراطية"، و"ليس من حق أحد سوى هذا الشعب تقييم مدى ديمقراطية دولته"، وأن "محاولات بعض الدول فرض معايير ديمقراطية خاصة بها على بلدان أخرى تمثل إساءة للديمقراطية، وتشكل خطراً ملموساً على السلام والاستقرار العالمييْن والإقليمييْن وتقوض النظام العالمي".

كانت الدعوة للتغيير تقوم على وجوب المشاركة مع دول العالم الأخرى، وبالطبع القوى القائدة الجديدة التي منها روسيا، والتي تري في نفسها أنها لم تعد الاتحاد السوفيتي الذي انهار، وإنما قوة عسكرية يُعتدُ بها ليس فقط بما تمتلكه من ترسانة نووية هائلة، وإنما أكثر من ذلك قدرات عسكرية يمكن استخدامها بالإرادة السياسية للدولة كما هو حادث في سوريا. الصين من ناحيتها تعبر عن قوة اقتصادية هائلة، فضلاً عن القوة العسكرية، وتمثل بذلك شريكاً أساسياً في السوق العالمية، لا يمكن تجاهله أو تجاهل مصالحه العالمية والإقليمية في بحر الصين الجنوبي. الكلمة المفتاح في البيان وما تلاه من تصريحات هي ضرورة معاملة الولايات المتحدة لأقرانها – روسيا والصين – باحترام، وليس بإعطاء الدروس في الديمقراطية وحقوق الانسان.

ومع تصاعد الأزمة والحرب الروسية الأوكرانية، كان هناك شكوك قوية عمَّا إذا كانت الصين عالمة بالنوايا الروسية التي قررت أن تنقل مراجعة النظام الدولي من ساحة البيانات إلى أرض الواقع بتقييد قدرات حلف شمال الأطلنطي "الناتو" على التوسع إلى أوكرانيا، مع المراجعة الشاملة لتاريخ مرحلة نهاية الحرب الباردة التي شهدت ميلاد الولايات المتحدة كقائدة وحيدة للنظام الدولي والعالمي. في الإدراك الروسي للرئيس "بوتين" كان ذلك يعني أكبر خسارة جيوسياسية في التاريخ العالمي بما تسبَّب فيه من احتكار غير محمود لواشنطن في السياسة العالمية. الصين رغم توافقها مع فكرة المراجعة، فإنها في الواقع لم تنهار بعد نهاية الحرب الباردة، بل حققت نمواً اقتصادياً وعالمياً مرموقاً من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، كما أنه كان لديها طريقها الخاص لتحقيق العولمة ممثلاً في مبادرة "الحزام والطريق"، فضلاً عن دورها في منظمة التجارة العالمية، وفي كونها أصبحت أكبر شريك تجاري في العالم للولايات المتحدة الأمريكية. مثل ذلك كان فارقاً مبدئياً بين الصين وروسيا في رؤيتهما للمراجعة، والمرجح كما ظهر من سلوكها بعد بدء الأزمة أنها لم تكن على كامل معرفة بالنوايا الروسية اللهم إلا في التوافق على ضرر توسع حلف الأطلنطي داخل القارة الأوروبية.

موقف صيني مُفاجئ ومُعقد

بيان 4 فبراير جعل التفسيرات الأوليَّة للأزمة الروسية الأوكرانية تضع روسيا والصين في صف واحد. ولكن الصين سُرعان ما أدهشت الجميع عندما وقفت إلى جانب روسيا في موقفها من رفض توسع حلف الأطلنطي لكي يشمل أوكرانيا، ورأت في ذلك موقفاً طبيعياً لدولة لا تريد تهديداً يمتد إلى حدودها؛ ولكنها في نفس الوقت لم تكن تريد لأزمة الحشود الروسية أن تمتد لكي تكون أزمة عالمية في وقت يحتاج فيه العالم إلى مزيد من التعاون لمواجهة جائحة كورونا وأزمة الطاقة والتضخم، وليس مزيداً من الشقاق. ولكن الأزمة السياسية للحشد العسكري الروسي انقلبت إلى أزمة عسكرية عندما بلغ الحشد مبلغه وقامت روسيا بغزو أوكرانيا. هنا بدأت المفارقة بين روسيا والصين، فالأخيرة كقوة اقتصادية عالمية لديها أكثر الأعداد من بني البشر ترغب في عالم مستقر يسوده التعاون والوفاق. وفي مثل هذه النظرة، فإنه من الطبيعي أن ترفض الأحلاف العسكرية بما فيها حلف الأطلنطي بالطبع؛ ولكنه من غير الطبيعي أن يكون رفض حلف الأطلنطي سبباً لغزو أوكرانيا دونما محاولة كافية للتفاوض والبحث عن وسائل لتحقيق الأمن المشترك بدلاً من استخدام السلاح.

جاء موقف الصين بالامتناع عن التصويت في جلسة مجلس الأمن المُخصصة لبحث "الأزمة الأوكرانية" في شهر مارس الماضي، مفاجئاً لكثيرين، ولكنه في الواقع معبراً بشكل دقيق عن وجهة النظر الصينية التي أوضح "وانج يي" وزير خارجية الصين، أنها تتسق مع مبادئ الموقف الصيني في السياسة الخارجية، وأولها احترام سيادة ووحدة وسلامة أراضي جميع الدول، وهو ما ينطبق أيضا على القضية الأوكرانية. وثانيها تأييد الصين لمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمُستدَام، والذي لا يجعل أمن أي دولة آتياً على حساب الإضرار بأمن الآخرين، وهو ما يجعل سعي حلف الأطلنطي بعد جولات خمس من التوسع أن يتوسع مرة أخرى مقترباً من الحدود الروسية. ولكن القضية من جانب آخر تُورد ثالثها، وهي أن الصين "تتابع تطورات القضية الأوكرانية، والوضع الحالي هو شيء لا تريد للصين أن تراه". هنا تصبح "القضية" لها جوانبها الإنسانية التي تدعو الأطراف لمنع خروج الأزمة عن السيطرة، والتفاوض من أجل حل الأزمة بحيث تكون أوكرانيا في النهاية جسراً للتواصل بين الشرق والغرب وليست خطاً للمواجهة بين الدول الكبرى. التوازن هنا دقيق بين الحقوق السيادية لأوكرانيا، والحقوق الأمنية لروسيا، بوضع كل ذلك ليس في المجال الخاص بكل دولة، وإنما في إطار من الأمن الإقليمي للقارة الأوروبية كلها. الموقف الصيني هنا حريص على ألا تكون الأمم المتحدة ومجلس الأمن مطيِّة لأي طرف، لأن وظيفة مجلس الأمن ليس تأجيج الصراع وإنما حله، ولذلك تعارض الصين دائماً الاستشهاد عن عمد بالفصل السابع في قرارات المجلس للسماح باستخدام القوة والعقوبات.

تصويت الصين في مجلس الأمن، وبعد ذلك في الجمعية العامة، وضعها من ناحية في موقف مُعقد تجاه روسيا التي تُشارِكُها فكر المراجعة من ناحية، وموقعها العالمي وعلاقاتها الاقتصادية مع الغرب كله والولايات المتحدة في المقدمة من ناحية أخرى. ومن وقتها فإنها دأبت على الدعوة لوقف القتال والتسوية السلمية للأزمة مع بقاء الخطوط مفتوحة مع بكين وكييف في نفس الوقت. وعلى الجانب الآخر بقيت الخطوط مفتوحة مع القوى الأوروبية الساعية لحل دبلوماسي، وفي المقدمة منها فرنسا وألمانيا، والأهم مع واشنطن نفسها. والمُلاحظ هنا أن المباحثات الأمريكية الصينية دارت في إطار عالمي كوني، بينما تلك الصينية الروسية كانت إلى حد كبير محصورة في الأزمة الراهنة. والثابت أنه رغم ما يبدو من خلافات حول قضايا مبدئية مُثارَة من جانب واشنطن تتعلق بالتناقض بين "الديمقراطية والسلطوية"، وحق التدخل فيما يتعلق بحقوق الإنسان في الصين وغيرها من دول العالم؛ ومواقف الصين الخاصة بتايوان وبحر الصين الجنوبي، فإن الاتصالات بين واشنطن وبكين كانت دوماً طويلة وعميقة. وفي شهر نوفمبر الماضي جرت مباحثات بين "جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي الأمريكي و"يانج جي كي" الدبلوماسي الصيني "رفيع المستوي"، استمرت ثلاث ساعات، وأعقب ذلك اجتماع افتراضي بين الرئيس الأمريكي "جو بايدن" والرئيس الصيني شي جين بينج، استمر لثلاث ساعات أخرى. كان ذلك قبل الأزمة والحرب الأوكرانية، ولكن في أعقابها جرت اجتماعات أخرى في روما في 14 مارس 2022 بين الطرفين، واستمرت سبع ساعات كاملة، وأعقبها في 18 مارس اجتماع افتراضي آخر بين الرئيسيْن استمر ثلاث ساعات أخرى. طول مدة الاجتماعات يعكس الجدية من ناحية، وقائمة الأعمال الطويلة بين الطرفين من ناحية أخرى.

نحو معادلة أمريكية - صينية

العنوان العام لهذه المباحثات هو "جهود لإدارة المنافسة بين الدولتين ومناقشة تأثيرات حرب روسيا ضد أوكرانيا على الأمن الإقليمي (أوروبا) والعالمي". وخلال هذه المباحثات، فإن الموقف الأمريكي عاد به إلى "إعلان شنغهاي" الذي أرسى دعائم العلاقات الأمريكية الصينية قبل 50 عاماً. وأكد الرئيس "بايدن" أن العلاقات تصل الآن إلى لحظة حاسمة سوف تشكل العالم في القرن الواحد والعشرين؛ واستنادا إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تسعى إلى "حرب باردة جديدة" مع الصين، ولا تسعى إلى تغيير النظام في الصين، وتنشيط تحالفاتها لا يستهدف الصين، ولا تدعم الولايات المتحدة "استقلال تايوان"، وليست لدى واشنطن النية للسعي إلى صراع مع الصين. الجانب الأمريكي على استعداد لإجراء حوار صريح مع الجانب الصيني، والقيام بتعاون أوثق معه، والتمسك بسياسة الصين الواحدة، وإدارة الخلافات والسيطرة عليها بشكل فعَّال، بما يضمن التطور المستقر للعلاقات الأمريكية الصينية بما فيها التواصل الوثيق مع الرئيس الصيني للتحكم في اتجاه العلاقات الأمريكية الصينية. الرئيس الصيني من جانبه اقترب من الأزمة الأوكرانية عندما أشار إلى الأوضاع الدولية التي شهدت تغييراتٍ جديدة وهامة خلال الفترة الأخيرة تمثل تحديات خطيرة لعنوان العصر المتمثل في الأمن والتنمية والسلام. ولمَّا كانت الدولتان، الأمريكية والصينية، عضويْن دائميْن في مجلس الأمن الدولي، وأكبر اقتصاديْن في العالم، فإن عليهما ليس فقط أخذ العلاقات الصينية الأمريكية في الاتجاه الصحيح، وإنما أيضاً "تحمل المسؤولية الدولية المطلوبة، و"نبذل جهودنا من أجل السلام والأمن في العالم". ألقى الرئيس الصيني اللوم على الإدارة الأمريكية السابقة – دونالد ترامب - فيما يتعلق بتايوان وتشجيع قوى الاستقلال فيها، وإلى عدم ترجمة المواقف التي حددها الرئيس الأمريكي من الصين إلى واقع. وبعد ذلك أصبح ممكناً الحديث عن مواجهة الحرب الروسية الأوكرانية من منطلقات وقف إطلاق النار والمباحثات الروسية الأوكرانية ومراعاة الجانب الإنساني بالنسبة لأوكرانيا.

تفاصيل ذلك لا يزال غير مُذاعٍ بشكل كامل، والمُرجَّح أن زعيمي الدولتين سوف يتركان ذلك للمعاونين لتحديد إجراءاته، ولكن المُلاحَظ أن الصين كانت الأكثر ميلاً للتذكير بالحالة العالمية الخاصة بجائحة كوفيد 19، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة في العالم، والتي تحتاج بشدة تعاون البلدين بحكم الأعباء المُلقاة على عاتقهما. ورغم أنه من الصعب الحديث عن تطابق في وجهات النظر لأنه كما يُقَال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن المواقف الصينية تفتح الباب لأمور هامة، أولها أنها في ظل روح التعاون السائدة في المباحثات، فإن الصين سوف تُلقي بثقلها مع روسيا لوقف إطلاق النار في أوكرانيا لأنها لن تستطع إحباط العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وبالتالي تدخل في مواجهة مع واشنطن، وهو الموقف الذي من خلاله يمكنها مع الولايات المتحدة تقييد توسيع حلف الأطلنطي. وثانيها أنه رغم وجود خلافات تتعلق بوجود حلف الأطلنطي ذاته، والتحالفات الأمريكية مع استراليا واليابان وكوريا الجنوبية، فإن هناك ما يكفي من نقاط الاتفاق الساعية إلى وضع نهاية للحرب الأوكرانية. وثالثها أن هناك في مباحثات الطرفين ما يُغري بأنهما يدركان معاً حقيقة أنهما من الناحية الموضوعية يشكلان القوى الأعظم في المستقبل القريب؛ وإذا شاركتهما روسيا في المكانة، فإنها سوف تكون مجروحة من نتائج الحرب في سمعتها الدولية، وتواضع مكانتها الاقتصادية. الخلاصة أن البعد الصيني في أزمة الحرب الأوكرانية سوف يضع الكثير من ملامح نظام دولي جديد قادم.