ما بعد الصدمة:

ارتدادات السياسات الوبائية على مستقبل النظام الدولي

18 January 2022


عرض :منى أسامة

كشفت جائحة كورونا عن أزمة حقيقية لها تداعيات مؤثرة على طبيعة النظام الدولي، أبرزها، عدم قدرة القوى العظمى على التعاون من أجل مواجهة حالة الطوارئ الصحية العالمية، حيث سلكت كل دولة طريقها الخاص من تأميم الإمدادات، وإغلاق الحدود، وتجاهل كبير لبقية العالم، في ظل هيمنة الشعبوية على عملية صنع القرار. 

تلك الظروف والآثار المترتبة على الجائحة دفعت الكاتبين كولين كال  مستشار نائب الرئيس الأمريكي السابق "جو بايدن"، وتوم رايت، أحد كبار الزملاء في معهد بروكينجز، إلى تأريخ ونقل تصوراتهما حول الجائحة وتعامل الدول معها من خلال كتابهما المعنون "الهزات الارتدادية: السياسة الوبائية ونهاية النظام الدولي القديم"، إذ يناقش المؤلفان أبعاد التأثير المستمر للجائحة على المؤسسات والأفكار التي شكَّلت العالم الحديث، كالديمقراطية والحريات المدنية، بالإضافة إلى تبعات سياسات الجائحة على النظام الدولي الحالي. 

سياقات مضطربة:

يبدأ الكتاب بإلقاء الضوء على التشابه بين ظروف جائحة كورونا الحالية، والسياقات المصاحبة لجائحة الأنفلونزا الأسبانية في عام 1918، والتي انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم، من حيث تزامن انتشار الوباء مع تغيّر النظام العالمي بعد الحرب. 

فقد أصيب الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون بـ"الإنفلونزا الإسبانية" في ظل مساعيه إلى بناء اتفاق السلام الدائم في أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى. وتسبب الوباء في ركود الاقتصاد الأمريكي، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.5%، بالإضافة إلى انخفاض الإنتاجية، ونقص العمالة والطلب على سلع التجزئة، وهو ما تكرر مع أغلب الدول الغربية حينذاك. وبناءً عليه، جعلت توابع وباء الأنفلونزا العالم أكثر اضطراباً وقابلية لنشوب الصراعات، مما أدى إلى الحرب العالمية الثانية.

انطلاقاً من هذه الخبرة التاريخية، يرى المؤلفان أن هناك أربعة عوامل رئيسية أضعفت نظام المناعة الجيوسياسية للمجتمع الدولي في الفترة التي سبقت جائحة كورونا، ألا وهي السرعة المفرطة للعولمة، وعدم المساواة بين البشر، وصعود القومية الشعبوية، وتزايد التنافس بين الولايات المتحدة والصين. تلك العوامل جعلت العالم أكثر عرضة للأزمات عبر الوطنية مع ظهور وباء كورونا. فالعالم قبل هذا الوباء كان يتسم بالفوضى، بالتالي جاء الفيروس ليدفعه أكثر نحو الانهيار.

هنا، يلقي المؤلفان باللائمة أكثر على الصين، إذ يريان أنها لم تحسن التعامل مع جائحة كورونا بما زاد من الاضطراب العالمي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي لم تحسن فيها الصين الاستجابة إلى أزمة صحية عالمية، فعندما ظهر فيروس السارس في العام 2002، فضلت الصين إبقاء الأمر في طي الكتمان، كونها لم ترغب في تعطيل الموسم السياحي في يناير 2003. بل واتهمت السلطات مواطنين بالترويج للشائعات، كما تم حظر وسائل الإعلام الصينية. وعندما أصبح السارس أمر علني، رفضت الصين التعاون مع الجهات الدولية.

تكرر الأمر ذاته عندما ظهر فيروس كورونا في أواخر 2019، إذ أصدرت حينها لجنة الصحة الوطنية الصينية أمراً سرياً يمنع المعامل من نشر نتائجها حول التسلسل الجيني الكامل للفيروس، كما طلبوا إتلاف عينات الفيروس أو تسليمها، وقامت السلطات بحملة ضد الأطباء والصحفيين. 

في الوقت نفسه، ترددت منظمة الصحة العالمية في إعلان حالة الطوارئ الصحية العامة بسبب ضغط الصين على أعضاء لجنة الطوارئ التابعة للمنظمة، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى تعليق تمويل منظمة الصحة العالمية. كما ضغطت بكين أيضاً على العديد من الدول لعدم اتخاذ قرار بمنع السفر من وإلى الصين، بل ونظمت حملة تضليل عالمية من أجل إثارة الشكوك حول أصول الفيروس. ويرى المؤلفان أن سوء تعامل النظام الصيني المبكر مع الوباء أثَّر على مليارات الأشخاص حول العالم، وتسبب في النظرة السلبية من قبل العامة ضد بكين.

تعثر غربي ونجاح آسيوي: 

لم تتخذ دول الاتحاد الأوروبي موقفاً موحداً تجاه أزمة كورونا لاسيما أن المركز اﻷوروﺑﻲ ﻟﻠوﻗﺎﯾﺔ من اﻷﻣراض وﻣكافحتها التابع للاتحاد لا يتمتع بسلطة على أعضائه. كما أن المسؤولين الأوروبيين في البداية لم يروا في كورونا مشكلة كبيرة. وحتى بعد أن ازداد الأمر سوءاً في إيطاليا، فلم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئاً يُذكر لمساعدتها في مكافحة تفشي المرض ومواجهة التداعيات الاقتصادية. مع العلم أن الحكومة الألمانية كانت من أولى الدول التي قررت غلق الحدود، وحظرت أيضاً تصدير معدات الوقاية الطبية باستثناء حالات نادرة للمساعدة الطارئة، أما القادة الشعبويون في المملكة المتحدة والبرازيل والهند فقد سلكوا طرقاً متشابهة من حيث التقليل من الفيروس أو التشكيك فيه.

على جانب آخر، استطاعت تايوان بالرغم من قربها الجغرافي من الصين أن تمنع كورونا من التفشي فيها، لأنها أدركت في وقت مبكر خطورة الموقف، بسبب تجربتها السابقة مع السارس. كذلك نجحت كوريا الجنوبية في وقف انتقال الفيروس بشكلٍ فعَّال، وتجنب الإغلاق الوطني والتداعيات الاقتصادية المصاحبة، من خلال اتباع استراتيجية "الاختبار والتتبع والعزل". أما اليابانيون، فأظهروا امتثالاً إلى أوامر الحكومة بشكلٍ طوعي ساهم في تخفيف حِدة الأزمة، وهناك قصص نجاح أخرى في آسيا وأوقيانوسيا مثل، فيتنام ونيوزيلندا.

ويرى المؤلفان أن طبيعة النظام الحاكم ليس لها علاقة بقدرة الحكومة على السيطرة على كورونا، وهو ما كانت تروج له الصين بأن الدول السلطوية أكثر نجاحاً في احتواء الفيروس، لكن عوامل نجاح الدول تمثلت في السرعة والاختلافات الثقافية وإدراك القيادة خطورة الفيروس.

لقد أدى قرار "الإغلاق" الذي تبنته غالبية الدول إلى تعطيل قطاعات كبيرة من الاقتصاد وفقد الوظائف وتخفيض الأجور وتراجع إنفاق المستهلكين. ففي الأشهر التسعة الأولى فقط من عام 2020، ارتفعت المديونية العالمية بمقدار 15 تريليون دولار، وانخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة 49% في النصف الأول من عام 2020 مقارنة بعام 2019. 

عانت أيضاً الاقتصادات الرئيسية في العالم كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان من تداعيات سلبية جراء الجائحة في عام 2020، في المقابل أنهت الصين تلك السنة بمعدل نمو 2%. أما الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، فتأثرت إلى جانب الوباء وضعف الأنظمة الصحية بانخفاض أسعار الصادرات في السلع الأساسية، وتراجع السياحة مع توقعات بزيادة أعداد الجياع في العالم.

وبالرغم من دعوة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في مناطق النزاعات، استمر القتال في كولومبيا واليمن في محاولة من قبل الأطراف المتناحرة لاغتنام أزمة تفشي الوباء لتغيير الظروف لصالحها. علاوة على ما سبق، أدت القيود المفروضة على السفر وإغلاق الحدود إلى تجميد الهجرة مؤقتاً في معظم أنحاء العالم، مما ترك العديد من المهاجرين عالقين.

تسييس الجائحة:

فضل الرئيس السابق دونالد ترامب في البداية عدم اتخاذ قرار من شأنه تعطيل الاقتصاد، حيث استمر في التقليل من مخاطر كورونا، حتى بعد أن اضطر إلى اتخاذ قرار بإغلاق البلاد وتطبيق التباعد الاجتماعي في 15 مارس 2020 مع تفاقم الوضع الصحي. 

وانطلاقاً من إيمان إدارة ترامب والحزب الجمهوري بشكلٍ عام، بأن الجائحة ليست أزمة صحية بقدر ما هي سياسية، فقد أولت اهتماماً بالمخاطر التي قد يسببها التباطؤ الاقتصادي على احتمالات إعادة انتخاب ترامب في نوفمبر 2020. فاستخدم ترامب الصين كأداة لإبعاد مسؤوليته عن إدارته والتقليل من شأن الفيروس. ويرى المؤلفان أن التعثرات المبكرة من قبل إدارة ترامب لم تؤد فقط إلى تفاقم الوضع الصحي، بل رسمت أيضاً صورة سلبية عن الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم.

ومع فوز الرئيس جو بايدن بالرئاسة، بدأت الحكومة في التعامل مع الوباء بجدية أكبر ليس فقط على الصعيد المحلي، لكن باعتباره تحدياً متعدد الأبعاد للأمن العالمي، إذ تبنت استراتيجية قائمة على إعادة الثقة مع الشعب الأمريكي من خلال توسيع نطاق الاختبار وتسريع توزيع اللقاح وتعزيز الإغاثة في حالات الطوارئ وغيرها. كما تضمنت الاستراتيجية استعادة الولايات المتحدة القيادة العالمية في مكافحة الوباء من خلال البقاء في منظمة الصحة العالمية والضغط من أجل الإصلاحات، والانضمام إلى مبادرة COVAX.

على جانب آخر، يرى المؤلفان أن تدابير الطوارئ الصحية في حد ذاتها لا تقوض المبادئ الديمقراطية، مع ذلك فقد استغل القادة السلطويون الأزمة لتوطيد حكمهم. فعلى سبيل المثال، استخدمت بوروندي متطلبات الحجر الصحي لتبرير منع دخول مراقبي الانتخابات الإقليميين، أما بولندا فمنعت الحملات الدعائية للمعارضة بحجة حظر التجمع، فيما أجل الرئيس الإثيوبي الانتخابات إلى أجل غير مسمى. وفي سياق متصل، عززت أدوات التقنية التي تم ابتكارها لاحتواء الجائحة من رقابة الدول على المواطنين، فاستخدمت بعض الدول الجائحة كذريعة للوصول إلى البيانات الشخصية وانتهاك خصوصية المواطنين.

اللقاحات والنظام العالمي:

كان هناك أمل في العالم منذ بداية أزمة كورونا بأن اللقاحات ستنهي الوباء، حيث بدأت الدول كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا والصين وغيرها في صناعة اللقاحات. مع ذلك تبادلت الدول المصنعة الاتهامات بتسييس اللقاحات لخدمة نفوذها أو نشر معلومات مضللة عن عدم جدوى اللقاحات المنافسة. تلك الخلافات تؤثر سلباً على التعاون متعدد الأطراف اللازم لتطوير اللقاحات ونشرها بشكل عادل. 

تظهر هذه الخلافات أن النظام العالمي القائم قبل أزمة كورونا كان هشاً، ثم جاءت الجائحة لتظهر أكثر هذه الهشاشة، لاسيما في ظل انقضاء عصر تفوق الولايات المتحدة بلا منازع، مما يتطلب منها جهداً لتنشيط "العالم الحر"، من خلال مواجهة التحديات الجماعية بالعمل مع حلفائها الديمقراطيين في أوروبا وآسيا.

لذلك، طرح المؤلفان مقترحات للسياسة الخارجية الأمريكية في حقبة ما بعد كورونا منها، السعي إلى بناء إجماع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الداخل حول التهديدات، ومعالجة أوجه القصور في منظمة الصحة العالمية التي كشفت عنها أزمة كورونا بدلاً من ترك المنظمة لأجندات الدول المنافسة، مع ضرورة رفع مستوى التعاون العالمي في مجال الصحة العامة.

أيضاً، اقترح الكتاب التوسع في تقديم المساعدة الإنسانية والإنمائية لدعم الحلفاء وإعادة الالتزام بالمشاركة الدولية، مع العمل على إنشاء تحالفات دولية جديدة من الدول ذات التفكير المماثل لتكملة عمل منظمة الصحة العالمية، كتدشين آلية دولية لتمويل الأمن الصحي، وبرامج لتخفيف أعباء الديون العالمية.

يختتم المؤلفان بأن جائحة كورونا لن تكون آخر عدوى عالمية تظهر في العالم، ولن تكون آخر صدمة كبيرة مع تزايد تغير المناخ والمخاطر العابرة للحدود الوطنية. وعلى الدول الديمقراطية إما معالجة هذه التهديدات العالمية المشتركة بالتنسيق والتعاون والضغط على الدول الأخرى لتحذو حذوها، أو ستُكرر الخطأ بأن يتبنى كلٌ منها طريقاً منفصلاً، ومن ثم العجز عن مواجهة الكوارث. وأخيراً، بالرغم من أن أزمة كورونا كانت كاشفة لأوجه القصور في التعاون الدولي، فإنها فتحت المجال لإعادة الحسابات والاستعداد للتحديات الأكثر خطورة في المستقبل.

المصدر:

Colin Kahl, Thomas Wright. Aftershocks: Pandemic Politics and the End of the Old International Order, New York: St. Martin's Press, 2021.