كيف يولد العقل المتسامح في المجتمعات؟

09 January 2022


للوهلة الأولى، يمكن النظر إلى مسألة التسامح على أنها تخص القلب، وهو محلها وموطنها، قبل العقل، أو بمعنى أدق تبدو موصولة بالمشاعر قبل أن تكون بنت الأفكار، وتدل على ذلك كثير من الإسهامات المعرفية التي تتناولها، وحديث الناس الشفاهي عنها، فتجعل من المتسامح رجلاً "طيب القلب" أو "نقي السريرة" و"واسع الصدر" قبل أن يكون متفتح العقل، وواعي بالمصلحة العامة، أو الخير المشترك، ومُدرك أيضاً لمصلحته الذاتية البحتة.

ومن دون شك، فإن حضور المشاعر في هذا المجال هو أمر حسن، لأنها تمثل طاقة إيجابية، تعطي التصرف المتسامح عمقاً إنسانياً مهماً، طالما يمنحه الوجدان لأي فعل بشري، لكن الاقتصار عليها يبدو عملاً محفوفاً بالمخاطر، فالمشاعر قد تتقلب بين عشية وضحاها، فتقفز سريعاً بين خمود وإثارة، وسخط ورضا، ومودة وكراهية، وإقبال وإدبار، وهذه حالة يمكن أن تمتد من الفرد إلى الجماعة، أو من الواحد إلى الجميع.

أهمية العقل المتسامح: 

من هنا، فإن اقتناع العقل بمسألة التسامح، وإدراكه أهميتها، هو أكثر رسوخاً واستقراراً. وقد يكون من اقتنعوا قد قادتهم المصلحة الذاتية أو العامة، بحيث فهموا أن المتسامح يكف عن نفسه عناء الشعور النفسي بالمقت أو الكراهية، ثم يجني ثمار الإحساس بالمودة حيال الآخرين، على أساس أن الصحة النفسية تاج أيضاً على رؤوس الأصحاء، شأنها شأن الصحة البدنية.

لكن الأمر يتعدى مجرد هذا الحصاد الفردي، ويمتد إلى فهم المتسامح أن عيشه في مجتمع يتمتع بهذه القيمة الإنسانية العظيمة يقلل الشرور التي تصنعها أحقاد ناجمة عن الصراعات التي تندلع على خلفيات عقائدية ومذهبية وعرقية وطبقية وغيرها، والتي لا تلبث أن تنتشر وتتوغل حتى يتطاير شررها إليه، فيجد نفسه، ولو بعد حين، في مواجهتها. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: كيف يولد أو يوجد العقل المتسامح؟

تعلم التسامح:

لا يمكن هنا أن نستبعد أو نقلل من الدور الذي تلعبه التربية الأولية في الأسرة ثم المدرسة في تعليم الفرد كيف يتقبل الرأي الآخر، بعد أن يتفهمه، ويدرك معانيه ومراميه، ويؤمن أن صاحبه له حق وحرية التعبير عنه، مثلما هي قائمة لمن ينظر إليه أو يسمعه، دون تمييز في هذا على أي أساس.

وبالطبع فإن للتعليم دوراً مهماً على هذا الدرب، لاسيما إن كان القائمون عليه من واضعي المناهج والمعلمين مدركين أن قاعدة "تَعلَّم لتتعايش" يجب أن تكون حاضرة، في المساقات الدراسية والتنظيم الإداري للمؤسسات التعليمية، والأساليب المتبعة في التدريس، شأنها شأن "تَعلَّم لتعمل".

كما أن الإعلام بأنواعه، المقروء والمسموع والمرئي والإلكتروني، ومنظومة القوانين التي تهندس حياة المجتمع، والهياكل الإدارية، والمجتمعات القرابية، ومؤسسات المجتمع المدني، وأماكن التجمعات في الأندية والمقاهي وغيرها؛ يسهم كل منها بدور في هذا المسار، وإن اختلفت الأنصبة أو الحظوظ أو الفرص أو الأقدار البشرية المتصورة. 

ولأن تحصيل العقل المتسامح هو من الصناعات الثقيلة، فأتصور أن خير معلم للتسامح هو التجارب الحياتية المريرة. فالبلدان التي مرت بصراعات طويلة، بين طوائف دينية، أو قوميات عرقية، أو بين مزيج من هذا وذاك، يتبين للمتصارعين بعد أن سالت الدماء أنهاراً، وخربت البيوت، في ظل فوضى عارمة، أن أياً منهم ليس بوسعه إزاحة الآخر تماماً من الحياة، أو إجباره على الرحيل من الأرض، ولذا لا بديل عن تقبل العيش المشترك، الذي يمكن أن يبدأ أولاً، وعقب الصراعات مباشرة، بتجنب الآخر، حتى لا يتم الاحتكاك به مجدداً، ثم ينتقل الأمر إلى تقبل وجوده، وبعدها تفهم مصالحه، ومطالعة أفكاره وما يعتقد فيه، وشيئاً فشيئاً سيجد الكل أن بينهم مشتركات ليست بالقليلة.

لا يعني هذا بالطبع أن تزول آثار الصراع تماماً، حيث يظل العقل مُشبعاً بذكريات وحكايات عن الموت والدمار، وما هو موجود على الأجساد من ندوب وجروح قديمة، وعلى البنيان من علامة للتخريب. لكن هذا المتروك من الماضي، يمكن أن يتحول من مشكلة إلى فرصة، حين يُذكِّر الكل بأن غياب التسامح هو الذي صنع كل هذه القبح والبشاعة، التي ضربت حياتهم على هذا النحو القاسي.

ومن المتوقع، والطبيعي أيضاً، ألا ينصت الكل إلى النصيحة هنا، ويعملون بها، لكن عدد المقتنعين بها يزداد، ويمكن أن يترتب عليها نوع من التسويات أو القبول الطوعي للاختلاف والخلاف، بحيث تظل بعض البواعث الشريرة كامنة في النفوس، لكن هناك حرصاً على أن تظل في كمونها، ولا تنفجر في وجه المجتمع احتراباً أهلياً.

وقد لا تكون آثار الدمار والدم ماثلة لعيون الماضين على قيد الحياة، وتصل إليهم عبر أجيال سبقتهم، لكن هؤلاء الناقلين، أو أغلبهم، يكونون قد تعلموا الدرس جيداً، ويحرصون على تعليمه للاحقين حتى لا يجدوا أنفسهم مرة أخرى في وجه النتائج المروعة التي تترتب على تعميق وانتشار اللاتسامح أو التعصب.

في وسط هذه العوامل والدوافع والبواعث والأسباب والظروف، يُولد العقل المتسامح، وهو نوع من العقول، تظل الحياة في حاجة ماسة إليه، بالرغم مما يُقال عن أن التسامح يعني أن طرفاً يضع نفسه فوق طرف ثم يسامحه، فيجعل من وضعه وأفكاره وقيمه هو معيار حكم على "الآخر". 

ففي الحقيقة، لا يمكننا أن ننزع أبداً الميل البشري الطبيعي إلى تعظيم الذات أو على الأقل الانحياز لما ينفعها، فهذا شيء مجبولة عليه النفوس، ومركوز فيها، لكن يمكن، وبالتتابع، أن يتعلم العقل الإنساني كيف يؤمن بالتعدد داخل المجتمع الواحد، بل داخل الجماعة الواحدة، رئيسية كانت أو ثانوية، ويعتقد برسوخ في أهمية الانفتاح على الآخر، وكيف أن في هذا خيراً عميماً. فبهذا العقل، يمكن كبح الكثير من النوازع النفسية غير السوية، التي تدفع إلى الاعتداء على وجود الآخرين، وحقوقهم.

سمات خمس:

لهذا العقل المتسامح سمات أو خصائص تُستخلص، ليس فقط من الأدبيات التي تحدثت عن قضية "التسامح"، إنماً أيضاً من تجارب الأفراد والأمم معه على أرض الواقع، يمكن أن تكون على النحو التالي:

1- عقل متفتح: لا ينغلق على فهم، ثم يثق وهماً في أنه الحقيقة الدامغة النهائية، إنما يستجيب لكل نداء يدله عليها، باحثاً عنها، عند الآخرين، من دون أن يفتئت على ما لديهم، بل يحترمه، ويحترم حقهم في البحث عن الحقيقة، وكل جهد يبذلونه في سبيل الاقتراب منها. 

2- عقل يؤمن بالتعدد: فلا تسامح من دون فهم للاختلاف، وإدراك لطبيعته، وكونه سُنة حياتية، بلا مراء، ولا مجاملة، ولا التواء. وهذا النوع من الإدراك يمنح صاحبه قدرة على التعامل مع غيره، باعتباره مكملاً له، وليس متصارعاً معه. 

3- عقل هادئ: ينظر إلى ما يُطرح أمامه من آراء، وما يُبدى من تصرفات، في هدوء ورويّة. إنه "العقل البارد"، كما يُطلق عليه مجازاً، حيث يعطي صاحبه فرصة للإنصات إلى الآخرين، والصبر عليهم، والتماس الأعذار لهم، وحمل آرائهم على الوجه الحسن.

4- عقل يفهم المصلحة: إذ لا يضع الخاصة منها في وجه العامة، إنما يرى الأولى جزءاً من الثانية، أو نابعة منها، ومتوافقة معها. وهذا الموقف يخفف حدة الصراع مع الآخرين، ويقلل من التعصب، ويدفع إلى المشاركة في صنع "النفع العام"، بما يوفر الجانب المادي المطلوب المُفضي إلى التسامح.

5- عقل مرن: فهو لديه قدرة على الانتقال من بديل إلى آخر، تاركاً المعطوب إلى السليم، والخاسر إلى الناجح، مُدركاً أن أي مسار عفّي للحياة لا يمكن أن تنعدم فيه أمام الفرد الخيارات، وأمام الجماعة البدائل. 

ختاماً، إن هذه السمات الخمس لا تُكتسب في يسر، ولا تتأتى دون جهد؛ إنما تكون حصيلة سنوات طويلة من الفهم والإدراك وتراكم التجارب، وتوالي الملمات، التي يتعلم منها الإنسان أن التسامح ضرورة، له ولمجتمعه، وبالتتابع يصل إلى ذهنه أيضاً، ويرسخ فيه، تصور يمنعه من النظر إلى أحد من علٍ، إنما يمد يده إليه ليساعده، كي يسيران سوياً، كتفاً بكتف، وفهماً بفهم، حتى يحققوا لنفسيهما الرضا، وللمجتمع السكينة.