توظيف "المجاز" في سياسات الشرق الأوسط

27 November 2021


لا تخلو سياسة من مجاز، في أي زمان أو مكان، لكن هذا يتفاوت من حالة إلى أخرى، يتم خلالها توظيف الاستعارات والمبالغات وتبادل الصور الذهنية النمطية وصولاً إلى ممارسة ألوان من الصمت أو الصوم السياسي. ومنطقة الشرق الأوسط ليست استثناءً من هذا، بل إن الحاجة إلى المجاز فيها تبدو أكثر إلحاحاً، لعوامل راسية وأخرى جارية، تتضافر جميعها في سبيل تفكير وتدبير سياسي يميل إلى إعطاء المجاز وزناً كبيراً، وهي مسألة لا تخطئها أذن سامع، ولا عين قارئ.

فاللغة تشكل جزءاً مهماً من الإطار الذي يحكم السياسات ويفسرها، وهذا أمر متبع في سياق علاقة السياسة بالكلام عموماً والدور السياسي للغة وكونها إحدى ركائز القوة الناعمة. لكن هذا الأمر يزيد مع اللغة العربية، التي تتجاوز إمكانياتها الثرية مجرد إمداد السياسي بقدرة على التعبير عما ينتهجه من مواقف وسياسات، لتصل إلى حد إعطائه أدوات للفهم والتحليل والتقدير، خاصة مع غزارة الإحالات البلاغية فيها إلى المقولات الجاهزة من الحكم والأمثلة وقصائد الشعر وآيات القرآن والأحاديث النبوية، والحرص في الوقت نفسه على ترصيع الخطاب والخطبة السياسية بتشبيهات وكنايات وألفاظ ذات جرس وإيقاع قوي، وهناك من يعتقد، أو يتوهم، أن هذا في حد ذاته كاف لشرح الموقف السياسي، خاصة الموجه إلى الداخل. 

الخطاب السياسي في المنطقة:

لدى السياسيين في الشرق الأوسط، رسميين كانوا أم غير رسميين، يأتي الماضي إلى الحاضر بقوة، فالتجارب والممارسات السياسية تجد نفسها غالباً مضطرة إلى هذا، ليس فقط بفعل حمولات أو نسق ثقافي يحكم الذهن، وتجري تصوراته على اللسان، بل استجابة إلى طلب الرأي العام نفسه على هذا، نظراً لأن الدين والثقافة التقليدية يؤثران تأثيراً بالغاً في تقييم الناس للخطاب السياسي، وأفعال من بأيديهم القرار، وفي اعتزاز الناس بماضي العرب والمسلمين، حين كانت دولتهم تتسيد العالم في العصر الوسيط.

فإذا راجعنا الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة في تركيا أو إيران وكثير من النخب العربية، سنجد أن هذا أمر ظاهر، ولا سبيل إلى نكرانه. إذ إن أي تحليل مضمون كمي أو كيفي للتصريحات والحوارات والخطب والكلمات والأحاديث والبيانات أو المنشورات السياسية، سيشير إلى ذلك بوضوح وجلاء. وفي التصورات الدينية والقبائلية والعشائرية، تكون اللغة المجازية، التي تلفت الانتباه لذاتها، حاضرة بشدة في عالم السياسة، حيث يطغى البيان والعرفان عليها أكثر من البرهان. وبينما تجد الحكومات الديمقراطية نفسها في حاجة ماسة إلى توظيف الأخير، لأنها معنية بإقناع رأي عام واسترضائه، في ظل الشفافية والمساءلة ووجود حرية التعبير والنقد السياسي؛ فإن نظم الحكم المغايرة لا تجد نفسها مضطرة إلى ذلك في كل الأحوال، وبذا تميل أكثر إلى البيان. 

وما يزيد من ميل المسؤولين في المنطقة إلى البيان أو البلاغة، أنهم في حاجة إلى الرد على جماعات سياسية دينية توظفها بإفراط، وتستعملها في المواجهة الجارحة، وتبرير العنف، واستمالة الرأي العام، وتثبيت الأتباع على أيديولوجياتها المتطرفة، خاصة مع إحالتها الدائمة إلى نصوص دينية مشبعة بالبلاغة، أو إلى أقوال الأقدمين التي تحتفي أيضاً بالمجاز.

استخدام المجاز في الصراعات:

مع الصراعات المحلية والإقليمية التي يعج بها الشرق الأوسط، تكون للمجاز وظيفته المهمة عند المتصارعين، حيث يُستعمل، في الحروب، دولية كانت أو أهلية، من أجل شحذ همم المتقاتلين وشحنهم، وفي تعبئة الجمهور حول أهداف المتحاربين، وفي التعبير عن سير المعارك بطريقة يبالغ فيها كل طرف بما يفعله جنوده أو أنصاره، ويحط فيها من شأن أعدائه، وكذلك في التعمية على الحقائق، خاصة بالنسبة للمهزوم أو من ينهزم تدريجياً، أو من لا يرجو نصراً أو حسماً في نهاية المطاف.

وما يزيد الطين بلة أن هناك تنظيمات دينية ضالعة في الحروب الأهلية، كما نرى في الحالتين السورية والليبية، وفي صراع مسلح ضار يشهده العراق، ينحو كثيراً نحو المذهبية. كما أن ميليشيا الحوثيين في اليمن تلجأ إلى المجاز كثيراً في خطابها السياسي والحربي على حد سواء، سواء في المدح أو القدح.

ويأتي التهاب الأوضاع السياسية في كثير من الدول العربية بفعل التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات، ليلعب دوراً كبيراً على هذا الدرب، فالمتظاهرون يرفعون شعارات، ويطلقون هتافات، يغلب عليها المجاز، وهذا جزء من طبيعة ذلك السلوك السياسي في كل زمان ومكان. وقد رأينا هذا في كل الحالات تقريباً، بدءاً بتونس وانتهاءً بالسودان ومروراً بسوريا واليمن والعراق والجزائر ولبنان.

توظيف الحكومات والمعارضة:

حتى حال هدوء الأوضاع، باللجوء إلى الانتخابات، كآلية لحسم الصراع السياسي، فإن التنافس السياسي خلالها يحتاج أيضاً، وبشدة، إلى المجازات، سواء في اللافتات المرفوعة، أو البيانات المبثوثة، أو التصريحات المدلى بها، وحتى في الوعود التي تُقدم إلى الناخبين، وفي سبيل التلاعب بالرأي العام ومخاتلته، أو حتى استمالته ولو مؤقتاً.

وهناك عامل يرتبط باستعانة كثير من السلطات بالمجاز في إخفاء الحقائق، لأسباب أو ذرائع عديدة، على رأسها قضية "الأمن القومي" وعدم تهيؤ الشعوب للحداثة السياسية، وضرورة إعطاء التفكير والجهد لمسألة التنمية الاقتصادية كأولوية ملحة، لمواجهة التخلف المادي الحاد. وهذا الوضع يتطلب بالقطع توافر أطمار من المجازات التي تساعد في تخبئة الحقيقة، أو الضن بها على عموم الناس، ممن يسألون عما تنتجه السلطة من أعمال.

وعلى الوجه الآخر، فإن أغلب المعارضين السياسيين في كثير من دول الشرق الأوسط يجدون أنفسهم بحاجة إلى المجاز لتبرير عجزهم عن مواجهة السلطة، أو تخاذلهم في تقديم البرامج الناجعة، وليساعدهم المجاز أيضاً في ممارسة نوع من "التفكير بالتمني". فالأخير يبدو سلوكاً متكرراً عند كثير من هؤلاء المعارضين، لاتساع الفجوة بين الرغبة والقدرة، أو التماهي في أحيان كثيرة مع خطاب السلطة الحاكمة وفعلها، باعتبار أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان. ويضع هذا زعماء المعارضة في موقف لا يستطيعون من خلاله تقديم الحقيقة إلى أعضاء أحزابهم، أو إلى قطاعات من الرأي العام، كانت تصدقهم، أو لا تزال، فيلجأون إلى اللغة المجازية لعلها تسعفهم في تمرير هذا الموقف الصعب.

تبرير التدخلات الخارجية:

هناك أيضاً ما يترتب على التدخلات الخارجية، التي لا تكف عن القيام بالمجاز في منطقة الشرق الأوسط، لأسباب عديدة. فهذا التدخل يجعل كثيراً من الجماعات والتنظيمات، بل وأنظمة حاكمة، في موضع المتحدي لهذا الخارج المُقتحم، والذي يسعى لتحقيق مصالحه بأي شكل، سواء بالخداع أو العنف. ونظراً لعجز كل هذه الأطراف عن مواجهة قوية حاسمة، فإنها تردم الهوة بين ما عليها أن تفعله حقاً، وما تقدر على فعله واقعاً، بأشكال من المجازات، التي يتم عبرها المبالغة فيما لدى الذات من مُكنة مادية ومعنوية.

كما أن الخارج نفسه يستعمل مجازات في التغلغل ومواجهة الخصوم الداخليين الرافضين له أو المعترضين عليه، ويكفي أن نستعرض عبارات من قبيل "التدخل الحميد" و"الحرية للعراق" و"الفوضى الخلاقة" و"عاصفة الصحراء".. إلخ، لنرى كيف وظفت الولايات المتحدة الأمريكية المجاز في تنفيذ سياساتها في الشرق الأوسط. 

في الختام، ومع كل هذا لا يمكن القول إن المجاز حاضر في سياسات الشرق الأوسط فقط، ففي كتابي الأخيرة "المجاز السياسي"، الذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة مؤخراً، سقت أمثلة كثيرة على هذا الحضور في كل السياسات، شرقية وغربية، بل في سائر أنحاء العالم، وفي السياقات والأحوال العامة كافة، لكن ربما يكون من السائغ أن نقول إن الأمر زائد في حال الشرق الأوسط، للأسباب التي سقتها سابقاً، وربما لأسباب أخرى، يمكن أن تتكشف لدينا تباعاً، كلما تتبعنا حالة الهروب من الحقائق، التي صارت سمة أصيلة في الممارسات والأداءات والخطابات السياسية في دول المنطقة بوجه عام.