"اليانصيب الجيني":

هل يؤثر الحمض النووي على العدالة الاجتماعية؟

17 November 2021


عرض: هند سمير

شهدت السنوات الأخيرة ظهور أهمية التركيبة الجينية والعوامل الوراثية في تحديد كل ما يتعلّق بحياة الإنسان، من الناحية الصحية والاجتماعية والعلمية والنفسية، حيث أثبت العديد من العلماء أن الحمض النووي الخاص بالأفراد تنتج عنه اختلافات في السمات الشخصية، والحالة الصحية الجسدية والنفسية، فقد تؤدي الجينات الوراثية إلى إصابة البعض بأمراض مثل، التوحد، أو تؤدي إلى اختلافات في الطول ولون البشرة.  

لكن السؤال الصعب، هل يمكن أن تؤدي الجينات المختلفة إلى اختلاف مقدار ما يستطيع المرء الحصول عليه في المجتمع من حقوق اجتماعية واقتصادية؟. هنا تكمن أهمية كتاب كاثرين بيج هاردن، الذي حمل عنوان: "اليانصيب الجيني: لماذا الحمض النووي مهم في المساواة الاجتماعية". إذ تقدم هاردن للقراء أحدث العلوم الوراثية، عبر مناقشة فكرة رئيسية، وهي أن جينات الفرد قد تؤثر على نتائج حياته كافة بصفة عامة"، ومن ثمَّ، تحاول الإجابة على تساؤل أساسي، وهو: ماذا يعني علم القدرات البشرية وعلم الوراثة السلوكي للمساواة الاجتماعية؟.

تسعى الكاتبة إلى إقناع القارئ بأهمية الجينات من خلال تفنيد الآراء الرافضة لذلك، كما تطرح ما يجب فعله بعد معرفة أن الجينات مهمة لفهم عدم المساواة الاجتماعية. ومن خلال الربط بين القصص الشخصية والأدلة العلمية، توضح هاردن أن السبب وراء رفض البعض الاعتراف بقوة الحمض النووي هو استمرار "أسطورة الجدارة"، وكيف أدى الاتجاه السائد لتجاهل وجود الاختلافات الجينية بين الناس إلى إعاقة التقدم العلمي في علم النفس والتعليم وفروع العلوم الاجتماعية الأخرى. 

في المقابل، تطرح الكاتبة فكرة مفادها أنه يجب علينا الاعتراف بدور "الحظ الجيني"، إذا أردنا إنشاء مجتمع عادل. كما تحاول استعادة علم الوراثة من إرث علم تحسين النسل عبر التخلص من الصيغة القائلة بأن الاختلافات الجينية تشكل أساس التسلسل الهرمي للبشر ما بين متفوقين بالفطرة ومتأخرين بالفطرة، إذ تقدم رؤية جديدة جريئة للمجتمع، حيث يزدهر الجميع، بغض النظر عن مدى نصيب الفرد من الحظ الجيني.

اليانصيب الجيني: 

في بداية الكتاب، تشرح هاردن المصطلح المجازي "اليانصيب الجيني" بمزيد من التفصيل، بالإضافة إلى عدد من المفاهيم البيولوجية والإحصائية مثل: إعادة التركيب الجيني، والوراثة متعددة الجينات، والتوزيع الطبيعي. ثم تركز على الاختلافات الجينية بين الأشخاص التي تحدث بسبب الصدفة – على حد وصفها – أي من خلال التسلسل الطبيعي لوراثة الجينات، (وليس تلك القائمة على الاختيار مثل، تحديد الجينات المطلوبة قبل التلقيح المجهري وغيرها من تقنيات الإنجاب الحديثة الأخرى). ثم تنتقل إلى شرح أبرز الطرق الشائعة لاختبار كيفية "ارتباط الاختلافات الجينية بين الأشخاص بالاختلافات في نتائج حياتهم"، وعلى رأسها دراسات الارتباط على مستوى الجينوم GWAS ودراسة المؤشرات متعددة الجينات.

تصف الكاتبة أيضاً ما الذي يقصده علماء الوراثة بـ"الأصل أو النسب"، ولماذا يعد من الخطأ الخلط بين فكرتي النسب والعرق، فالأصل الجيني هو مفهوم قائم على عمليات تربط الناس بتاريخهم الشخصي من الأنساب، في حين أن العرق هو مفهوم نمطي يربط الناس بمجموعات مبنية اجتماعياً من أجل الحفاظ على علاقات القوة الهرمية. ثم تنتقل إلى وصف كيف تم إجراء أبحاث الجينات من قبل علماء في الغالب من ذوي البشرة البيضاء باستخدام مشاركين في البحث غالبيتهم من ذوي البشرة البيضاء أيضاً - وهو الوضع الذي يخلق ظروفاً خاطئة لإجراء مقارنات بين المجموعات العرقية ويخاطر بتفاقم عدم المساواة بين المجموعات العرقية. كما تتناول أيضاً الخطأ في افتراض أن البحث عن الأسباب الجينية للاختلافات الفردية داخل مجموعة سكانية يعطينا معلومات عن أسباب الاختلافات بين المجموعات، وهي مغالطة إحصائية تدعمها الافتراضات العنصرية حول تفوق البيض.

تحاول الكاتبة إثبات أن الجينات لها تأثير سببي على نتائج حياة الفرد وليست علاقة ارتباط فقط، حيث تسمح إحدى التقنيات الجديدة للباحثين بمقارنة الأشقاء - ليس فقط التوائم، ولكن جميع الأشقاء – وذلك بالرجوع إلى السحب الجيني العشوائي الذي يتلقاه كل منهم من والديهم. وقد وجد أن بعض الأشقاء المتشابهين وراثياً أكثر من غيرهم - وفقاً لما ظهر لديهم من التقاطهم المزيد من المصدر الأبوي نفسه أثناء سحب الحمض النووي العشوائي الخاص بهم - قد حققوا نتائج حياتية أكثر تشابهاً مقارنةً ببقية الأشقاء. 

ومن ثمَّ إذا كان الأشقاء الأكثر تشابهاً وراثياً يميلون أيضاً إلى الحصول على نتائج حياتية أكثر تشابهاً، ومن ثم فيمكن الجزم بأن العلاقة هي علاقة سببية - وليست مجرد ارتباط - لأن أوجه ودرجة التشابه الجينية تنشأ من عملية عشوائية، وهو ما يمكن اعتباره تجربة مشابهة لأي تجربة علمية تعتمد على سحب عينة عشوائية، ولكن الطبيعة هي التي تقوم بالتوزيع العشوائي في هذه الحالة. 

بشكل عام، يوضح هذا البحث أن الاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون في دراسات التوائم المبكرة كانت صحيحة. مع ذلك، فإن استخدام أساليب بحث علمية مختلفة تؤدي إلى تقديرات مختلفة إلى حدٍ ما لتأثير الجينات. ومن بين هذه النتائج، أن تقديرات تأثير التوريث الجيني على التحصيل التعليمي، على سبيل المثال، تتراوح بين 20 و40% تقريباً، باختلاف أسلوب البحث المستخدم.

لكن خلاصة القول إن الجينات تؤثر بالفعل على مجموعة واسعة من النتائج المهمة الخاصة بالفرد. وتقترح إحدى الطرق التحليلية، على سبيل المثال، أن الجينات المرتبطة بالتحصيل التعليمي تتنبأ بمستوى دخل الفرد البالغ، وكذلك مستوى دخل الوالدين. والشخص الذي حصل على درجة عالية في هذا المقياس الجيني يكون مرشح للتخرج من الكلية أكثر من أي شخص حصل على درجة منخفضة على هذا المقياس. 

عدم المساواة الاجتماعية:

تناقش الكاتبة أيضاً ما يجب فعله بعد معرفة أن الجينات مهمة لفهم عدم المساواة الاجتماعية، بمجرد أن نتخلص من صيغة تحسين النسل السابق الإشارة إليها. وتؤكد أن التشاؤم الوراثي حول احتمالية التغيير الاجتماعي من خلال السياسة الاجتماعية قد ميز مفكري تحسين النسل لأكثر من قرن. 

وينشأ هذا التشاؤم من الحتمية الجينية المعيبة، التي تتخيل أن خصائص الناس - إدراكهم، وشخصياتهم، وسلوكهم - ثابتة بواسطة الحمض النووي. لكن الحتمية الجينية ليست الزيف الوحيد الذي يجب عدم التسليم به، حيث ينشأ التشاؤم الوراثي بشأن احتمالية التغيير الاجتماعي باستخدام السياسة الاجتماعية أيضاً من الحتمية الاقتصادية المعيبة، والتي تتخيل أن الأشخاص الذين لا ينجحون في التعليم يجب أن يكونوا مستعدين للوظائف السيئة والأجور المنخفضة والرعاية الصحية السيئة (أو كل ذلك).

تتناول الكاتبة كيف أن فهم الاختلافات الجينية بين الناس يمكن أن يُحسِّن من جهود تغيير العالم من خلال السياسات والتدخلات الاجتماعية. كما تركز على السبب وراء تحفيز الناس لرفض المعلومات المتعلقة بالأسباب الجينية للسلوك البشري، وكيف أن اعتبار الجينات مصدراً للحظ في حياة الناس قد يقلل في الواقع من اللوم الملقى على رؤوس الأشخاص الذين كانوا "غير ناجحين" تعليمياً واقتصادياً. 

ثم تنتقل إلى شرح أسباب صعوبة فصل التأثيرات الجينية على درجات اختبار الذكاء والنتائج التعليمية، على وجه الخصوص، عن مفاهيم الدونية والتفوق البشري. ومقارنة كيف يتم النظر إلى الأبحاث الجينية حول هذه الجوانب من علم النفس البشري مع كيفية النظر إلى الأبحاث الجينية حول سمات أخرى مثل الصمم أو التوحد. 

أخيراً، تصف الكاتبة خمسة مبادئ لمناهضة سياسة تحسين النسل، وهي: أولاً، التوقف عن إضاعة الوقت والمال والمواهب والأدوات التي يمكن استخدامها لتحسين حياة الناس، وثانياً استخدام المعلومات الجينية لتحسين الفرص، وليس تصنيف الناس، وثالثاً، استخدام المعلومات الجينية للإنصاف وليس الإقصاء. ورابعاً، ليس من الضروري أن تكون محظوظاً لتكون جيداً؛ أي أن التسليم بالتأثير العشوائي (الحظ) على نتائج الحياة يقوِّض منطق الجدارة القائل بأن الناس يستحقون نجاحاتهم وإخفاقاتهم على أساس النجاح في التعليم، وخامساً، ضع في اعتبارك ما كنت ستفعله إذا لم تكن تعرف من ستكون؛ والمقصود هو أنه طالما أن الإنسان لا يعرف من سيكون، عليه أن يُحدِّث البنية الأساسية للمجتمع لتكون في صالح الإنسان الشخصية، أو بمعنى آخر يجب إعادة هيكلة المجتمع للعمل لصالح الأشخاص الأقل حظاً في اليانصيب الجيني.

في النهاية، خلصت الكاتبة إلى أن الأسباب الجينية يمكن أن تكون لها آليات اجتماعية، فالسياسات المتبعة يمكن أن تضيق أو توسع التفاوتات الجينية. كما أن التأثير الجيني لا يفرض حداً صارماً أمام إمكانية التغيير الاجتماعي.

المصدر:

Kathryn Paige Harden, THE G ENETIC LOTTERY: Why DNA Matters for Social Equality, PRINCETON UNIVERSITY PRESS, PRINCETON AND OXFORD, 2021.