الأفكار قبل الهوية:

الاستراتيجيات الثلاث المضادة للاستقطاب السياسي على تويتر

30 October 2021


عرض: رشا رفعت

تساهم منصات التواصل الاجتماعي في زيادة الاستقطاب السياسي داخل المجتمعات والدول، لاسيما أنها ترسخ البحث عن المعلومات التي تتفق مع وجهة نظرنا من خلال الخوارزميات التي تقترح علينا المزيد من هذا المحتوى، وبهذا، تقدم لنا نسخاً مختلفة من أنفسنا، مما قد يخلق نوعاً من أحادية وجهة النظر، وتجنب التعرف على الآراء المعارضة.

في محاولة، لفهم ذلك الاستقطاب ومواجهته، طرح كريس بيل كتاباً حمل عنوان "تحطيم موشور وسائل التواصل الاجتماعي.. كيف نجعل المنصات الاجتماعية أقل استقطاباً؟"، والمقصود هنا بالموشور أو المنشور في علم البصريات أنه وسط شفاف مثل الزجاج، محدود بوجهين مستويين يتقاطعان حسب مستقيم يسمى حرف الموشور، ويتحلل الضوء الأبيض إلى ألوان مختلفة أثناء مروره داخل الموشور؛ نتيجة اختلاف سرعة الضوء في مادة المنشور عن سرعته في الهواء، وقد يعمل على تغيير الصورة الأصلية.

 وأجرى بيل وزملاؤه ثلاث دراسات ميدانية متعمقة لمعرفة دور غرف الصدى في عملية الاستقطاب السياسي، مطبقاً ذلك على مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واستمرت الدراسة بين عامي 2018 و2020.

 وكانت الدراسة الأولى "كمية"، حيث تم إجراؤها على 1220 من الديمقراطيين والجمهوريين باستخدام "بوت الإنترنت" Internet Bot على موقع "تويتر"، وهو برنامج آلي يقوم بعمل مهام تلقائية على الإنترنت، ومن أكثر استخداماته فهرسة صفحات الإنترنت، حيث يقوم البرنامج بالحصول على المعلومات وتحليلها من خوادم الويب تلقائياً بسرعة أعلى من سرعة الحاسوب.

أما الدراسة الثانية، فهي نوعية، حيث تم إجراء 155 مقابلة متعمقة مع مجموعة جديدة من الجمهوريين والديمقراطيين قبل وبعد متابعتهم نفس "بوت تويتر"، الذي تم عرضه في الدراسة الأولى. بينما تضمنت الدراسة الثالثة إنشاء منصة محاكاة لمنصات التواصل الاجتماعي، حيث تم اختيار 7074 من الديمقراطيين والجمهوريين لاستكمال استبيان خاص بآرائهم السياسية، ثم تمت دعوة 2507 من بينهم للتفاعل مع الطرف الآخر على هذه المنصة من دون أن يعرف كل طرف هوية الآخر، وهنا ظهرت نتائج قد تكون مفاجئة.

غرف الصدى والاستقطاب:

ظهر مصطلح "غرف الصدى" قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، حيث قدَّمه الباحث السياسي "في أو كي" في الستينيات من القرن الماضي لوصف كيف يساهم تكرار التعرض لمصدر إعلامي واحد في توجيه الناخبين في عملية التصويت. ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، زادت المخاوف بشأن غرف الصدى، حيث حذَّرت العديد من الدراسات من أن المواقع والمدونات الحزبية ستجعل متابعيها تتجنب التعرف على الآراء المعارضة بشكلٍ أكبر من وسائل الإعلام التقليدية. 

وأوضحت الدراسات أن جوجل وفيس بوك وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي تعمل على ترسيخ البحث عن المعلومات التي تتفق مع وجهة نظرنا من خلال الخوارزميات التي تقترح علينا المزيد من هذا المحتوى، مؤكدة أن خطورة هذه الخوارزميات تكمن في أن مستخدميها ليسوا على علم بها، فتعمل فقاعات الترشيح على حجب التفاعل بين الأحزاب مما يجعل كل طرف منحاز بشدة لأفكاره.

واستعان الكاتب "بيل" بالبوت أو الروبوت "برنامج يُجري مهام آلية ومتكررة ومحددة مسبقاً، وهي في العادة تحاكي السلوك البشري أو تحل محله، لكنها تعمل بشكلٍ أسرع بكثير من المستخدمين البشر نظراً لأنها آلية"، مستخدماً تقنية طورها العالم السياسي بابلو باربيرا لقياس الأيديولوجية السياسية لمجموعة كبيرة من قادة الرأي على "تويتر". وقد قام بيل بهذا الإجراء بهدف الحصول على فهم أعمق لكيفية تشكيل وسائل التواصل الاجتماعي للاستقطاب السياسي بشكلٍ عام، إلى جانب تحديد كيف تساهم التوجهات المختلفة للحسابات على منصات التواصل الاجتماعي في الاستقطاب السياسي. 

فأعاد البوتات تغريد 1,293 رسالة من 1001 من قادة الرأي أو المؤسسات الإعلامية أو مجموعات المناصرة أو المنظمات غير الربحية، وتم عرضها على أشخاص من الديمقراطيين والجمهوريين بحيث يتابع أعضاء كل حزب التغريدات الخاصة بالحزب الآخر. وقد توصَّل الكاتب إلى نتيجة تفيد بأن تعرض كل طرف لآراء الطرف الآخر لم يجعلهم أكثر اعتدلاً، بل بالعكس عزز وجهات نظرهم الموجودة مسبقاً، وذلك بسبب تزايد حجم الحقد الحزبي.

منشورات المتطرفين والمعتدلين: 

يرى الكاتب أن الفجوة الواسعة بين منصات التواصل الاجتماعي والحياة الواقعية هي أقوى مصادر الاستقطاب السياسي في عالمنا المعاصر، مشيراً إلى أن هذه المنصات أصبحت واحدة من أهم الأدوات التي نستخدمها لفهم أنفسنا وبعضنا البعض، في ظل العزلة الاجتماعية المتزايدة، حيث تعمل على تقديم نسخ مختلفة من أنفسنا، ومراقبة ما يعتقده الآخرون عنا. 

وتعجب الكاتب من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمرآة عملاقة لقياس مكانتنا داخل المجتمع، في حين أنها تشبه "الموشور" الذي يعمل على تشويه الرؤية؛ ويخلق شكلاً وهمياً من تقدير الذات، وفهم الآخرين. وتبرز خطورة هذا المنشور في عدم إدراك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وجوده.

وتوصل الكاتب من خلال إجراء مقابلات شخصية متعمقة مع المبحوثين، إلى جانب متابعة حساباتهم الشخصية على "تويتر"، إلى أن منشور منصات التواصل الاجتماعي يعمل على دعم المتطرفين الساعين للحصول على مكانة اجتماعية، في حين يخرس المعتدلين الذين لا يجدون جدوى من مناقشة السياسة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويترك شكوكاً دائمة بين الأطراف المتعارضة.

لقد لاحظ الكاتب أن غالبية المتطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي يفتقرون إلى المكانة في حياتهم اليومية غير المتصلة بالإنترنت، إلى جانب حرصهم على التكاتف مع بعضهم لشن هجمات منسقة على الأشخاص الذين لديهم آراء سياسية متعارضة. وهنا تجب الإشارة إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تدفع المتطرفين إلى تبني مواقف متطرفة بشكل متزايد من خلال عمليتين مترابطتين. 

أولا: اعتياد التطرف، فأغلب تفاعلات المتطرفين تتم مع أشخاص يشاركونهم وجهات نظرهم المتطرفة، وبمرور الوقت يخلق هذا النوع من التعرض المتكرر ما أسماه عالم الاجتماع روبرت ميرتون "مغالطة الإجماع"؛ فقد بدأ المتطرفون يعتقدون أن أغلب الناس يشاركونهم آراءهم غير العادية. ثانياً: تشويه الطرف الآخر ليبدو أكثر تطرفاً، حيث إن النقاش يقع مع أكثر أعضاء الحزب المعارض تطرفاً.

على الجانب الآخر، يبتعد المعتدلون عن السياسة على وسائل التواصل الاجتماعي لعدة أسباب مختلفة؛ فغالباً ما يتعرضون للمضايقات من قبل المتطرفين في الحزب الآخر، وآخرون يفضلون عدم الخوض في السياسة حتى لا ينعكس ذلك على وظائفهم، حيث ذكر أحد المبحوثين أن العديد من الأشخاص في العمل تم نبذهم بسبب تعبيرهم عن آرائهم السياسية عبر الإنترنت. 

ومن ثم فإن موشور منصات التواصل الاجتماعي يمارس تأثيراً عميقاً على ظاهرة يسميها علماء الاجتماع "استقطاباً زائفاً"، ويشير هذا المصطلح إلى ميل الناس إلى المبالغة في تقدير مقدار الاختلافات الأيديولوجية بينهم وبين الناس من الأحزاب السياسية الأخرى. وقد أكدت استطلاعات الرأي أن مجموعات صغيرة هي المسؤولة عن معظم المحتوى السياسي على تويتر، وأن العلاقة بين استخدام منصات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الزائف جاءت نتيجة قيام المتطرفين بنشر محتوى أكثر بكثير من المعتدلين.

استراتيجية المواجهة:

تساءل الكاتب بيل، هل كل ما سبق يدفعنا إلى حذف حساباتنا على منصات التواصل الاجتماعي على الفور؟، مجيباً بأن هناك صعوبة في ترك وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بالنسبة لأبناء الجيل زد "Generation Z"، لأن الكثير منهم لم يعرف العالم من دون وسائل التواصل الاجتماعي؛ مما يعني التخلي عن أسلوب حياتهم. ويعتقد الكاتب أن وسائل التواصل الاجتماعي ستظل الساحة العامة للديمقراطية الأمريكية لبعض الوقت في المستقبل.

وقدَّم الكاتب ثلاث استراتيجيات لاختراق موشور وسائل التواصل الاجتماعي، الذي عادة ما يكون غير مرئي، ويعمل على مستوى اللاوعي مما يصعب مهمة اختراقه.

أولاً: رؤية الموشور وفهم كيف يشوه هوياتنا، وكذلك هويات الآخرين، حيث إن غالبية الأشخاص الذين يناقشون السياسة على وسائل التواصل الاجتماعي لديهم آراء متطرفة، وكلما تعرضنا لمثل هؤلاء المتطرفين، كلما زاد خطر الخلط بينهم وبين الأغلبية المعتدلة. وأيضاً تشير الأبحاث إلى أن توعية الناس بالمفاهيم الخاطئة لها تأثير قوي في إزالة الاستقطاب.

 ثانياً: رؤية أنفسنا من خلال الموشور ومراقبة كيف يستمد قوته من سلوكياتنا. على سبيل المثال، يميل المتطرفون إلى التقليل من قوة تطرفهم الأيديولوجي والمبالغة في قوة التطرف لدى الآخرين، في حين يبدو العديد من المعتدلين غير مهتمين بالسياسة.

 ثالثاً وأخيراً، تحطيم الموشور وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال تغيير سلوكياتنا واكتشاف كيفية الانخراط في محادثات أكثر إنتاجية مع الجانب الآخر، هنا أوصى الكاتب قبل الخوض في مناقشة مع الطرف الآخر يجب دراسة ما يهتم به والأهم من ذلك كيف يتحدثون عنه.

منصات أقل استقطاباً:

قام الكاتب وزملاؤه بمحاولة لإزالة الاستقطاب السياسي من وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بإنشاء منصة جديدة تحمل اسم "DiscussIt"، وتم الإعلان على أنه "مكان يناقش فيه الأشخاص مواضيع مختلفة من دون الكشف عن هويتهم". وبذلك تم إنشاء تطبيق للجوال يجمع بين شخصين حتى يتمكنا من مناقشة المشكلات من دون الكشف عن هويتهما، حيث يتم استبدال أسمائهما بأسماء مستعارة. 

أشار الكاتب إلى أن نتائج التجربة جعلته متفائلاً وحذراً بشأن قوة إخفاء الهوية، حيث أظهر الأشخاص الذين استخدموا DiscussIt   مستويات أقل بكثير من الاستقطاب، كما عبّر العديد من الأشخاص عن مواقف سلبية أقل تجاه الطرف الآخر، كما أظهر البعض وجهات نظر معتدلة تجاه قضايا سياسية، وأكد الغالبية العظمى استمتاعهم باستخدام المنصة الجديدة.  

في النهاية، فإن الدراسة المتعمقة التي قام بها كريس بيل، تؤكد أن نقص الأصوات المعتدلة على وسائل التواصل الاجتماعي يساهم في زيادة الاستقطاب السياسي أكثر من كثرة المتطرفين على هذه المنصات. كما أوصى لتجنب عملية استقطاب النخب أن يتم إبراز الأفكار قبل الهوية. وقد أوضح أن تعريض الناس للرسائل من الأطراف الأخرى يزيد من حدة التناقض وحجم الحقد الحزبي. 

المصدر:

Chris Bail, BREAKING THE SOCIAL MEDIA PRISM: How to Make Our Platforms Less Polarizing, PRINCETON UNIVERSITY PRESS, PRINCETON & OXFORD, 2021.