منافذ صعبة:

فرص التمدد التركي في أفغانستان عبر بوابة طالبان

28 August 2021


تبحث تركيا عن موطئ قدم لها في أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول في منتصف أغسطس الجاري، وهي في بحثها عن دور إقليمي في أفغانستان تستنفر كل أوراقها الإقليمية وإمكاناتها الذاتية، مستغلة حاجة طالبان للانفتاح على المجتمع الدولي؛ تطلعاً إلى اعتراف دولي بشرعيتها في الحكم الأفغاني الجديد الذي لم يتشكل بعد.

وعلى الرغم من إعلان وزارة الدفاع التركية، يوم 25 أغسطس 2021، أنها بدأت سحب قواتها من أفغانستان، إلا أن الوزارة تركت الباب مفتوحاً أيضاً لخيار القيام بدور أمني في كابول في مرحلة ما، وأفادت بأن "تركيا ستبقى مع الشعب الأفغاني طالما أراد ذلك". وبعدها بيومين، كشف الرئيس رجب طيب أردوغان، في 27 أغسطس الجاري، أن حركة طالبان عرضت على تركيا تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي في كابول.

وأمام هذا السعي التركي لدور إقليمي مستقبلي في أفغانستان، تتوجه الأنظار إلى الفرص المتاحة أمام أنقرة، وإلى أوراقها لمد العلاقة مع طالبان، وكذلك إلى الصعوبات والعقبات والتحديات التي تعترض هذا المسعى.

أوراق أنقرة:

إن قراءة واقع السياسة التركية المتبعة بعد سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول ومعظم أفغانستان، تضعنا أمام العوامل التالية: 

1- الاستعداد للتعامل مع حكم طالبان: منذ سيطرة حركة طالبان على كابول، تحاول تركيا إرسال رسائل إيجابية للحركة، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى التصريحات الصادرة عن الرئيس رجب طيب أردوغان إزاء طالبان، يوم 18 أغسطس الجاري، وقوله إن تصريحات الحركة معتدلة، مؤكداً أنه منفتح على التعاون معها، كما سبق أن عبّر أردوغان عن استعداده للقاء زعيم طالبان. وانطلاقاً من هذا الخطاب التركي الإيجابي إزاء الحركة الأفغانية، فإن ثمة استعداداً لدى أنقرة للاعتراف بحكم طالبان.    

2- استغلال البُعد الديني: من يدقق في الصحافة التركية وتصريحات بعض المسؤولين الأتراك، سيجد العديد من التصريحات التي تركز على العوامل الثقافية والدينية والحضارية التي تتحدث عن توافقات وتقاطعات بين تركيا وأفغانستان، وذلك في رسائل غزل واضحة لحركة طالبان بأن أنقرة يمكن أن تلعب دوراً في تقديم طالبان للمجتمع الدولي. ولعل هذا ما يمكن فهمه من حديث المتحدث باسم حركة طالبان، سهيل شاهين، في مقابلة مع قناة "خبر" التركية، يوم 16 أغسطس الجاري، وقوله "إن طالبان تتوقع علاقات جيدة مع تركيا لأنها تسعى إلى التكيف مع النظام العالمي، وأن تركيا دولة شقيقة إسلامية عظيمة"، على حد وصفه. 

3- الرهان على الدورين القطري والباكستاني: تدرك تركيا جيداً أن لكل من قطر وباكستان علاقات جيدة مع حركة طالبان، فالأولى كانت عرابة المفاوضات بين الإدارة الأمريكية وطالبان في الدوحة طوال الفترة الماضية، كما أن باكستان كانت بمنزلة الحديقة الخلفية لطالبان ودعمتها عسكرياً ولوجستياً وتنظيمياً منذ هزيمتها على يد القوات الأمريكية قبل عقدين. وهنا فإن أنقرة بحكم علاقتها الجيدة بكل من الدوحة وإسلام آباد، تراهن على هذه العلاقة في فتح منافذ وبوابات مع حركة طالبان في المرحلة المقبلة، وإيجاد ما يمكن تسميته بفضاء إسلامي متوافق مع السياسة التركية الإقليمية.

4- توظيف ورقة اللاجئين الأفغان: تقول التقارير إنه يوجد في تركيا أكثر من 300 ألف لاجئ أفغاني، كما أن التطورات الميدانية الأخيرة في أفغانستان دفعت بموجات جديدة من النازحين واللاجئين الأفغان إلى تركيا عبر الأراضي الإيرانية. وعلى الرغم من أن قضية اللاجئين الأفغان أثارت موجة من السخط في الداخل التركي ضد حكم أردوغان، لاسيما بعد تسريب أنباء عن تفاهم حدث بين أردوغان وبايدن خلال لقائهما في بروكسل؛ إلا أن ثمة من يرى أن أردوغان يريد استغلال هذه القضية، سواء بفتح قنوات اتصال مع حركة طالبان من بوابة بحث مصير هؤلاء اللاجئين في المرحلة المقبلة أو من خلال استغلال وابتزاز الدول الأوروبية للحصول على المزيد من الأموال، كما حصل في قضية اللاجئين السوريين في تركيا.  

5- استغلال حاجة طالبان للانفتاح على الخارج: يعرف الجميع الحاجة الماسة لحركة طالبان إلى اعتراف دولي بها بعد وصولها إلى السلطة بالقوة، ومثل هذا الأمر يزداد أهمية وضرورة مع غياب ثقة المجتمع الدولي في الحركة، خاصة في ظل ممارساتها الدموية خلال المراحل السابقة وعقيدتها المتشددة. وقد تجد تركيا في هذا الواقع الصعب لطالبان مدخلاً للانفتاح عليها، خاصة أن لدى أنقرة تجربة طويلة في دعم التنظيمات المتشددة، كما هي حال الجماعات السورية المسلحة، وكذلك التنظيمات الليبية المسلحة التي تتخذ من طرابلس مقراً لنشاطاتها، وذلك في إطار سياسة تركيا الداعمة لجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية في العالم العربي.


صعوبات ثلاث:

في ظل المنافذ أعلاها، قد تجد تركيا أنها أمام فرصة مهمة لإقامة علاقة مع حركة طالبان، وتحقيق نفوذ ودور في هذه المنطقة الحساسة إقليمياً ودولياً، إلا أن الطريق لتحقيق ما سبق ليس مفروشاً بالورد، حيث إن ثمة عقبات وتحديات تواجه التطلعات التركية في أفغانستان، ولعل أبرزها ما يلي:  

1- رفض طالبان وجود قوات أجنبية على أراضي أفغانستان: أعلنت حركة طالبان مراراً خلال الفترة الماضية رفضها لأي وجود أجنبي على الأراضي الأفغانية في المرحلة المقبلة. وعندما قدمت تركيا في وقت سابق مقترحها للإدارة الأمريكية بتأمين الحماية لمطار حامد كرزاي، كان جواب طالبان بالرفض القاطع، لاسيما أن تركيا دولة في حلف شمال الأطلسي "الناتو". ويبدو أنه أمام هذا الرفض، أعلنت تركيا يوم 25 أغسطس الجاري سحب قواتها من أفغانستان. وجاء في بيان لوزارة الدفاع التركية أن "القوات المسلحة التركية ستعود إلى أرض الوطن معتزة بنجاحها في إتمام المهام الموكلة إليها"، على حد وصفها. 

وحتى مع إعلان الرئيس أردوغان، يوم 27 أغسطس الجاري، أن طالبان عرضت على تركيا تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي في كابول، إلا أن هذا العرض يقتصر على طلب المساعدة الفنية من أنقرة في إدارة المطار، على أن تتولى طالبان مسؤولية أمن المطار. ولكن يبدو أن ذلك المقترح قد لا يلقى قبولاً لدى أنقرة، حيث نقلت وكالة "رويترز"، يوم 27 أغسطس الجاري، عن مسؤولين أتراك أن بلادهم "لن تساعد في إدارة المطار بعد انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي، إلا إذا وافقت طالبان على وجود أمني تركي"، وخاصة بعد الهجوم الإرهابي المزدوج الذي ضرب مطار كابول، يوم 26 أغسطس الجاري، وأدى إلى سقوط أكثر من 170 قتيلاً، من بينهم 13 جنديا أمريكياً، وذلك في أسوأ هجوم تتعرض له القوات الغربية في أفغانستان منذ 2011.

2- مخاطر التحرك خارج حلف "الناتو": عندما دخلت تركيا أفغانستان عسكرياً كان من خلال حلف "الناتو" باعتبارها عضواً في الحلف. وبهذه المشاركة، أمنت تركيا الحماية لقواتها في أفغانستان طوال الفترة الماضية، بينما لو تراجعت أنقرة عن فكرة الانسحاب مثلاً وقررت البقاء عسكرياً في أفغانستان لوحدها، فهذا سيعرضها لمخاطر جسيمة، ليس فقط بسبب قلة الإمكانات، وإنما قد يعرضها الأمر لمواجهة مع حركة طالبان أو غيرها من التنظيمات المتشددة في أفغانستان، والتي من الصعب ضمان أفعالها في المرحلة المقبلة. كذلك فإن المعارضة التركية الداخلية كانت رافضة بقوة لبقاء أي وجود عسكري تركي في أفغانستان أو إرسال قوات جديدة في إطار تفاهمات قد تحدث، ولعل لسان المعارضة التركية يقول لأردوغان، كيف لتركيا أن تقوم بتحقيق الأمن والاستقرار في أفغانستان، فيما فشلت الولايات المتحدة والناتو في تحقيق ذلك، بالرغم من الوجود العسكري هناك لعقدين من الزمن؟ 

3- الحساسية الإقليمية للجوار الأفغاني: من دون شك، أي تفاهمات حول دور تركي مستقبلي في أفغانستان سيخرج الحساسيات الإقليمية إلى سدة المشهد السياسي هناك، لاسيما إيران لأسباب طائفية وجيوسياسية وتنافسية على مناطق الجوار الجغرافي. كذلك الأمر بالنسبة لموسكو، حيث إن التحركات التركية الممتدة من أفغانستان وصولاً إلى أوكرانيا مروراً بمناطق النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، تثير الريبة والحساسية الروسية. كما أن الصين لن تكون مرتاحة لمثل هذا الدور التركي، خاصة أنه يصب في دعم التيارات الإسلامية المتشددة، لاسيما أن مثل هذا الدور قد يقوي ولو بطريقة غير مباشرة من جماعات الإيغور في الصين، فضلاً عن أنه يُصعد النزاع بين الهند وباكستان، في ظل الجماعات الإسلامية الرافضة لحكم الهند في كشمير. 

وعليه، فإن أي تحرك عملي تركي في أفغانستان قد يواجه بتحركات مماثلة من الدول الإقليمية المعنية بالشأن الأفغاني، وهو ما قد يُصعد الحساسية الكامنة بين هذه الدول على الساحة الأفغانية، ويفجرها على شكل نزاعات إقليمية وداخلية متداخلة.


ميدان جديد:

في الواقع، بغض النظر عن المنافذ المحتملة لدور تركي إقليمي في أفغانستان، والعقبات والتحديات التي تعترض هذا الدور، وإعلان أنقرة سحب قواتها من هذا البلد؛ فإن تركيا تجد في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي ميداناً خارجياً جديداً لسياستها، ومنطلقاً لتعزيز أوراقها الإقليمية، والتعويض عن خسارات إقليمية لحقت بها، لاسيما بعد ما جرى في تونس بعد إخراج حركة النهضة من السلطة، وتعثر جهود المصالحة مع مصر لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

ولعل ذلك ما جعل الرئيس أردوغان يؤكد، بالتزامن مع إعلان سحب القوات التركية من كابول، يوم 25 أغسطس الجاري، أن أنقرة لا تزال مهتمة بلعب دور في أفغانستان وترك قنوات الاتصال مفتوحة مع قادة طالبان، ثم تأكيده لاحقاً يوم 27 أغسطس أن بلاده لم تتخذ قراراً بعد بشأن عرض طالبان على تركيا تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي، وتركه الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات لحين عقد جولة أخرى من المحادثات مع طالبان. وفي نفس السياق، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، في تغريدة على تويتر، يوم 25 أغسطس الجاري، إن "تركيا ستواصل المساهمة بكل السُبل في سلام الشعب الأفغاني وازدهاره". وبالتالي فإن مثل هذا الميدان الأفغاني قد يصبح ضرورة داخلية لأردوغان الذي كثيراً ما يلجأ إلى قضايا خارجية؛ بحثاً عن شعبية تتأكل في الداخل على وقع الأزمات المتفاقمة. 

ختاماً، إذا كان المنطق يقول إنه في السياسة ينبغي عدم استبعاد كل الفرضيات، فإنه ينبغي النظر إلى المسعى التركي نحو أفغانستان بدقة، لاسيما أن موقع تركيا الجيوسياسي والحضاري وعضويتها في حلف "الناتو" يرشحها باستمرار للقيام بأدوار إقليمية هنا أو هناك. ولعل ما قد يساعد تركيا على مواصلة سعيها لمثل هذا الدور، هو الحاجة الماسة لحركة طالبان لأي انفتاح دولي عليها في المرحلة المقبلة.